جمعية حلوان (الحزب الوطني): فجر الحركة السياسية الحديثة في مصر
تُعد جمعية حلوان، التي اشتهرت لاحقًا باسم الحزب الوطني، علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث؛ إذ تمثل واحدًا من أوائل الأحزاب السياسية بالمعنى العصري الذي يهدف إلى تنظيم العمل السياسي وبلورة المطالب الوطنية. تأسس هذا الكيان في عام 1879م، ليُشكل رد فعل قوي ومنظم على الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية التي كانت تمر بها البلاد في عهد الخديوي توفيق ورئيس وزرائه رياض باشا. لقد رأى مؤسسو الجمعية أن سياسات الحكومة حينها تتسم بالاستبداد الشديد، وتخضع بشكل متزايد للنفوذ الأجنبي، مما يهدد استقلال البلاد وحقوق مواطنيها.
دوافع التأسيس: صرخة ضد القمع والتغلغل الأجنبي
لم تكن نشأة جمعية حلوان مجرد صدفة، بل كانت نتيجة حتمية لتراكم العديد من العوامل التي أشعلت جذوة الوعي الوطني ودفعت نخبًا من المصريين إلى العمل السياسي المنظم:
- معارضة سياسة رياض باشا القمعية: كان رياض باشا، رئيس وزراء الخديوي توفيق، معروفًا بسياسته الصارمة والقمعية. تميزت فترة حكمه بالاستبداد، وتجاهل حقوق الأفراد، ومحاولة إخماد أي أصوات معارضة. هذا المناخ السياسي الخانق كان دافعًا رئيسيًا لتكوين جسم سياسي يعارض هذه السياسات ويطالب بالحرية والعدالة.
- تزايد التغلغل الأجنبي والسيطرة الاقتصادية: شهدت تلك الفترة تصاعدًا غير مسبوق في نفوذ الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، على الشؤون المصرية. تجلى هذا النفوذ في التدخل المباشر في القرارات الحكومية، وتخصيص موارد الدولة لسداد الديون الأجنبية، والمراقبة الثنائية التي قيدت حرية مصر الاقتصادية. لقد أدرك الوطنيون أن هذا التغلغل يهدد سيادة مصر واستقلالها، مما حتم عليهم الدفاع عن الحقوق الوطنية.
- الدفاع عن الحقوق الوطنية للمصريين: كانت المظالم الواقعة على المصريين تتزايد، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي. جمعية حلوان جاءت لتمثل صوت الشعب، وتسعى لاستعادة كرامة المصريين وحقوقهم، والوقوف في وجه أي محاولة لقمعهم أو التفريط في مكتسباتهم.
مبادئ الحزب: رؤية لمصر المستقلة والديمقراطية
حمل الحزب الوطني في طياته رؤية واضحة لمستقبل مصر، قائمة على مجموعة من المبادئ المحورية التي عكست طموحات الشعب في تلك المرحلة:
- المصرية والهوية العربية والإسلامية: أكد الحزب على الهوية المصرية الأصيلة كأرض وشعب، وربطها بجذورها العربية والإسلامية. كان هذا التأكيد ضروريًا في مواجهة التحديات الأغلينفصالية التي قد تنجم عن التغلغل الأجنبي ومحاولات طمس الهوية.
- الاستقلال التام عن التدخل الأجنبي: كان المطلب الأبرز للحزب هو إنهاء كافة أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون المصرية، وتحقيق الاستقلال التام للبلاد. اعتبر الحزب أن السيادة الوطنية هي أساس أي تقدم أو إصلاح.
- إقامة نظام حكم ديمقراطي: دعا الحزب إلى بناء نظام حكم يقوم على مبادئ الديمقراطية، حيث يشارك الشعب في صنع القرار، وتكون هناك رقابة على السلطة، وتُحترم الحريات العامة. كان هذا المطلب ثوريًا في سياق حكم استبدادي.
- الإصلاحات الشاملة (السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية): لم يقتصر طموح الحزب على الجانب السياسي، بل امتد ليشمل دعوات لإصلاحات شاملة. على الصعيد الاقتصادي، سعى الحزب إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمصريين وتخفيف الأعباء المالية. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد كانت هناك مطالبات بتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين جميع فئات المجتمع.
نشاطات ومطالب الحزب: تفعيل الوعي الوطني
لتحقيق أهدافه، تبنى الحزب الوطني مجموعة من الأنشطة التي هدفت إلى نشر الوعي، حشد التأييد، والضغط على الحكومة:
- نشر البيانات السياسية والمقالات: اعتمد الحزب على إصدار البيانات والمقالات التي توضح موقفه من القضايا الوطنية، وتنتقد سياسات الحكومة، وتدعو إلى الإصلاح. كان هذا التكتيك فعالاً في إيصال صوت الحزب إلى قطاعات أوسع من الجمهور.
- تنظيم التظاهرات والاحتجاجات: نظم الحزب بعض التظاهرات السلمية التي كانت تهدف إلى التعبير عن رفض سياسات الحكومة والمطالبة بالتغيير. كانت هذه التظاهرات وسيلة للضغط الشعبي وإظهار مدى التأييد لمطالب الحزب.
- المطالبة بالإصلاحات الحكومية: وجه الحزب مطالبات مباشرة للحكومة بتطبيق إصلاحات جوهرية في مختلف القطاعات، مؤكدًا على ضرورة الاستجابة لتطلعات الشعب.
في منتصف عام 1881م، بلور الحزب الوطني مجموعة محددة من المطالب التي عكست جوهر رؤيته للإصلاح ووضع حد للتدخل الأجنبي:
- استعادة أملاك الخديوي وأملاك الأسرة المصادرة: طالب الحزب بإعادة جميع الأراضي والممتلكات التي كانت تخص الخديوي وأسرته والتي صودرت من قبل الحكومة لسداد الديون. رأى الحزب أن هذه المصادرة غير عادلة وتزيد من الأعباء على كاهل المصريين.
- إلغاء تخصيص إيراد السكك الحديدية لسداد الديون: كانت إيرادات السكك الحديدية، وهي من أهم مصادر الدخل القومي، مخصصة بالكامل لسداد الديون الأجنبية. طالب الحزب بإلغاء هذا التخصيص لتمكين الحكومة من استخدام هذه الإيرادات لتنمية البلاد وخدمة مواطنيها.
- توحيد جميع الديون المصرية في دين واحد بفائدة 4%: كانت الديون المصرية مجزأة ومتعددة، وبعضها بفوائد باهظة. طالب الحزب بتوحيد هذه الديون في دين واحد بسعر فائدة معقول (4%) لتخفيف العبء المالي على الخزانة المصرية.
- إنشاء إدارة مراقبة وطنية مؤقتة بدلاً من المراقبة الثنائية الأجنبية: كان التدخل الأجنبي يتجسد بشكل واضح في نظام المراقبة الثنائية (البريطانية والفرنسية) على المالية المصرية. طالب الحزب باستبدال هذه المراقبة الأجنبية بإدارة مراقبة وطنية مؤقتة، وهو ما يعكس رغبته في استعادة السيادة الوطنية على الشؤون المالية للبلاد.
تأثير الحزب الوطني: بذور الديمقراطية والوعي
على الرغم من قصر عمره، لعب الحزب الوطني دورًا بالغ الأهمية في تطور الحركة الوطنية المصرية، وترك بصمات واضحة على الوعي السياسي للبلاد:
- الدور المحوري في تطور الحركة الوطنية: كان الحزب الوطني من أوائل الكيانات التي نظمت العمل الوطني ورفعت شعار المطالبة بالاستقلال والإصلاح، مما مهد الطريق أمام حركات وطنية لاحقة.
- نشر الأفكار الديمقراطية والليبرالية: ساهم الحزب في تعريف المصريين بمفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، وهو ما كان جديدًا نسبيًا في تلك الفترة.
- إلهام تأسيس أحزاب سياسية أخرى: بفضل تجربة الحزب الوطني، ألهمت فكرة التنظيم السياسي منظمي الأحزاب الأخرى التي ظهرت لاحقًا في مصر، حيث أدركوا أهمية العمل الجماعي المنظم لتحقيق الأهداف الوطنية.
نهاية الحزب الوطني: تضحية في سبيل القضية
مثل معظم الحركات الوطنية في بداياتها، واجه الحزب الوطني تحديات جسيمة ومضايقات شديدة من قبل الحكومة:
- المضايقات الحكومية: تعرض أعضاء الحزب لضغوط ومضايقات مستمرة من قبل السلطات، في محاولة لإخماد صوت المعارضة.
- الاعتقال والنفي: تصاعدت حملة القمع ضد الحزب، وتم القبض على عدد من أعضائه البارزين ونفيهم خارج البلاد، في محاولة لكسر شوكة الحزب وإضعاف قيادته.
- الحل القسري في عام 1882: اضطرت هذه الضغوط الشديدة الحزب إلى حل نفسه في عام 1882، منهيًا بذلك وجوده الرسمي.
خاتمة: إرث لا يُمحى
على الرغم من نهايته القسرية وقصر فترة نشاطه، فإن جمعية حلوان (الحزب الوطني) لم تكن مجرد صفحة عابرة في تاريخ مصر. لقد لعب هذا الحزب دورًا محوريًا في إيقاظ الوعي الوطني، وغرس بذور المطالب الديمقراطية، ووضع أسس العمل السياسي المنظم. شكلت مبادئه ومطالبه نقطة انطلاق للحركات الوطنية اللاحقة، وأثبتت أن الشعب المصري قادر على تنظيم صفوفه للمطالبة بحقوقه واستقلاله في وجه الاستبداد والتدخل الأجنبي. لقد ترك الحزب الوطني إرثًا لا يُمحى، يُذكر كرمز للصمود والريادة في مسيرة مصر نحو الاستقلال والحرية.