المعيقات الديداكتيكية أو التربوية لتنشيط الحياة المدرسية.. إكساب المتعلمين المعارف والأفكار والقيم دون تنشيطهم فنيا أو رياضيا أو اجتماعيا

تنص البرامج والمناهج على إكساب المتعلمين المعارف والأفكار والقيم دون تنشيطهم فنيا أو رياضيا أو اجتماعيا.

وما كثرة الساعات التي تقيدهم في القسم إلا دليل على الجانب التلقيني وغياب الجانب الفني التنشيطي.

وإذا تأملنا النصوص التي توجه إلى التلاميذ في التعليم الثانوي التأهيلي سنجدها نصوصا معرفية تخاطب العقل والمنطق والذاكرة، وحتى وإن وجدت نصوص تنشيطية كالنصوص المسرحية.

فهي موجهة للقراءة المعرفية، دون تمثيلها أو مسرحتها لانعدام المؤطرين المسرحيين وقاعات العرض بالمؤسسات التعليمية.

وما يعزز هذا القول، عدم تنصيص مقدمات الكتب المدرسية على الكفايات التنشيطية، حتى وإن وجدت.

فهي إشارات عابرة لاتدخل في صميم الممارسة الديداكتيكية، مما يدل على الطابع المعرفي التلقيني للمقررات والحصص الدراسية.

وكل ما تعلق بالممارسة الفنية أو الوجدانية أو الرياضية أو أي نشاط اجتماعي آخر يعد فعلا زائدا وهامشيا لاقيمة له.

الأنشطة في المؤسسات التعليمية.. توجيهات واقتراحات

لكي تحقق قفزة نوعية في السنوات المقبلة، لا بد للأنشطة الاجتماعية التربوية والثقافية من الخضوع إلى استراتيجية موحدة تتبنى رسم مراحلها كل مكونات الإدارة التربوية، وعلى رأسها مدير المؤسسة.

ويسهر على تتبعها و تنفيذها كل الذين يطمحون إلى تنميتها ولا سيما حراس الخارجية والداخلية.

فعلى هؤلاء التجند والتعبئة والالتزام بالمرجعيات التنظيمية لهذه الأنشطة، والوقوف على إشكاليتها، ووضعيتها الحالية، والأهداف المرسومة لها و الهياكل المخصصة لها.

كما عليهم رصد مختلف الصعوبات الطارئة و العمل على إيجاد أفضل السبل لمواجهتها و التصدي لها بكل عزم و قوة و تفاؤل، واللجوء إلى كل الوسائل الرامية إلى تنمية النشاط التربوي داخل المؤسسة وخارجها كالشراكة الفاعلة مع جمعيات آباء وأولياء التلاميذ التي تربطها بالمؤسسة علاقة عضوية ومختلف القطاعات الحكومية والمنظمات والهيآت غير الحكومية والجمعيات الثقافية والفنية ذات الاهتمام المشترك التي يمكن أن توفر الدعم الكافي لإنجاح مشاريع المؤسسة التربوية وتحقيق إنجازات هادفة على أرض الواقع.

كما أن إقامة التوأمة بين المؤسسات التعليمية على الصعيد الوطني ومثيلاتها على الصعيد الدولي، والمشاركة في المباريات المحلية والوطنية والدولية في مواضيع أدبية وفنية وعلمية لتعتبر من الوسائل الناجعة لتفعيل الهياكل المشرفة على مجالات التنشيط التربوي وتحفيز التلاميذ لتحقيق الأهداف السامية والتربوية التي ترمي إليها الوزارة من خلال ممارسة الأنشطة الاجتماعية التربوية والثقافية والفنية على كل الأصعدة .

المعيقات الاجتماعية لتنشيط الحياة المدرسية. الأسرة والتنشيط.. بالنسبة لكثير من الآباء والأمهات مضيعة للوقت ولا يمارس إلا على حساب الإلمام بالمقرر الدراسي

 إن مشاركة الأطفال والشباب في عملية التنشيط المدرسي غالبا ما يحتاج إلى موافقة الأسرة.

ومن دون هذه الموافقة يستحيل عليهم المشاركة في الأنشطة خاصة تلك التي تتطلب التغيب عن الأسرة أو التأخر.

وتتخوف الأسرة من أن تؤدي مشاركة أبنائها في برامج تنشيطية إلى احتكاكهم بأشخاص منحرفين.

ثم إن التنشيط بالنسبة لكثير من الآباء والأمهات مضيعة للوقت، ولا يمارس إلا على حساب الإلمام بالمقرر الدراسي.

هذه هي أهم المعيقات التي تحول دون تفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها. ولقد تراجعت المؤسسات التعليمية عن التنشيط بكل أنواعه داخل الفصل وخارجه.

وأصبح الاهتمام منصبا أكثر على التلقين وحشو رؤوس المتعلمين بالمعارف الجاهزة في أسرع وقت ممكن للتمكن من إنهاء المقرر واجتياز الفروض والامتحانات.

ومن ثم، أصبح الحديث اليوم عن الجودة التربوية خطابا طوباويا مثاليا لا يمت بأي صلة مع واقع المؤسسة المغربية التي أوشكت على الانهيار والتدني والانحطاط ، وظل مبدأ الجودة شعارا سياسيا موسميا وقرارا إيديولوجيا وديماغوجيا لا رصيد له في الواقع المغربي.

وعليه، فلقد حل التلقين محل التنشيط، لذا جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين ليعالج هذه الظاهرة التربوية الخطيرة، ليدعو على التنشيط الفعال، وإلى الحرية والتجديد والابتكار، تحت شعار "من أجل مدرسة فعالة ومتقدمة ومبدعة"، كما ورد في الفصل (131) من الميثاق: "تعد التربية والرياضية والأنشطة المدرسية الموازية مجالا حيويا وإلزاميا في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وتشتمل على دراسات وأنشطة تساهم في النمو الجسمي والنفسي والتفتح الثقافي والفكري للمتعلم".

وعلى الرغم من هذه الدعوة البيداغوجية الجديدة، إلا أن نظرية الحياة المدرسية لم تطبق إلى حد الآن، إذ أصبحت الدعوة حبرا على ورق وحلما بعيد المنال، وتصورا نظريا مجردا بعيدا عن التطبيق الميداني والتفعيل الحقيقي بسبب نقص الإمكانيات المادية والبشرية، وانعدام الرغبة الصادقة في ترجمة التصور إلى أعمال إجرائية ملموسة.

كما أن الجودة التربوية أصبحت اليوم حديثا يوتوبيا وخطابا طوباويا مثاليا لا يمت بأي صلة إلى واقع المؤسسة المغربية التي أوشكت على الانهيار والتدني والانحطاط، وظل مبدأ الجودة شعارا سياسيا موسميا وقرارا إيديولوجيا وديماغوجيا لا رصيد له في الواقع المغربي.

دور الأسرة وجمعية الآباء وأولياء التلاميذ في تفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها.. مراقبة سلوكيات المتعلمين ونتائجهم وإبداء الملاحظات حول المناهج والبرامج وتتبع سير المؤسسة وتقديم المساعدات للتلاميذ المتعثرين في دراستهم

تسعى المؤسسة المغربية الجديدة إلى أن تكون منفتحة على محيطها بفضل المنهج التربوي الحديث الذي يستحضر المؤسسة داخل المجتمع والمجتمع في قلب المؤسسة.
إذ للمجتمع الحق في الاستفادة من المؤسسة، ومن واجبه المساهمة في الرفع من قيمتها.

وفي هذا الصدد يمكن تقسيم شركاء المؤسسة إلى قسمين: شركاء داخليين كالأسرة وجمعية الآباء وأولياء التلاميذ وشركاء خارجيين كالجماعة المحلية والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وغيرهم. الأسرة وجمعية الآباء وأولياء التلاميذ:

يرى دليل الحياة المدرسية أن الأسرة تتدخل" بصفتها معنية بتتبع المسار الدراسي لأولادها ويتم ذلك بكيفية مباشرة، وفي تكامل وانسجام في المدرسة...
أما جمعية آباء وأولياء التلاميذ فتعتبر هيئة مساهمة في تنظيم الحياة المدرسية وتنشيطها.

لقد أشارت المذكرة الوزارية رقم 28 الصادرة بتاريخ شعبان 1412 الموافق لــ18 فبراير 1992 إلى ضرورة التعاون بين جمعية آباء وأولياء التلاميذ والمؤسسة التعليمية، لأن هذا التعاون ضروري لسعادة التلميذ وخدمة المؤسسة بتفعيلها ماديا ومعنويا، وتحقيق التكامل المنشود بين المؤسسة وهذه الجمعيات.

ويتمثل التعاون في المشاركة الفعلية لأولياء التلاميذ في تدبير المؤسسة وصيانتها وتمويلها والحضور عن كثب للاطلاع على مايقوم به فلذات أكبادهم من الأنشطة التربوية التثقيفية، ويتطلب هذا التعاون كسر الحواجز الإدارية والاجتماعية والنفسية بين المؤسسة وجمعيات الآباء.

ولابد أن تشارك هذه الجمعيات فعليا في مجلس التدبير قصد مراقبة سلوكيات المتعلمين ونتائجهم، وإبداء الملاحظات حول المناهج والبرامج وتتبع سير المؤسسة وتقديم المساعدات للتلاميذ المتعثرين في دراستهم، وتتبع حالتهم الصحية وتغيباتهم، علاوة على تمثيلهم مركزيا ولا مركزيا، والدفاع عن رغباتهم وطلباتهم المشروعة، والمشاركة في بناء مدرسة سعيدة قوامها الأمل والمواطنة والديمقراطية والإبداع والتجديد التربوي.

ولابد من استحضار أولياء التلاميذ وإشراكهم في اتخاذ القرارات الخاصة بالمؤسسة سواء التربوية منها أم المادية وأي إقصاء لهم أو تهميش سينعكس سلبا على المردودية التربوية.

فعمل المدرس يبقى قاصرا في القسم مادام لم يكمل في المنزل من قبل المتعلمين تحت مراقبة أوليائهم لتحفيزهم وتشجيعهم.

ومن خلال هذا يتبين لنا أن دور الأسرة وجمعية الآباء دور مهم وفعال في تفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها.

الفرق بين سوسيولوجيا الرواية وسوسيولوجيا النص الروائي.. منهج نقدي في الرواية يحصر اهتمامه في البحث عن سببية الظاهرة الروائية وامتلاك الوسائل والتقنيات لتحليل الأعمال الأدبية من الداخل

الفرق بين (سوسيولوجيا الرواية) و(سوسيولوجيا النص الروائي) هو أن الأولى تدل على منهج نقدي في الرواية يحصر اهتمامه في البحث عن سببية الظاهرة الروائية، ويركز على الجوانب المفسرة لحدوث النص الروائي، مما يجعل الحديث عن العناصر الخارجة بالنسبة للنص يحتل مكان الصدارة في التحليل.

بينما تعتقد (سوسيولوجيا النص الأدبي) أنها تمتلك الوسائل والتقنيات لتحليل الأعمال الأدبية من الداخل، أي تحليل المستوى التركيبي، والكشف من خلاله عن العلاقات الاجتماعية، في محاولة لإثبات التماثل الموجود بين البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة في فترة تاريخية من جهة، والبنية اللسانية المتحققة في النص الروائي المدروس من جهة ثانية.

الرواية التاريخية عند جورج لوكاش.. الفعل المتبادل بين التطور الاقتصادي والاجتماعي وبين مفهوم العالم والشكل الفني الذي يُشتق منه

وضع جورج لوكاش كتابه (الرواية التاريخية) عام 1937 وفيه يعلن عن الفعل المتبادل بين التطور الاقتصادي والاجتماعي وبين مفهوم العالم والشكل الفني الذي يُشتق منه.

والكتاب مساهمة أولية إلى علم الجمال الماركسي، أو إلى الشكل المادي لدراسة التاريخ الأدبي: فروايات والتر سكوت مثلاً الذي يصور في أبطاله مختلف القوى الاجتماعية؛ تمثّل الطبقة الوسطى البريطانية، والصدامات بين الأطراف المتناقضة.

وفي قلب الحبكة يساعد البطل في إقامة علاقات إنسانية بين القوى الاجتماعية المتعارضة.

وفي أدب (سكوت) يتعرف لوكاش على مجمل الحياة الوطنية أو القومية من خلال "الأسفل" الذي يُعتبر أساساً مادياً وتفسيراً فنياً لما يحصل في "الأعلى"، فقد كان (سكوت) مدافعاً عن "التقدم"، لأنه قدم حياة شاعرية لقوى تاريخية: فطبقات عليا هبطت (الارستقراطية، والبورجوازية الكبيرة)، وطبقات دنيا صعدت (البرجوازية الوسطى).

بانوراما المجتمعات التاريخية عند جورج لوكاش.. شخصيات ديكنز السطحية البورجوازية أنماط نموذجية لبشرية مصالحة للمجتمع البورجوازي

رسم لوكاش (بانوراما) للمجتمعات التاريخية، منذ اليونان التي عاشت حضارة الروح في تناغم مع عالم مغلق وكامل، وحيث ارتبطت الأشكال النموذجية ببنية العالم، وازدهرت الملحمة والمأساة والفلسفة والبطل التراجيدي. وفي مسيحية القرون الوسطى حلّت الرواية محل الملحمة عندما أصبح معنى الحياة إشكالياً، وأعقب النثرُ الروائي  الشعرّ الملحمي، واستقل الشعر بالغنائية، وتجرّدت الرواية من الآلهة.

ومثلّت شخصيات ديكنز السطحية البورجوازية أنماطاً نموذجية لبشرية مصالحة للمجتمع البورجوازي.

ووسمت رواية القرن التاسع عشر بطلها بأنه يرفض تحقيق ذاته في العالم، فيعتقد باستحالة الصراع مع العالم الخارجي. وهذه هي روايات الخيبة.

وينتهي كتاب (نظرية الرواية) عند دستويفسكي روائي "العالم الجديد".

نشأة الرواية الغربية والعربية.. الرواية كانت نوعا مزيفا وصالحا للرعاع فحسب وغير جديرة بالاهتمام

كان الروائيون الغربيون يرفضون تصنيف مؤلفاتهم ضمن النوع الروائي كما فعل ديفو مثلاً في مؤلفه (روبنسون كروزو) باعتبار الرواية كانت نوعاً مزيفاً وصالحاً للرعاع فحسب، وأنها غير جديرة بالاهتمام، على الرغم من أنهم كانوا إذا خلوا لأنفسهم في حجراتهم مدّوا أيديهم إلى الرواية لقراءتها بشغف واهتمام.

وهذه الوضعية الإشكالية التي عاشتها الرواية الغربية في مطلع نشوئها تكررت في الرواية العربية في بداياتها، فقد تحرّج محمد حسين هيكل من ذكر اسمه على غلاف روايته (زينب)، فنشرها باسم (مصري فلاح).

كما كانت الصحف والمجلات تغلق أبوابها في وجه الرواية، وتنظر إليها "النخبة" نظرة ازدراء باعتبارها وليداً جديداً يتجاوز الموروث المسيطر في (المقامات) و (الأخبار) و (القصص الشعبي).

مشاكل مفهوم الحكي عند جيرار جينيت.. السرديات تسهم في حل مشاكل الخطاب الذي يمكن دراسته وتحليله نصيّاً بسبب علاقته بالقصة التي يحكيها وبالسرد الذي يرسله

يبدأ (جيرار جينيت) في كتابه (خطاب الحكي) الذي يتضمّنه كتابه (أشكال 3) بطرح المشاكل التي يثيرها مفهوم الحكي، ويرى أن على السرديات أن تسهم في حل هذه المشاكل.

ويلاحظ أن (الحكي) عند المنظّرين يعني تتابع مجموعة من الأحداث الواقعية أو المتخيلة، وهي التي تكوّن موضوع الخطاب.

وأن تحليل الحكي يعني دراسة مجموعة الأحداث منظوراً إليها في ذاتها.

ولتجنب الإبهام أو الغموض سعى (جينيت) إلى التوضيح التالي:
1- (القصة) هي المدلول، أو المضمون السردي.
2- (الحكي) هو الدال أو الملفوظ أو الخطاب أو النص السردي.
3- (السرد) هو الفعل السردي.

وعلى غرار تودوروف يرى جينيت أن الحكي (بمعنى الخطاب) هو وحده الذي يمكننا دراسته وتحليله نصيّاً، بسبب علاقته بالقصة التي يحكيها، وبالسرد الذي يرسله.

مستويات الجملة والعلاقات في نظرية اللسانيات.. صوتية ونحوية وتركييبة. التوزيعية والإدماجية

إذا كانت اللسانيات تصف الجملة على عدة مستويات (صوتية، ونحوية، وتركييبة)، وتتيح نظرية اللسانيات النظر إلى نمطين من العلاقات (التوزيعية، والإدماجية) فإن بارت حاول القيام بإنجاز مثل هذا العمل المتعلق بالحكي.

وهذا الإنجاز (المقترح) يميز بين ثلاثة مستويات، هي: الوظائف، والأحداث، والسرد.

(فمستوى الوظائف) يستعمله بارت بمعنى بروب وبريمون، و (مستوى الأحداث) بمعنى غريماس للأعمال والعوامل، و (مستوى السرد) يأخذ من تودوروف.

جهود الشكلانيين الروس حول الأنساق البنيوية في العمل الحكائي.. إقامة تماثل بين أنساق تركيب المبنى الحكائي وبين الأنساق الأسلوبية في الاستعمال الجاري للغة

استعرض الباحث سعيد يقطين أعمال الشكلانيين الروس، وعلى الخصوص إيخنباوم، وجهودهم التي انصبّت على الأنساق البنيوية في العمل الحكائي، انطلاقاً من إقامة تماثل بين أنساق تركيب المبنى الحكائي وبين الأنساق الأسلوبية في الاستعمال الجاري للغة.

وإذا كانت الدراسات الأدبية القديمة قد ركزت كل اهتمامها على المادة المحكية (أو المضمون) فإن الشكلانيين، وخصوصاً توماشفسكي، قد ميّزوا بين (المتن) الحكائي و (المبنى) الحكائي: (نسمّي متناً حكائياً مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل... وفي مقابل المتن الحكائي يوجد المبنى الحكائي الذي يتألف من نفس الأحداث، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعيّنها لنا).

الأساليب البنيوية في التحليل.. تحديد موضوع البحث اللساني بجعله يتعدّى الجملة إلى الخطاب وتقديمه كمتتالية من مركبات اسمية وفعلية ذات علاقات معينة

تعددت الأساليب البنيوية في التحليل: فجعل بعضهم (الجملة) منطق التحليل، فقال بلومفيلد (الجملة هي أكبر وحدة قابلة للوصف النحوي) وهي تتضمن وحدات صغرى هي (المورفيمات).
لكن آخرين اعتبروا (الخطاب) ككل هو مجال التحليل.

ويعتبر هاريس أول لساني حاول تحديد موضوع البحث اللساني بجعله يتعدّى الجملة إلى الخطاب.

وباعتباره توزيعياً فإنه سعى إلى تحليل الخطاب بنفس التصور والأدوات التي يحلل بها الجملة، وعرّف الخطاب بأنه (ملفوظ طويل، أو متتالية من الجمل تكوّن مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر بواسطة المنهجية التوزيعية، وبشكل يجعلنا نظل في مجال لساني محض).

إن تفكيك كل جملة إلى بنياتها الأولية يصبح بلا أهمية في تحليل الخطاب، لأنه بدل العمل على إبراز البنية الخاصة لجمل نص ما في تسلسلها، يقف التحليل عند حدّ تقديمه الخطاب كمتتالية من مركبات اسمية وفعلية ذات علاقات معينة، مما جعل ناقداً فرنسياً كـ (بنفنست) يلجأ إلى تعريف الخطاب من منظور مختلف، إذ رأى أن (الجملة) هي أصغر وحدة في الخطاب، وأن (الخطاب) (ملفوظ منظور إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل).

الراوي الشاهد في القصة.. العين التي تكتفي بنقل المرئي في حدود ما يسمح به السمع وتقنية آلية يقوم بعملية (المونتاج) أو تركيب الصور

الراوي الشاهد، وهو راوٍ حاضر، لكنه لا يتدخل. إنه يروي من خارج، على مسافة بينه وبين مَنْ يروي عنه.

إنه بمثابة العين التي تكتفي بنقل المرئي في حدود ما يسمح به السمع.
إنه تقنية آلية يقوم بعملية (المونتاج) أو تركيب الصور.

ومثل هذا العمل لا يكشف عن حضور الراوي، لأنه غائب في بنية الشكل، كالمخرج الذي لا نراه إلا في أثره، وهذا يتطلب مهارة عالية من الروائي، وإلا سقط في شكلية سطحية. ومثاله: (على الرصيف المقابل يمشين كما لو كن آخر القافلة..).

الراوي الكاتب الذي يروي من خارج القصة.. غير حاضر ولا كلي المعرفة يبحث عن وسائل تخوّله رواية ما يروي دون تدخل منه

الكاتب الذي يروي من خارج، فهو غير حاضر، ولا كلّي المعرفة. ولهذا نراه يبحث عن وسائل تخوّله رواية ما يروي، دون تدخل منه.

والروائي هنا يروي على مسافة بما يروي، فيبقى خارج ما يروي، إذ أن ما يرويه من أحداث لم يقع في حضوره، فهو ليس شاهداً على ما يروي، وإنما هو يروي ما يرويه الآخرون وما سمعه منهم.

وهو يتحاشى تحليل ظاهرات التعبير النفسية التي تبديها بعض الشخصيات، أو التي ترتسم على الوجه، أو تظهر في السلوك، فلا يدّعي النفاذ إلى دواخل النفوس ومثاله (قال الكثيرون إنها كانت تهزج وتمرح، وكانت الدموع تتساقط في عينيها).

الرواية والملحمة.. الرواية المثالية المجردة. الرواية السيكولوجية. الرواية التربوية

(الرواية) هي الشكل الديالكتيكي للملحمة، وهي بين أدب الطفولة والشباب الذي هو (الملحمة)، وأدب الوعي والموت الذي هو (التراجيديا)، تقوم الرواية كشكل أدبي للنضج الرجولي.
فموقع الرواية هو بين الملحمة والتراجيديا.

ويقدم الشكل الروائي بوصفه بنية ديالكتيكية تتميز بأن لا شيء فيها يتصف بالثبات، فلا البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم مطلقة يظل مستقراً، ولا العالم الخارجي يحافظ على طابعه الإيجابي بما يكفي ليجعل بحث البطل أمراً ممكناً.

وقد ميّز (لوكاش) بين ثلاثة أنواع من الروايات الأوربية في القرن التاسع عشر هي:

1- الرواية المثالية المجردة:
وتتميز بحيوية البطل ووعيه المحدود بالقياس إلى تعقد العالم. ومثالها: دون كيشوت، والأحمر والأسود.

2- الرواية السيكولوجية:
وتتجه نحو تحليل الحياة الداخلية للأبطال، وتتميز بسلبية بطلها واتساع وعيه بحيث لا يُرضيه ما يقدمه له العالم التقليدي. ومثالها: التربية العاطفية.

3- الرواية التربوية:
وهي التي تنتهي نهاية مقصودة.
وعلى الرغم من أنها تعتبر عدولاً عن البحث الإشكالي، فإنها ليست قبولاً للعالم التقليدي.

الذات الكاتبة في الرواية واللا-اندماج الماقبل- سردي.. تسخير الجهات السردية والخطابية في صوغ الخطاب الروائي

بين الثقافي والطبيعي يتصعد الصراع على جميع المستويات فالفرد (الذات) يكون مجبرا على جميع المستويات (سواء أكانت اقتصادية، سياسية، ثقافية...) مدعوا أو مجبرا على ترهين وتحقيق مايسمح التفكير فيه، أي ترهين الإمكانات المسموح التفكير بها، وترك ما لايسمح التفكير فيه وكل خرق Transgression لما يجب فعله يجازى Sanction بالعقاب في هذا الإطار نستحضر أطروحة الدكتور عبد الفتاح كيليطو حول المقامات.

إن كليطو -وبطرحه لمفهوم النص الثقافي الذي يستعيره من حقل السيميائيات الثقافية الروسية، سعى إلى إبراز دور هذا النص في تحديد الإمكانات التي ينبغي التفكير فيها وتلك التي لاينبغي الاقتراب منها.

من هذا المنطلق نفهم موقف ابن الخشاب كنموذج للمثقف التقليدي اتجاه مقامات الحريري، ذلك أن إبداع مخلوقات أو كائنات من ورق على حد تعبير رولان بارت أثار غيض ابن الخشاب، نظرا إلى الخلفية التيولوجية التي كان وراءها الإسلام (الأرتدوكسي) الذي حرم وعلى غرار-المسرح- التخييل لما في ذلك من خلقCréation، لكائنات الله وحده هو الخالق، طبعا وهي رؤية سترتها السلفية الحديثة عندما، وتحت ظروف تاريخية، وقفت موقفا معاديا لبروز الرواية كجنس أدبي في المجتمعات العربية.

في هذا الإطار يمكن القول إن الصراع كان قائما بين الحريري كمثقف والشفرة الثقافية التي كانت تحرم إبداع قصص سردية يتحول داخلها المؤلف إلى "إله" يقلم أظافره في الخفاء ويعاين الأحداث عن كتب".

إن الإشارة إلى الذات الكاتبة (المتلفظ) باعتبارها محفل الإنتاج السيميائية معناه الإشارة إلى ذات مفكرة ترتبط بناء على مفهوم اللااندماج Débrayage بما يسميه فلاد ميركريزنسكي باللا-اندماج الماقبل-سردي حيث يتموقع المؤلف كذات كاتبة قبل أن يختار بنياته السردية والخطابية.

فإذا كان تأسيس الراوي أو الرواة ينهض على ما يسميه كريماص باللا-اندماج العاملي فإن تأسيس المؤلف كذات خارج-نصية الماقبل–اللا-اندماج العاملي Le pré-débrayage actantiel باعتباره محفلا يحيل إلى الفضاء المعرفي الذي ينكتب داخله المنظور القيمي Perspective axéologie للمؤلف، قبل أن يختار البنيات السردية التي تشكل مرتكزا لفعله السردي.

فبين المؤلف وأشكاله السردية هناك رابطة الضرورة الجدلية والتي يمكن إماطة اللئام عنها شريطة أن تفهمها-أي الرابطة- في علاقتها برؤية عالم المؤلف والميتا-نصية.

إن الميتا-نص، كما يرى كريزنسكي، هو المكان الفسيح الذي تتشكل داخله الميتا-لغة، إذ يثبت تطور الروايات المعاصرة بأن نمو العديد من الروايات يصاحب بنمو مواز لتعليقات أو ميتا-نصات الروائيين أنفسهم ليس فقط حول نصوصهم ولكن أيضا حول كل معضلة تتصل بتشكيل قيمهم الاستيطيقية الاجتماعية والفلسفية.

وهكذا فإن انساق الرواة الظاهرة والمشكلة نصيا تحيل إلى أنساق المؤلفين القيمية: فإلى جانب نسق دوستويفسكي هناك نسق توماس مان، وفلوبير، وبروخ، وميزيل، وجويس، وكافكا، وعليه فإن نسق المؤلف يمكن أن يصاغ، ويتشكل في محاور استبدالية Paradigmatique ومقولات وجهات سردية وبنيات عاملية.

يتحول المؤلف إلى راوسيميائي يسخر Manipulation الجهات السردية والخطابية التي يتوسل بها في صوغ خطابه مخضعا إياها لاستثمار ذاتي investissement subjectif، فمن خلال تسخير ميتا-لغة الرواية (شخوص، زمان، مكان، الفصول، الفقرات، الرؤية السردية...) يستثمر الروائي المؤلف بإشكاليته الذاتية، ويصبح كل بحث عن خصوصية النص، بحث عن التجليات الذاتية للمؤلف داخل النص الذي يصوغه من خلال اشتغاله على مستويات النص الروائي متحولا بذلك إلى ذكاء مركزي intelligence centrale.

تبدو الذات المتلفظة، إذن، نقطة تمفصل بين سيميائيات العالم وسيميائيات تنتجها داخل الملفوظ-الخطاب في مواجهة الأنت.
وبما أن الذات الخطابية تشكل خطابها انطلاقا مما عليه نفسيا واجتماعيا، وانطلاقا من رؤاها الدالة للعالم الطبيعي، فإن هذا الخطاب يسعى بدوره نحو تحوير "الواقع" و(السياق الإثنوغرافي) الذي يجد فيه المتلفظ إطار تحققه.

إن كلود كلام وهو يشير إلى أن الذات الخطابية تشكل خطابها انطلاقا مما عليه نفسيا واجتماعيا، يعرف تمام المعرفة، بأن بنية هذه الذات العميقة لايمكن تجاهلها في قراءة النص الذي تنتجه.

أولا: لأن هذه الذات هي "كيان" يخضع لمواصفات مايسميه هرمان بروخ أسلوب العصر Le style de l'époque الذي يؤطر ثقافته ووعيه الإيديولوجي.

طقوس التصوف وأسطورة التكوين والرمزية في مجموعة (الجاهلي يُشْعِلُ خرائِطَهُ) لعبدالعزيز العجلان

يبني الشاعر عبدالعزيز العجلان الرؤيا في مجموعته (الجاهلي يُشعلُ خرائطَهُ) علـى عناصر أساسية هي المرأة، والحرية، والأمان، والفضاء الواسع.

ولايستطيع المتلقي أن يفصل بين هذه العناصر؛ فهي تبدو وحدةً متكاملة وتشـكّل مجتمعة طموح الشاعر في بناء عالم جميل بديل للعالم الفاسد الذي جسّده في الرؤية.

فحتى تكون المرأة جميلة تحتاج إلى الحرية، ولكي تنمو الحرية وتتسع تحتاج إلى الأمان . والعناصر الثلاثة تحتاج إلى فضاء واسع نقي تتحرك فيه. 

والعلاقة بالمرأة في النصوص ليست مجرّد علاقة عابرة، وإنما هي علاقة توحّد واندماج وتصوّف.
والمرأةُ هي الملاذ ومصدر الأمان والسلام والجمال، وهي - إلى جانب ذلك - مصدر الخصب والأنوثة، وكأن الشاعر يستوحي كل ذلك من خلال إنانا وعشتار وأفروديت وفينوس وعناة رمـوز الخصب في الحضارات القديمة.
يقول:
أفيءُ لأعتابِها مثلَما ترجِعُ الريحُ لأوكارِها في
المساءْ
ألوذُ بأحضانِها
بالحكايا الصغيرة زهوَ الدنوّ
أخرجُ منها لأدخلَ فيها ، وألقي بقلبي لينشرَ راياتِه في العراءْ
وحين أوينا إلى ظلِّها
تساقطَ شوكُ الظهيرةِ ما بيننَا
ترجّلَ من حولنِا ظلُّها
أقولُ المقامُ
يرتدُّ نحوي الصدى مرهَقاً
موجَعاً
يتلكأُ بين زوايا السكونْ
ترجّلْ
وشدَّ الجراحَ إلى قلبِها
فما بعدَ هذا الدنوّ ملاذٌ
وما بعدَ هذا المقامِ مقامٌ
وما خلفَ هذا اليباسِ الرخامي ماءْ (91)

ومما يقوي من رغبة الفرد في اللجوء إلى المرأة كمصدر للأمان إحساسُه بالخوف والاغتراب والوحدة الذي جسدته الرؤية.

فعلى الرغم من الفرح الذي يلازم الفرد ويدفعه إلى الانطلاق والاكتشاف في حقل الرؤيا هناك صوتٌ خفي ملوّن بالألم والحزن تعبّر عنه النصوص في حقل  الرؤية.

وقد جسّد الشاعر ذلك من خلال الخلفية التي رسمها للّوحات، هذه الخلفية غير ظاهـرة يحتاج من يريد أن يراها أو يحس بها أن يقترب منها ويحدّق في ألوانها كأنه أمام لوحةٍ تشكيلية.
يقول:
نقيضانِ ياآخرَ الغرباءِ اقتربْ
أما آن للقلبِ أن يترجلَ
وينسى الجماحَ الجوادُ التعِبْ؟ هنا تنفضُ الروحُ أوزارَها
ويسترحعُ الحزنُ ما قد وهبْ
هنا ستفيضُ الغيومُ السِّماحُ
على مهجعِ الصيفِ
وتمضي الحكايا الذواهلِ نحو المصبْ(83)

ويؤكّد الشاعر ذلك من خلال شعور الفرد بالوحدة والفراغ:
عابرٌ ينداحُ في خطوتهِ
فوقَ خفقِ الرملِ
في وحدتِهِ
ثمَّ يطويهِ الزبدْ
لاأحدْ، لاأحدْ، لاأحدْ (90)

ويوسّع الشاعر مأساة الفرد ليعمّمها على الشرق كلّه.
فصورة الشرق تبدو جافّة متصحرة، هزيلة:
وعندَ الهزيعِ الأخيرِ من الحزنِ يورقُ في قلبهِ
الشرقُ
تهصرُهُ الصبواتُ الظماءْ
يُلقي بكفّيهِ فوقَ الرمالِ
لاوردَ في الشرقِ
هذا الذي يُثقلُ الحزنُ أطرافَه كلَما عاودَتْه جراحُ
الشروقْ (55) 

وهو يؤكّد ذلك بقوله:
تجمعُنا الصدفةُ، ندنو
نصبحُ والأحلامُ على مرمى
يَكبرُ فينا الخوفُ
تتهيّأُ أشجارُ الماضي، ننأى
تنهبُنا خطواتُ الصيفْ(81)  

لكن على الرغم من كل الانكسارات فالفرد طموح ، ومما يعزّز رغبته في التحوّل والبناء جموحُه وانطلاقه وثقتُه بأناه.
وقد أكد الشاعرُ ذلك في تجسيد بعض الحالات من خلال التناص مع أسـطورة التكوين.

ففي البدء كانت الغربة، وفي الجرح كـان التغيير، وفي الرغبة كان التحدي، وفي الخطوة الأولى كان السمع والكلام.
والرؤيا عند الشاعر تُبنى على الإصرار لأنها لاتُمنح أو تُعطى، يقول:
في البدْء كان الجرحُ
والظمأُ الملحُّ
كان الكلامُ السمحُ
ينقشُ طيوفَهُ الملوّنةَ شواطئاً أليفةً
مراكباً وصبحْ (86)

وباعتبار أن المرأة في الأسطورة مصدر الخصوبة فهي الركن الأساسي في التكوين لدى الشاعر:
وامرأةٌ تصّاعدُ في هشيمِ العمرْ
إن أقبلتْ فغيمةٌ وارفةٌ
وإن نأت فريحٌ تلقي إلى الدروبِ بسمةً
كانت له الملاذَ والحضورَ والغيابَ والمدى
وكان في سمائِها صدىً ، وظلَّ طيفٍ عابرٍ
مرَّ بها ذاتَ صباحٍ أو مساءْ(88)

مما تقدم نلاحظ أن في المجموعة صوتين تتحرّك من خلالهما كافة عناصر النصوص والقيم الجمالية، صوتاً خفياً سلبياً يشدّ إلى الوراء، وآخر ظاهراً وإيجابياً.

الأول يمثّل جانب الرؤية وقد تمثّل في صورة الفرد المغترب الحزين الوحيد المجهَد، ومساحة هذا الصوت ضئيلة إذا ما قورنت بالصوت الثاني.

أما الصوت الآخر فهو الأقوى والأنقى والأكثر صفاء يتقدّمُ إلى الأمام ولديه مايبرّره: التوحّد الصوفي بالمرأة والقناعة بأن البدء أولُ التكوين.

وقد جاءت الصورة الفنية لتجسّد هذا التوجّه وتدعمهُ ، فأطرافها حسية تعتمد على المكان المرئي، وتتميّز باتّساع المكان لتنسجم وروح أسطورة التكوين، والحالة الصوفية، ويؤكـد ذلك تكرار الأفعال المضارعة التي تدلّ على استمرار الحركة والتحوّل والخصب.

والشاعر يُكثر من حروف الربط ، ويُنمّي الحدث إلى أن يصل إلى حالة التوهّج التي ينشـدها.
و(البحر والصبح والضوء) ثالوث التحوّل في المجموعة، يقول: 
يخرجُ البحرُ من صخَبِ البحرِ
ينسلُّ فوقَ الرمالِ البليلةِ
يلتمسُ الصبحَ يلقاهُ فـي منحنى الضوءِ
يمضيانِ معاً (79) 

وقد ساهم الاقتصاد في اللغة، والتشكيل الرمزي للصورة في قوّتها.
واختار فيما يلي بعض العبارات الرمزية لتأكيـد ذلك: (مشرعِاً وحدتَه، شجرُ الروح، انهمارُ الصباح، جمرُ الفتوّة، ارتعاشُ الأهلّة، دفءُ الحروف، طيوفٌ ملوّنة، مراكبٌ مختالة، شواطىءٌ أليفة، عناقيدُ ماء، زبدُ الضوء، أسورةٌ حائرة).

وحتى لانبتعد كثيراً فعناوين النصوص أيضاً تدلّ على ذلك، وهذا يعني أن هناك خطاً واضحاً في المجموعة يحرِّكها هو الخط الرمزي.

ولعل ماورد في العناوين انعكس أيضاً على العلاقات الرمزية في النصوص.
ومن العناوين: (نقوشٌ على مداخل الشتاء، من سِفْرِ العناقيد، في انتظارِ الكلمات، على ممرّ العيد، نِثارُ الأسئلة، اشتعالاتُ زهرةِ صيف، مقاطعٌ لصمتٍ عابر، سُدرَةُ البدء).
فهناك ثمانية عناوين من أصل 24 عنواناً عدد نصوص المجموعة.

وقد شكّل الشاعر من خلال الصورة بالمواصفات المذكورة النموذج البطولي، نموذج الفرد الجميل الذي يأتي ولا يأتي وهو الحاضر الغائب:
كيفَ لـي أن أراهُ؟
أيُّ الجهاتِ اصطفتْها خطاهُ
أيّ المداخلِ؟ أي الغييماتِ ترفأُ في دعةِ موعدَه؟
طالما أرهقَ الذاكرة
كلما أينعت زهرةُ الضوءِ وأرخى المساءُ ضفائرَهُ
تسوّرَ سحرُ السكونِ
تساقطَ حولَهُ العابرون
آدتهُ أحلامُه المجهدَة
وحينَ تؤبُّ الشمالُ
يُلقي بعينيهِ خلفَ المدى المترمّدِ
نحو الشمال
يهدلُ، تأخذهُ هزّةٌ
وينثرُ أشواقَه في مهبِّ السؤال (4)

الأسطرة، السؤال، اتساع المكان، الرمزية، الحسية، التكثيف، التنوّع في المفردات والحدث، كثافة الصور الجزئية، عناصـرُ أساسية كوّنت قوة (الشعرية) في هذا النص.

والشاعر يستخدم مفردات محددة تدل على التحول والرغبة في التغيير، وهي تنسجم وطموح الفرد العارم في التحول، ولعلها تشكّل أساس الوعي الذي تجسّده المجموعة، من ذلك: (العاصفة، المرأة، البحر، المطر، الريح، الفعل المضارع، آذار).

وفي أذار يُخرِجُ أدونيسُ عشتارَ مـن الحجيم ليبدأ فصل الربيـع حيـث الخصب والخضرة:
ياآذار، يا سادنَ سرِّ الأرضِ الأطهرِ
هل تذكرُ ذاتَ صباحٍ
ألقيتَ إلى الدنيا زنبقةً واجفةً ومضيت
هل تذكرُ يا آذار
يا حلمَ الأرضِ
إطراقةَ زنبقةٍ خجلى
ألقتْها كفّاكَ إلى الأرضِ ذات نهار(58)

ولعل بعض المفردات التي تشكّلُ عناوين النصوص تدل على ذلك التحول وتؤكّده، مثل: (الحضور، الدنو، النورس، الجموح، يُشعل، انبثاق، أبجدية، طائـر الجهات، نبضات).

تتكرر لدى الشاعر مفردات أخرى دالة، مثل (البدء، والرغبة، والمدى، والجرح، والرحيل).
يقول مؤكّداً طقوس التحوّل:
يؤبُّ المطر برفقٍ يدقُّ النوافذَ
يعتنقُ الرملَ والظمأ الموسمي
وبينَ المداخلِ ترتعشُ الخطواتُ
تلتمسُ القطراتُ العِذابُ برفقٍ تدقُّ النوافذَ
يستيقظُ القلبُ على وقعهنّ
يمضي لأحزانهِ النيّراتِ النوافرِ
والصدى ينكثُ اللحظات(6)

خلاصة الكلام:
إن عبدالعزيز العجلان شاعر مميّز، وقد استطاع أن يوحّد في مجموعته (الجاهلي يُشعِلُ خرائطهُ) بين الجمالي والفني، بين المجرد والحسي، بين المعنوي والمرئي ضمن طقوس متنوعة ساهمت في تكوينها عناصر التصوف وأسطورة التكوين والرمزية.

وهو لكلِّ ذلك شاعر مختلف عما هو مألوف، وتجربته تستحقّ الإشادة والتأمل.

دراسة رواية البحث عن الزمن المفقود.. استعادة الماضي الجمعي الجميل لليهود عن سادوم وعامورة

إن رواية (البحث عن الزمن المفقود) تقول أشياء كثيرة ضمن العديد من الصفحات التي لا تتعدى أن تكون حوارات وأحاديث باهتة، وهذا الأمر معروف ومدرك في الروايات الكبيرة التي لا تسير وفقاً للتقاليد الأرسطية حيث تتناثر البقع الأرجوانية هنا وهناك كالجزر، ولكن لكل بقعة أرجوانية تأثيراً بالغاً لا ينفد إلاّ وقد وصل القارئ إلى بقعة أرجوانية أخرى، وهكذا تترادف هذه البقع لتشكّل الروح الضابطة لإيقاع العمل كله.

أما عنوان الرواية (البحث عن الزمن المفقود) الذي يتحدد ضمنه هدف الرواية فيذكر الأستاذ حسن أنّ ما قصده (بروست) من استعادة الماضي أو (الزمن المفقود) هو استعادة الماضي الجمعي الجميل لليهود وإلاّ لما تحدث (بروست) في الرواية عن (سادوم وعامورة).

ويكفي أن نعرف مدى اهتمام اليهود واحتفائهم بهذه الرواية في الوقت الذي كان ينبغي على الفرنسيين أن يقوموا بهذا الاحتفاء فنحكم على مدى تعاطف (بروست) مع اليهود واعتبارهم ضحايا الرأسمالية الأوربية.‏

وأياً كان الأمر فإننا في محاولاتنا هذه لا نريد إدانة عمل (مارسيل بروست) (البحث عن الزمن المفقود) كما لا نريد إدانته شخصياً لأنه أراد بعث تاريخ اليهود وإنما الغاية تتمثل في أن نقوم، نحن، بمراجعة هذه المؤلفات مراجعة ذاتية نابعة من قراءتنا وفهمنا ووعينا بعيداً عن تأثيرات الآخرين وأنفاسهم وأن نوقف ما يسمى (العقلية التآمرية) تجاه النصوص الغربية.

وأخيراً يدعونا إلى ألاّ نظل على دين نقاد الغرب نؤيد ما يؤيدون ونحن نجهل ما بحثوا فيه وما أرادوه من غايات، وأن نذمّ ما ذمّوه ونحن لا نعرف دواخله أو أسراره‏.

الكتابة على الطريقة المملوكية في مجموعة (بَوح) لمحمد الجلواح

يسعى محمد الجلواح في مجموعته (بوح) صياغةَ (مثَلِهِ الجمالي) من خلال المكان الحسي.
ويتخد من (منطقة الأحساء) منطلقه لرسم ذلك.
فمساحةُ البديل الموضوعي للرؤية عنده هي مساحةُ الأحساء، ومناخها: الخضرة والشجر والنقاء والشمس والثقافة والنَّسَب والنخل والرُّطب.

وقد جعل الكاتب من الأحساء النموذج الموضوعي لبدائل الخلل في الرؤية، فحين يحسُّ الإنسان بالتعب مما يحيط به عليه بالأحساء، يقول:
تَعِبٌ أنـتَ إذا لـم  تأتِهـا -- فإذا مـا جئتَها راح َالتعبْ
واعزفِ اللحنَ بما شئتَ وقل: -- هـذهِ الأحساءُ أصلٌ ولقبْ
واحةٌ للخيـرِ والحـبِّ معَاً -- وهـيَ أيضاً للمعالي والأدبْ

لكن مع تقديرِنا لوضوحِ الهدف لدى الكاتب، وسعيِه للتعبير عن (مفهوم الجميل)، وتحميله له البُعدَ الوجداني، والمناخ الحسي، والأبعاد المكانية المؤطرة، فمجموعةُ (بوح) تعاني مشكلات أساسية نورد أبرزها على نحو ما يأتي:

أولاً:
تُعاني نصوص المجموعة - دون استثاء - من التكرار الذي يطالُ المفردة والجملة والتركيب والقصيدة ونظام الجملة؛ فعلى صعيد المفردة يكرّر الكاتـب فعـلَ (القول) (28) مرّة في (23) بيتاً (أنظر الصفحة 27)، وعلى صعيد التركيب والجملة يكرر الكاتب صدرَ البيت التالي أربع مرّات في نصٍّ يتكوّن من خمسة أبيات بحيث يمكن اختصارُ النص ببيت واحد دون أن يُصاب بخلل، يقول:
بريدُكِ لا يـأتي  وأنت بعيدةٌ -- وفي القلبِ أشواقٌ يبرِّحها البُعدُ(15)

وهو - أيضاً - يكرّر نصوصاً بحالها؛ ففـي المجموعة (28) نصـاً في الغزل مـن أصل (41) نصّاً هي مجملُ نصوص المجموعة.

وأكادُ أزعم أنه يمكن الاكتفاء بنصٍّ واحد منها ليعبّر عن بقيّةِ النصوص الأخرى، بل يمكن اختصارُها جميعاً بعدد قليل من الأبيات دون إحداث أي خلل يَنتُجُ عن ذلك الحذف.

فالشاعر يكرر فيها المفردة والتركيب والجملة والدلالة والحالة، وكأنها نسخة واحدة.
و تقع المجموعةُ - إلى جانب ما تقدّم - ضحيةَ نـوعٍ خطير آخر من التكرار يتمثّل في تكرار نظام الجملة نفسه.
والشعرُ هنا لا يفقدُ إدهاشَه لافتقاده إلى التنوع فحسب، وإنما يفقد مركزَ استثارة المخيلة لوقوعه في نمطية اللون الواحد، فيضعف فيه الإحساس الجمالي الافتراضي . انظر مثلاً وليس حصراً الصفحات: (13- 15- 27-124 – 125....

ثانياً – الوصف:
كان الكاتب يتناول موضوعَه من الخارج ، فيعتمد على الجمل الإخبارية ويُكثر من ياءات النداء.
وإذا كان الشعرُ يعكس موقف المبدع من العالم فإن  الكاتب محمد جلواح نقلَ صورة العالمَ كما هي بحيث لا يختلف - في ذلك - عن أي تحقيق صحفي غير مميّز.

وكلّ نصوص المجموعة تخضع لهذه الملاحظة.
ونودّ الإشارة هنا إلى أنه يوجد لدينا نوعان من الكتابة، أولهما ينقل أثرَ الشيء لا الشيء نفسه.
وإلى هذا النوع ينتمي الفن ومن ضمنه الشعر، وثانيهما ينقل الشيءَ نفسَه دون أي تقاطع مع الذات، وهو لذلك لا يستثير في المتلقي أي شكل من أشكال (القيم الجمالية)، وإلى هذا النوع تنتمي كافة أشكال الكتابة الموضوعية، مثـل التاريخ، وعلم الاجتماع، والتقرير الصحفي، والتقويم، والبحث العلمي، والتلخيص، وغيرها.
والمجموعـة التي بين يدينا تنتمي بامتياز إلى هذا النوع الثاني من الكتابة.

ثالثاً:
معظم قصائد المجموعة قصائد مناسبات، وغالباً ما تسعى هذه النصوص لنقل ما يُرضي غرورَ الآخر لا ما يُحسّ به الشاعر، ولذلك تأتي ضعيفة .

رابعاًً:
تُعاني المجموعة مـن ضعف شديد في تركيب الجملة الشعرية.
ولعل النص التالي - الذي يُدعى فيه الشاعرُ إلى حضور حفل للزواج الجماعي - يؤكد ذلك:
قالَ لي كيفَ الحال؟ قلتُ: تمامْ --  وأعـادَ السؤالَ بعـدَ سماعي
قلتُ: أهـلاً ومرحباً بصـديقٍ -- تَخِذَ البُعـدَ مركباً  بشـراعِ
قال لي: الآن ليسَ  وقتَ  عِتابِ -- فأنـا أبتغي  ختـامَ رقاعـي
قلتُ مـا الأمرُ قال إقرأ وشرِّفْ -- حفلَنا  جالبـاً  غنـاءَ  اليراعِ
وجميـلٌ أن يُكثـرَ النـاسُ منه -- فانفرادُ الآراءِ سـقطُ المتـاعِ
قـد سمعنا النـداءَ  ثـم  أطعنا -- وأتينـا إلى الزواجِ الجماعي(91)

في هـذا النص فقرٌ في المفردات والتخييل، وفيه أيضاً أسلوب غريب في التعبير، وسذاجة غير معهودة في الشعر، إلى جانب السرد الممل.

خامساً:
تُعاني بعض النصوص من اللعبُ في الأسلوب على الطريقة المملوكية أعني من الاهتمام في بناء الشكل على طريقة عصور الانحطاط.

ولا أدري ما الحكمة في أن يأتي شاعرٌ معاصر، ويقوم بكتابة نص يبدأ كلُّ بيتٍ فيه بحرفٍ من حروف اسم صديقه؟
(ن) ناديتُ فيكَ عواصم الشعراء -- ومضيتُ فيها سادراً بغنائي(34)

سادساًً:
وتنطوي المجموعة على مجانيّة مفتعلة في الاستخدام الغزير للمفردات والتراكيب إلى درجة أن المتلقي يفقدُ الإحساس بما يقرأ، يقول:
يا ليلاً لايملكُ آخر
ياكهفاً يقتلُ خيطَ النورِ، ويقتل تغريدَ الطائرْ
وشمٌ أبديٌّ فوقَ القلبِ يتيهُ شموخاً ويُكابر
آهٍ يا ليلُ متى ألقى في صبحِكَ صبحاً وبشائر
تاريخٌ مطويٌّ يرحَلْ، وجفاءٌ منتشرٌ يعملْ
والحرفُ يُشَهَّرُ في الماضي، والفجرُ يُبشِّرُ بالقادم
وعيونٌ ترمقُ في الماضي
وحنينٌ يُشرِقُ أو يقتلْ
يا أيامي
يا كل فصولي أجيبيني
هل يأتينا غيثٌ واسع؟
هل يُلغى الكابوسُ القابع(95)

سابعاً:
الكاتب مغرمٌ بحشدِ أسماءِ الأشخاص، والأمكنة، والأمثال الشعبية مما يشكل عبئاً ثقيلاً على المتلقي، ويُفقد الجملةَ الشعرية بريقها، وإلا ما معنى أن يورد الشاعر أحد عشر اسماً في أربعة أبيات؟ يقول: 
يا (مُنى) النفـسِ ويـا (ناديةُ) العمـرِ الخـُرافي
يا (سُـعاد)ي و(رباب)ي و(حنان)ي و(هتاف)ي
أنـتِ يـا (فاطمة) الدهرِ (رجائ)ي و(عفاف)ي
أهِ يـا (ميّادة) الـحبِّ، و(إرواء) الجفافِ(86)
و انظر كذلك :20-23-49 – 72-86-92-93.

ثامناً:
كان الالتزام بالقافية يدفع الكاتب لاستخدام مفردات لامبرر لوجودها.
فهو يتحدث عن الأحساء قائلاً:
خُضرَةٌ، ماءٌ، ووجهٌ  مشرقٌ -- هو والله بـ(هجرٍ) لا كَذِب(12)

والسؤال هنا: هل بعد القسم بالله شكٌّ؟ فقد كان يمكن للكاتب أن يُنهي الجملة عند القسم، ولكنه أضاف عبارة (لا كذب) من أجل القافية، مما أفسدَ البيت كلّه، بل أفقده مصداقيته.

ونريد الإشارة هنا إلى أن معظم النصوص تقع ضحية ذلك، فتبدو المواقفُ - في أغلب الأحيان - مفتعلةً دون أدنى مسوّغ فني.

تاسعاً:
ومن الأمور المفارقة الغريبة أن تنتقل المجموعة لتأخذ دورَ الحصّة المدرسية، وينتقل الكاتب ليأخذ دور المدرّس، فهو يشرحُ أهميةَ الرياضة للأطفـال والشيوخ، ويؤكد أهميةَ الزواج الجماعي وغير ذلك. يقول: 
هي الرياضةُ قـد هبَّتْ نسائِمُها -- ريـاحَ مُـزْنٍ أتـى ريـّا ومرتقبا
هيَ الرياضةُ فاشربْ من مناهِلِها -- ودعْ جلوسـَكَ (كسلاناً) ومكتئبا
هي الرياضةُ كالمعنى  البليغِ على -- الشعرِ الجميلِ الذي يستوجبِ العَجَبا
قصيدةٌ راحـتِ  الأيامُ تُرسِلُها -- إلـى الشـبابِ  كتاباً خير ما كُتبا
طفلٌ يمارسُـها كهلٌ  يَهيمُ  بها-- شبابُها قـد أتاها ينفضُ التعبا (124)
وانظر كذلك (ص90)، وحديثه عن الأهمية الاجتماعية للزواج الجماعي.

خلاصة القول:
إن مجموعة (بوح) تتضمن نصوصاً فـي التعزية، والتهنئة، والغزل، والأطفال، والوعظ، والمعارضة، والرد على الأصدقاء، والدعوة إلى حضور زواج جماعي، وأهمية الرياضة لكبار السن والأطفال إلى جانب التناص المفتعل - مع نصوص وأشخاص - جاء متعمداً ثقيلاً.
وكل ذلك جعلها مجموعة ضعيفة، تكاد تكون المسافة بينها وبين الشعر بعيدة.

ثنائية الموضوع الرومانسي والوعي الجمالي التقليدي في مجموعة (أسراب الطيور المهاجرة) لأحمد سالم باعطب

أريد أن أبدأ قراءتي لمجموعة (أسراب الطيور المهاجرة) لأحمد سالم باعطب بالإشارة إلى أن الكاتب أثبتَ في صدرِ المجموعة جملةً من الآراء النقدية التي قيلت في شعره لنقّاد نقدّرهم ونحترمهم. لكن المشكلةَ في تلك الآراء أنهـا تدخلُ ضمن مايمكن تسميته (بالنقد المجامل، أو المحابي) الذي لايَعرِف سوى الإطراء.
وأكتفي بإيراد الجملة التالية لأحدهم للتدليل على ذلك حيث يقول: (أحمد سالم باعطب شاعر وشاعر وشاعر).

فماذا يعني هذا القول وما علاقته بالنقد؟، ولماذا يُثبِتُ الشاعر هذا القول وغيره مما هو في مستواه؟
أليصادر على القارىء موقفه مما سيقرأ، أم يريد أن يفرض عليه شكلاً من التلقّي يختاره هو بنفسه؟
أم أنه يريد أن يغطّي عجزاً في مجموعته؟

أعتقد أن مثل هذا الأمر يُسيء إلى النقد والإبداع معاً أكثر مما يفيدهما.
وأود الإشارة إلى أن إثبات مثل هذا النوع من (النقد المحابي) في أول المجموعات الشعرية ظاهرةٌ مَرَضيّةٌ عامة، ولاتخص مجموعة سالم باعطب فحسب.

تحكم مجموعة (أسراب الطيور المهاجرة)  خمسة محاور:

الأول: الشـعار السياسي:
يتناول الكاتب - في هذا الحقل - مواقف سياسية طارئة، ويروي أطرافاً منها بطريقة لاتخلو مـن السذاجة، ثم يعالجها بردود أفعال صاخبة.

والمشكلة العالقة في مثل هذا النوع من الكتابة أنه يرتبط بحدث مرحلي ينتهي مفعول النص فيه بانتهاء هذا الحدث.
وأخطر ما في هذه المشكلة انجرارُ النصوص المنطقي إلى الخطابية والتقريرية والمباشرة والهتاف، وهذه العناصر الأربعة عدوّة للشعر حيث تجعله أقربَ إلى النثر المهتوف، وتكرّس القطيعة بينه وبين الطبيعة الجمالية للشعر.

إن الشعر يعتمد على النمذجة والتعميم، وإذا ماتطرّق إلى حـدث جزئي أو كلي مرحلي أو دائم فإنه يرتقي به عبر الصورة الفنية الحية فينمذجه ويعمّمه.
والشعر بهذا المعنى مرتبـط بالاستمرار ولا يزول بزوال الحـدث.

يقول الكاتب في نص (لص بغداد):
 قفْ حيثُ أنتَ وما صنعتَ وما عسى -- أهديتَنا الغبراءَ منكَ وداحسَا
 لِـمَ بعتَ فـي سوقِ المزاد عروبتي -- وتركتَني أرِدُ المحافـلَ يائسا
أشعلتَ نـارَ الحقدِ ثـم عبدتَها -- وأَقمْـتَ أنديـةً لها ومدارسَا
يا أيهـا الرجـلُ المريـضُ تقيَّحتْ --  خُطواتُ عمرِكَ ريبةً ووسَاوسا
ومن النصوص التي تدخل في هذا الحيّز: (لص بغداد، رسالة إلى كابول، إليكِ ياسيدتي العظيمة، بطولة العصي والحجـارة، حمالة الحطب، إلـى الشاعر العربي).

الثاني: تبنّي البناء العمودي:
وخطـاب هذا البناء ينسجم وطبيعة (الشعار السياسي).
لايشك من يقرأ مجموعة (أسراب الطيور المهاجرة) بتمكّن الشاعر أحمد باعطب من البناء العمودي.
فهو - قياساً إلى المرحلة التي ينتمي إليها شعرُه أعني مرحلة مابين الحربين - شاعر يُجيد التعامل مع العمود.
ولكن إجادة العمود شيء وتجاوزه شيء آخر.
فالمجموعة على الرغم من أنها تتضمن نصوصاً كُتبت في مرحلتنا الراهنة، لكنها تجترُّ شكلَ العمود وروح تلك المرحلة.

سؤالي هنا: ماذا يمكن أن يقدّم مثل هذا النوع من الشعر وهو يُعلن عن انتمائه إلى مرحلة أخرى بعيدة، فإذا كان الشاعر يكتب لأناس عاشوا في زمن آخر، ويعبّر عنهم، ويتبنى وعيَهم متجاهلاً ما حوله، فينبغي عليه ألا يلوم من لايتفاعل معه اليوم .

يقول الشاعر وهو يفخر على النمط العمودي:
لاتسألي مَنْ أنا في عالمٍ صرختْ -- به السّبائكُ من مستودعٍ خَرِبِ
أنا ابنُ حرٍّ يُحاذي الشمسَ منكبُه -- أنا ابنُ أنثى تُسمّى أمةَ العربِ
والسلمُ رائـدُنا في كلِّ معتَركٍ -- نجلو بـه صدأَ الأيامِ والحِقَبِ
فنحنُ للعـدلِ عنـوانٌ  يتيهُ  به -- ونحنُ بالسلمِ نبضٌ في الدمِ العربي

نخلص مما سبق إلى أمرين:
أولهما : لم يتخـط الشاعر - فيما كتبه في هذه المجموعة - المرحلـة التي أشرنا إليها.
وثانيهما :لم يُضِفْ شيئاً جديداً مميزاً إلى تاريخ الحركة الشعرية المعاصرة.

الثالث: تجاهـل الذات للآخر:
وهذا التجاهل يأتي نتيجة منطقية للمحورين السابقين.
فمن الطبيعي أن يتم تجاهل (الذات) أمام الطبيعة الموضوعية التي يتطلبها (الشعار السياسي)، ومنطق الرؤية الذي يحكم (البناء المعماري العمودي).

الرابع: الانشغال بالهم الإنسـاني العام على حساب ماهو محلّي:
إن السعي إلى صيد الغزلان في ملاعب النجوم، والبحث عن اللؤلؤ في قيعان البحيرات المتجمدة، والخطاب الشفوي يدفـع إلى تبني ماهو خارج الخارج أعني الهم البعيد.
فهو يبحث عن خصوصيته بعيداً ذاته أولاً ومحيطه ثانياً.

يقول في رسالة إلى كابول:
لم يبقَ من حُصَصِ الميراثِ  يا دارُ -- إلاخِـرافٌ هزيـلاتٌ وجـزّارُ
وارَيتِ جثمانَ مَن تهوينَ خاشعةً -- وعُدتِ والحزنُ في الأحشاءِ موّارُ
كابـولُ يُبْصِرُ فيكِ المجدُ مهجتَهُ -- كلمى  يمزّقهـا هـمٌّ وتذكـارُ
كابولُ إنـا رفعنا الأمسَ ألويةً -- تمخّضتْ شُـهُبٌ عنهـا وأقمارُ
أنى التفتْنا رأينـا الأفقَ معتكِراً -- متى يطوفُ على هاماتِكِ الغارُ

خامساً: تنتمي المجموعة دلالياً إلى رومانسية مابين الحربين (رومانسية التحريض) والألم:
وهي تُذَكِّرُ بهذا المعنى - مع التحفظ على الشكل الجمالي - بأبي القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وعبدالسلام عيون السود.

ولكن الفرق بين ما كتبه الشاعر أبو عطب وبين ما كتبه هؤلاء أنهم قرؤوا العالم من خلال ذواتهم ضمن شكل جمالي ينسجم وطبيعة هذه القراءة؛ أعني المناخ الرومانسي، أما هو فقرأ ذاتَه من خلال العالم ضمن شكل جمالي ينسجم والبناء المعماري العمودي.

لذلك يبدو القلق كبيراً في مجموعته بين تيارين شديدي التناقض: فهو يستحضر القيـم الرومانسية من جهة، ويقدّمها من خلال البناء المعماري  العمودي من جهة أخرى، ولاأعني هنا الوزن والقافية بل (مضمون العمود ووعيه).

من ذلك مثلاً استحضار الكاتب لمفهوم (البطولي) الذي كان سائداً في مرحلة مابين الحربين لدى الرومانسيين، والتعبير عنه بوعي العمود ومضمونه:
لمَ تسألينَ عن المدجّجِ بالبطولةِ من يكونْ؟
الممتطي ظهرَ الخطوبِ يجوبُ أحداقَ العيونْ
تزهو به مُهَجُ الدروبِ وتستضيءُ به السنونْ
ينقضُّ   كالإعصارِ يهزأ بالحواجزِ والحصونْ
لاتسألي   فأنا الشهيدُ أضاعني الزمنُ الحرون
وأنا سفيرُ عروبتي بين المقابرِ والسجون

وللكاتب أيضاً نصٌّ بعنوان (موت الضميرص 38)، وهو يجري على نسق نص عمر أبو ريشة (نسر) مع ملاحظة الفارق الذي ذكرناه.
 
يختم الشاعر باعطب مجموعته بسبعة نصوص كُتبت على نمط التفعيلة.
ونجد أن هذه النصوص لا ترتقي إلى مستوى الشعر العمودي الذي كتبه الشاعر، بل هي أقرب إلى النثر منها إلى الشعر.
فالشاعر هنا يعبّر ولايصور (169 – 192) من ذلك قوله:
لاترحلْ عني لاترحلْ
لم تبرحْ ذكرى رحلتِكَ الأولى
كبدي
 تُسقي أحزاني غيظاً محموماً
وتزيدُ جراحاتي غيظاً وسموماً
ذَبُلَ الوردُ على شفتي
وتعطَّلَ بُستاني وترمّلْ
ليس غريباً أن ترحلْ
لكن عجبي ألا تسألْ
خطواتي تاهتْ من زفراتي
في بحرِ الغربةِ
تغرقُ في ليلٍ مسودٍّ ممتدِّ القامهْ
في يدهِِ سوطٌ عربيدٌ يجلدُ أفراحي
يُطفىء مصباحي

خلاصة القول:
إن الشاعر أحمد باعطب يعكس في مجموعته أزمة الشعراء الذين يعيشون بين زمنيين متباينيين، ويتبنون وعيين جماليين مختلفين، ويتوزعّون بين ثنائية الأنا والآخر.

فهم يريدون أن يُجاروا مايجري، ولكنهم لايستطيعون في المقابل أن يتخلّصوا من قيود (التابو) القديم.
وربما كان هذا هو السبب الرئيسي في عدم قدرتهم على تجاوز أنفسهم ومجاراة التطور، فلاهم نجحوا في التقليد فتميزوا، ولاهم استطاعوا مجاراة ماحولهم فأقنعوا وأثّروا.