ألسنة النار تأكل ثيابي.. التفكير في تلك المعلمة يلهي عن الانتباه إلى النار

كنت في المرحلة الإعدادية تاركة للصلاة لا تهمني ولا ألقي لها بالا.. كنت أصليها ولا أصليها في نفس الوقت.. فأنا أقوم بالحركات ولكني والله لا أعلم ما أقول في صلاتي..

إخوتي .. في المرحلة الإعدادية كنت أحب معلمة من المعلمات.. أحبها لدرجة أنها الشغل الشاغل لي.. إذا تكلمتُ تكلمتُ عنها.
وإذا كتبت كتبت فيها.. حتى إذا نمت كانت الشخصية الرئيسية في أحلامي ...

لا أطيل عليكم.. كان علينا امتحان في المادة التي تدرسني إياها تلك المعلمة.. وكنت أدرس.. فاشتهيت شيئا آكله فذهبت إلى المطبخ ... وكانت المصيبة.
لم انتبه إلى ألسنة النار تأكل ثيابي.. فقد كنت مشغولة بالتفكير في تلك المعلمة..

نعم احترقت.. احترق يدي وظهري وجزء من شعري.. نعم لقد ذقت نار الدنيا التي لم تترك أثرا ً ليدي.. تلك اليد التي كنت أرعاها وأحافظ على جمالها.. ها هي احترقت.. بل اختفت كليا.. نعم اختفت.. أنا ذقت نار الدنيا.. ووالله.. والله.. لم اقترب من الغاز من ذلك اليوم.. بل تشغيل الغاز عندي.. كأنه اختبار بل هو امتحان.. أرسب فيه كل مرة.. ولا أعتقد إنني سأنجح فيه..

إخوتي.. لم أذكر قصتي هذه لأحصل على شفقة من أحد.. ولم أذكرها لأنني أفتخر كيف كنت سابقا.. بل ذكرتها للعبرة.. فيا إخوتي أنا ذقت نار الدنيا.. ووالله لم أذقها إلا ثواني معدودة.. وأنا أتعالج من هذا الحرق منذ أربع سنوات ولم انتهي بعد من العلاج.

فهذه الرسالة إليكم.. أكتبها ولا أرجو إلا دعوة منكم أن يسامحني ربي عن كل شي فعلته في تلك السنين المظلمة.. وأنا الآن لا أفوت أي فرض كما أنني أصلي بعض السنن أحيانا.. فالحمد لله على كل شي..

اللهم لا تجعلنا من أصحاب القلوب القاسية.. اللهم أجعلنا من أصحاب اليمين.. اللهم أحشرنا من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. واجعل أعمالنا خالصة لوجهك.. يا أرحم الراحمين.

تصنيف القصة القصيرة جدا.. دراسة الأنواع القصصية وملاحقة تحولاتها حسب متطلبات العصر وحاجاته الملحة في التغيير وسبر التقاليد الفنية الموروثة

إن تسمية (قصة قصيرة جدا) وهويتها تحمل نصيبا من الحساسية ما تزال عالقة في تصنيفات النقاد المنكرين والمتحمسين لها بمواقع تتوزع على خمسة أصناف بوصفها نوعا جديد:

- الصنف الأول:
رفضها وظل على رفضه إلى النهاية سواء عن معرفة بها أو جهل.

- الصنف الثاني:
رفضها بشدة وأعلن عن رفضه ثم قبل بها بعد أن استقرت وانتشرت.

وإذا كان من الطبيعي أن تمر بمرحلة  الإنكار والهجوم عليها شأنها شأن كل نوع أدبي جديد، ويمكن إجمال مسوغات إنكارها  بما يلي:

1- إن معظم كتابها يركضون وراء (الموضة الأدبية) أو (التقليعة) أو (البدع) الأدبية التي تجتذب كل من هب ودب ليمتشق الطرائف والنكات والمفارقات ويدونها على الورق ويطلق عليها تسمية قصة قصيرة جدا.

2- استسهال كتابتها بحجة خرق المألوف والقصر مما أدى إلى هبوط مستواها الفني، فالخرق (ليس لصالح العبث وألعاب الصبية).

3- مازالت جل المحاولات التي تمت بحجة الخروج عن القواعد الأولية للكتابة القصصية والتمرد النوعي الجامح بعفوية وتلقائية لا تقوى على التشبع المترع باركان وماهية العناصر في القص، وهي محاولات مبعثرة ومجتزأة وتعتمد على الاستسهال.

4- عدم امتلاكها ثراء معرفيا بسبب لحظيتها التي لا تبقي في الذاكرة أثرا يستطيع المطاولة لو قارناها بالرواية أو القصة القصيرة.

5- وضعها بعض النقاد قسرا تحت مسميات بعيدة عن مسارها الصحيح في أثناء محاولاتهم للكشف عن خصائص الفنية وتقانتها الأسلوبية.

لذا فهي ليست جنسا أدبيا مستقلا بذاته إنما هي نوع أدبي قائم هو (القصة القصيرة) التي تشترك في تقنياتها الجمالية والنوعية ولا تزيد عليها إلا بالقصر وما يتطلبه من صفات الاختزال والتكثيف والاقتضاب والاقتصاد، وذلك  (لعدم وجود هذه التسمية في النقد والممارسات القصصية.

وهي ليست (شكلا) فقد مارسه العديد من أمثال الطيب صالح وزكريا تامر وغيرهما وإنما هي مرتبطة بطبيعة كتابة القصة وبنائها لأن السرد عندما يطول ويتعاضد مع تقانات أخرى وخصائص أخرى يصبح رواية لذا فمستقبلها مرتبط بواقع الرواية والقصة ومدى تطورهما).

- الصنف الثالث:
تريث وانتظر ولم يتخذ أي موقف ولم يعلن أي شيء حتى إذا ما استقرت وأصبحت قديمة اخذ بها وقبلها.

وتركزت مسوغات هذا الصنف في متابعة ومراقبة ما يكتب من نصوص ومقاربات لبلورة أحكاما بناءة في معالجة أشكالها وتبعاتها الذوقية المتعددة التي تجنح إلى عدم ثبات تصنيفها إبداعيا سواء من حيث الالتباس بينها وبين أنواع أدبية أخرى تشكلت في الموروث السردي (الخبر، النادرة، قصص الحيوان، المنامة، التكاذيب، وغيرها)، أو بينها وبين أنواع أدبية حديثة كقصيدة النثر التي تحرص على الإيقاع واللغة الشعرية والصورة الفنية خاصة تلك التي تحاول أن توظف النسق الحكائي أو الحدث القصصي.

وتكمن غاية الترقب في القول بموضوعية تجاه أركانها وتقاناتها التي إما أن تؤهلها للبقاء والاستمرار بوصفها نوعا قصصيا يجاري الأنواع القصصية الأخرى (النوفيلا، تيار الوعي، اللوحة القصصية، حلقة القصص القصيرة) أو التنازل عنها ومسايرة الكتابات التي فقدت ملامحها النوعية مثل (النص المفتوح)، ودعوة مروجي العولمة النصية إلى التخلي عن التجنيس بحجة (أن الأجناس الأدبية يتمرأى بعضها في بعض داخل قناة لا تمنح مهلة في الزمان ولا نظرة إلى المكان(...) فكل نص هو بؤرة رمزية وعلاقات مجازية ونظام إيقاعي (...) إن ثقافتنا لم تعد ثقافة تجنيس الأجناس الأدبية).

ونرى في هذه المقولة القسوة والتجني على الأنواع الأدبية وربطها بالعولمة التي لن تزيدها إلا ضبابية وفوضى وتبعية لمسمى واحد فحسب هو (نص) لا غير.

كما أن انشغالات الكتابة الأدبية الآن بالتحولات التجنيسية وتداخل الأنواع/ الأجناس الأدبية لا يعني منح الكاتب أو القارئ هوية  العولمة الأدبية المفترضة، إنما هي محاولات تمنح القارئ فاعلية أكثر في رصد التفاعل النصي ومنحه تأشيرة دخول إلى نص متحول, لكشف الخصائص النوعية لهذا النص الجديد .

- الصنف الرابع:
درس وتعرف إليها ثم اخذ بها وتقبلها.

- الصنف الخامس:
تحمس لها وقبل بها فور ظهورها من غير دراسة.

وهذان الصنفان يعدانها نوعا أدبيا مستقلا، له أركان تميزه عن الأنواع التي تنضوي تحت جنس النثر الحكائي كالقصة القصيرة والرواية وغيرها وأن إنكارها يذكر بطريقة (النعامة) في التعامل مع الموجودات الحسية.
ويمكن إجمال  مسوغاتهما بما يلي:

1- إن ولادتها طبيعية وصحيحة في أدبنا المعاصر وهذه الولادة مستقلة بكينونتها الخاصة مع كونها امتدادا صميميا لفن القصة القصيرة.

2- ذات ثقل نوعي إبداعي وحضور فاعل في الراهن القصصي وقد أقيمت لها  ملتقيات عدة في كل من دمشق وحلب.
وكان لهذه الملتقيات دور في إستقطاب كتابها ونقادها وما المجاميع القصصية التي صدرت عن المؤسسات الحكومية ودور النشر الأهلية إلا دليل على أنها ليست موجة تمر بمرحلة فوران ثم تنتهي.

إن قبولها في خانة ما أو إخراجها منها حمل تلك الحساسية من حيث إبقاؤها ضمن دائرة القص أو انحرافها إلى دائرة الشعر، كما أنه شتت معالجة مشاكلها بين انفعالات صحفية أخذت طابع التواضع العلمي وبين دراسات نقدية جادة تفحصتها بشكل علمي بينما سعى بعض النقاد متابعة تسميتها التي عانت منها في المراحل المبكرة لظهورها.

إذ بدأ المؤلفون والنقاد اجتراح تسميات جديدة تتبادل المواقع بتداخل يصعب قبوله أو رفضه للوهلة الأولى، فقصة، أقصوصة، قصة قصيرة، صورة قصصية، اقصودة، قصة قصيرة جدا، القصة اللوحة، والقصة الومضة  مصطلحات برزت في الخطاب النقدي القصصي في دراسة الأنواع القصصية وملاحقة تحولاتها حسب متطلبات العصر وحاجاته الملحة في التغيير وسبر التقاليد الفنية الموروثة ومدى صلتها بهذه الأنواع.

مصطلح القصة القصيرة جدا.. القصة الومضة تجديد لمحاولات التقرب من البناء الشعري الذي يعتمد الإيقاع الحاد للرؤيا بدل الإيقاع البطيء للأحداث

إن تجاهل مصطلح قصة قصيرة جدا والسعي الحثيث إلى توليد مصطلحات جديدة بطريقة انطباعية أو اعتباطية لن يزيد المسألة إلا تشابكا وتعقيدا فـ(ليس من المجدي طرح تسميات بديلة أيا كانت؛ لأن كثرة الأسماء مدعاة للبلبلة والفوضى وليست القيمة في اختراع تسمية جديدة بـل القيمة في الاتفاق على المصطلح والأخذ به وإغنائه بالممارسة وحسن الفهم والتطبيق ليستقر.

وما كثرة الأسماء إلا دليل تفرق وتمزق ودليل عدائية وعدم اعتراف بالآخر به وما أحوجنا على المستويات كلها للقبول والاتفاق والوحدة)، والمتتبع لمسيرتها يرى أن تسميتها بالأقصوصة –لقربها من القصة القصيرة- أو قصة الومضة –لقربها من قصيدة النثر أو الومضة- يشكلان اشد الضغوطات الاصطلاحية عليها.

فإذا كانت الأقصوصة توفر للقارئ موقفا جماليا مشروطا إزاء نوع من الكتابة يتصل بالقصة القصيرة من جوانب عدة، فإن القصة الومضة تعد تجديدا لمحاولات التقرب من البناء الشعري الذي يعتمد الإيقاع الحاد للرؤيا بدل الإيقاع البطيء للأحداث، وتذبذبت بينهما تسميتها.

ومثلما لم يضع النقاد حدا فاصلا بين الأقصوصة/ القصة القصيرة، أو بين الأقصوصة/ القصة القصيرة جدا، لم يضعوا فاصلا بين القصة الومضة/ القصة القصيرة جدا أيضا.

القص والتقمص.. القدرة على محاكاة شخص في سلوكه الحركي والصوتي وهيئته وطرائقه في التعبير عن نفسه

قدم لنا منتصر القفاش عن طريق صناعة الأزياء مفهوم "القص" ورأينا العلاقة بينه وبين مفهوم "السرد".
ومن حقل الأزياء أيضا نجد كلمة "القميص" تقيم رابطا بين القص والتقمص.

إن التقمص يعني القدرة على محاكاة شخص في سلوكه الحركي والصوتي وهيئته وطرائقه في التعبير عن نفسه.

إن "التقمص" هو ارتداء "قميص" الآخر والقدرة على وضع الذات فيه لكي تؤدي دور صاحب القميص الذي يجب ألا يظهر أمام الآخرين واسعا أو ضيقا.. طويلا أو قصيرا..

إن ذكاء القائم بالتقمص يتمثل في قدرته على إحكام صياغة ذاته في "قميص" الآخر.
السارد يفعل ذلك أيضا فهو يقوم بالتقمص حينما يعبر عن شخصيات مختلفة في النص القصصي.

فالسارد من هذه الناحية مؤلف ومخرج وممثل داخل القصة، ولكنه يقوم بفعل آخر يمكن أن نقول عنه "التقمص المعكوس".

فهو يضع نفسه في شخصيات أخرى ويتحدث من خلالها ونحن لا نعرف إن كان ينقل لنا ذاته التي وزعها عبر الشخصيات أو التقط شخصياته تلك من الفضاء الاجتماعي المحيط به أو من التراث الإنساني أو ابتكرها ابتكارا.

وهذا ما يقيم ربطا لا يمكن أن ينقطع بين القصة والمسرحية لأن الدراما تجمع بينهما والتقمص الذي يؤديه الراوي في القصة يقوم الممثلون في المسرح بمعايشته أمام الجمهور..

وفي أدبنا القصصي القديم ارتدى السارد قميص كل فصل من فصول السنة ليقدم في بنية مسرحية رؤية رباعية للنماذج البشرية.. ونسيم الصبا لابن حبيب الحلبي يعد نموذجا لهذا التشخيص.

مميزات القصة القصيرة جدا.. المساحة النصية. الحبكة. البنية. الأسلوب. التناص

ترى الناقدة الفنزويلية بيوليتا روفو أن مميزات القصة القصيرة جدا:

- المساحة النصية:
وتحصر الامتداد الطباعي بين صفحتين أو صفحة.

- الحبكة:
وتحضر في غيابها بشكل ضمني في النص والكشف عنها يتطلب مجهودا خاصا من القارئ.

- البنية:
شكلها غير مستقر أي إنها تأخذ من خصائص المقالة والشعر والحكاية الفلوكلورية وأنواع أخرى مثل الخرافة والحكاية.

- الأسلوب:
ويتميز باستعمال دقيق للغة واختبار للكلمات المختصرة والدقيقة المعنى.

- التناص:
وتكتب في إطار معرفي ومرجعية معرفية تستوجب مشاركة القارئ.

أنا وصديقي والفنار.. هو يفني عمره من أجل قضية يؤمن بها وأنا أدمن التحسر والتذمر

أخذتني شمس الظهيرة بين ذراعيها، قبلتني بأنفاسها الحارة، أسرعت نحو سيارتي الفارهة، كدت أضغط جهاز التكييف قبل أن أشغل السيارة.
كان الحر لا يطاق، تبخـّر من ذهني الحديث الذي كان بيني وبين صديقي محمد قبل قليل.

آه.. نسيت إنكم لا تعرفون محمد، اسمحوا لي أن أعرفكم به إذن...
هو صديقي منذ الطفولة، عشنا معا أكثر مراحل عمرنا السعيد، لنا نفس الإهتمامات والرغبات.

يشغلنا معاً هم الإسلام والمسلمين، نتحدث في نفس المواضيع، نكاد نتفق في معظم الآراء.
إلا أن بيننا فرق جوهري كبير، إنه يعمل لما يتحمس لأجله، ويفني عمره من أجل قضية يؤمن بها، أما أنا فالتحسر والتذمر هو أقصى ما كنت أقدمه.

كنت كما يقول عني دائما؛ "ظاهرة صوتية"...، وبرغم ذلك لاتزال صداقتنا حتى بعد أن فرقت بيننا المشاغل والأيام .
اليوم على غير المعتاد رن الهاتف بمكتبي، رفعته لأجد محمد على الخط الآخر يدعوني لأمر مهم، حاولت التأجيل والتسويف كالعادة، إلا أن إصراره قطع علي كل طريق، بعد ذلك بساعة كنت أصافحه وأنا أفكر أي مشروع في هذا الرأس يا ترى؟!.

لم يتمادى في السؤال عن الأحوال كثيرا بل دخل بي في صلب الموضوع مباشرة:
- أنت تعرف يا فهد أنني أدير هذه المؤسسة الخيرية، وإنني متى مارجوت الله بعملي نلت أجريّ الدنيا والآخرة.

لم أعلق على كلامه فلم أر َ فيه مايخصني، بيد أنه استطرد:
- وأنت تعرف أن هذه المؤسسة توزع كل شهر إعانات يجود بها المحسنون على بعض الأسر في الأحياء الفقيرة.

ظننت أنه يريد مني التبرع، فحمدت الله أن الأمر اقتصر على ذلك، هممت لأخرج حافظة نقودي إلا أنه أكمل دون أن يلحظ شيئا:
- وقد تجمعت إعانات هذا الشهر وحان موعد توصيلها، إلا أن السيارة المخصصة لذلك أصابها عطل ويستلزم إصلاحها! عدة أيام.
أخيراً، وجدت لساني لأهتف: وما موقعي أنا من هذا كله؟!

أجاب بابتسامة هادئة:
- أنت ترى أن سيارتك الجديدة كبيرة بما فيه الكفاية، لتحتسب أنت الأجر وتذهب فتوزع هذه الإعانات إلى الأسر المحتاجة.
حدقت فيه غير مصدق:
- محمد هل تمزح؟!

تجهّـم وجهه وهو يجيب:
- أنت تعرف أني لا أحب المزاح..
- كيف تطلب مني أن أذهب إلى هذه الأحياء المشبوهة؟!
وكيف أقود سيارتي الجديدة في تلك الطرق الترابية الضيقة؟! أنت تعلم أن هذا الأمر مستحيل تماما، وغير قابل للمناقشة!..

حاول محمد أن يثنيني، بالترغيب بالأجر تارة والعطف على أولئك المساكين تارة، إلا أن ذلك لم يؤثر في موقفي، وأخيرا خرجت من المكتب وبيننا حاجز غير مرئي من التكلف وعدم الرضا.

استرجعت كل ذلك وأنا أقود السيارة إلى منزلي، ولم يكن ليساورني أي ندم على موقفي السلبي، فالموضوع برأيي أوضح من أن أناقش فيه أو أجادل.

وقفت عند الإشارة القريبة من المنزل، وهناك أبصرت به؛ براءته الطافحة من عينيه دفعتني إليه، رأيت الكثير مثله من قبل؛ لكن لم يلفت نظري أي منهم كهذا الواقف غير بعيد، أنزلت زجاج النافذة، أشرت له بيدي فاقبل نحوي يحمل بضاعته الزهيدة، رفع وجهه المشرق وابتدرني: السلام عليكم!.. شعرت أن خلف هذا الإشراق إشراقا أجل وأسمى، أجبته بحنو لم أشعر به منذ زمن: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
- كم علبة تريد؟
- هات واحدة..

إمتدت يده الصغيرة بعلبة المناديل، وبالمقابل أخرجت ريالا دفعته إليه ، فأخذه ليخفيه بجيبه، لم يبد حراكا، فالتفت ناحيته لأرى يده تعبث بجيبه الممتلي، أخرجها تحمل شريطاً قدمه لي مشفوعا بابتسامة بريئة خجولة، نظرت إلى الشريط فإذا به شريط إسلامي؛ لم أرغب بشرائه فهو موجود بحوزتي.. مجاملة له سألته عن الثمن، أجاب بابتسامته البريئة : إنه هديه....

صكت العبارة مسامعي، وتردد صداها في خاطري "إنه هدية"..
لحظات خلتها دهوراً وأنا تنتابني مشاعر شتى... يا لله طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، أخرجه ضيق ذات اليد ليبيع المناديل عند الإشارات، وهو مع ذلك يعمل للإسلام، ويحمل هم الدعوة في قلبه الغض،
وأنا..... آه من حالنا..

مددت يدي لآخذ الشريط منه، ثم التفت إليه لأرى هامته تعلو في الفضاء، وتجاوز! الجوزاء.
أصبحت كقبطان ٍ تائه، ببحر هائج، يقف أخيراً أمام فنار، ُيلقي بسناه إلى المدى البعيد.

سألته بصوت مخنوق: من أين تأتي بثمن الأشرطة؟
أجاب وقد ومضت عيناه بالمحبة: إنه أستاذنا، يحثنا دائما على العمل للإسلام، وعندما أخبرته أني أريد أن أوزع الأشرطة الإسلامية النافعة تعهد بأن يزودني بها كل يوم.

سألته باهتمام: وهل تعطي الأشرطة لمن يشتري منك فقط؟
أجهز على ماتبقي من أعصابي بإجابته: أعطي من يشتري ومن لا يشتري.

ستارٌ من الدمع ِ ُأسدل على عيني، فلم أرَ الإشارة وهي تضيء للعبور.
تعالى هديرُ السيارات من جانبي. وحينما التفتُ لمحدثي لم أجده!
فانطلقت وقد تعالت أبواق السيارات من خلفي، وبلا تردد امتدت يدي إلى جانبي لأحمل هاتفي الجوال واضغط أزراره.

تعالى الرنين على الجانب الآخر ثم أتاني الرد:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله.. ماذا لديك يا فهد؟
- محمد، إنتظرني بمكتبك، سأحضر إليك الآن لأقوم بالعمل الذي رفضته قبل قليل..
(انتهت)

زهرة الشرف.. كل البذور التي أعطيتكنّ إياها كانت عقيمة ولا يمكنها أن تنمو بأية طريقة

حوالي العام 250 قبل الميلاد، في الصين القديمة، كان أمير منطقة تينغ زدا على وشك أن يتوّج ملكًا، ولكن كان عليه أن يتزوج أولاً، بحسب القانون.

وبما أن الأمر يتعلق باختيار إمبراطورة مقبلة، كان على الأمير أن يجد فتاةً يستطيع أن يمنحها ثقته العمياء.
وتبعًا لنصيحة أحد الحكماء قرّر أن يدعو بنات المنطقة جميعًا لكي يجد الأجدر بينهن.

 عندما سمعت امرأة عجوز، وهي خادمة في القصر لعدة سنوات، بهذه الاستعدادات للجلسة، شعرت بحزن جامح لأن ابنتها تكنّ حبًا دفينًا للأمير.

وعندما عادت إلى بيتها حكت الأمر لابنتها , تفاجأت بأن ابنتها تنوي أن تتقدّم للمسابقة هي أيضًا.
لف اليأس المرأة وقالت: (وماذا ستفعلين هناك يا ابنتي؟ وحدهنّ سيتقدّمن أجمل الفتيات وأغناهنّ. اطردي هذه الفكرة السخيفة من رأسك! أعرف تمامًا أنكِ تتألمين , ولكن لا تحوّلي الألم إلى جنون!).

 أجابتها الفتاة: (يا أمي العزيزة، أنا لا أتألم، وما أزال أقلّ جنونًا؛ أنا أعرف تمامًا أني لن أُختار، ولكنها فرصتي في أن أجد نفسي لبضع لحظات إلى جانب الأمير، فهذا يسعدني - حتى لو أني أعرف أن هذا ليس قدري-).

في المساء , عندما وصلت الفتاة، كانت أجمل الفتيات قد وصلن إلى القصر، وهن يرتدين أجمل الملابس وأروع الحليّ، وهن مستعدات للتنافس بشتّى الوسائل من أجل الفرصة التي سنحت لهن.

محاطًا بحاشيته، أعلن الأمير بدء المنافسة وقال: (سوف أعطي كل واحدة منكن بذرةً، ومن تأتيني بعد ستة أشهر حاملةً أجمل زهرة، ستكون إمبراطورة الصين المقبلة).

حملت الفتاة بذرتها وزرعتها في أصيص من الفخار، وبما أنها لم تكن ماهرة جدًا في فن الزراعة، اعتنت بالتربة بكثير من الأناة والنعومة – لأنها كانت تعتقد أن الأزهار إذا كبرت بقدر حبها للأمير، فلا يجب أن تقلق من النتيجة.

مرّت ثلاثة أشهر، ولم ينمُ شيء. جرّبت الفتاة شتّى الوسائل، وسألت المزارعين والفلاحين فعلّموها طرقًا مختلفة جدًا، ولكن لم تحصل على أية نتيجة. يومًا بعد يوم أخذ حلمها يتلاشى، رغم أن حبّها ظل متأججًا.

مضت الأشهر الستة، ولم يظهر شيءٌ في أصيصها.
ورغم أنها كانت تعلم أنها لا تملك شيئًا تقدّمه للأمير، فقد كانت واعيةً تمامًا لجهودها المبذولة ولإخلاصها طوال هذه المدّة.

وأعلنت لأمها أنها ستتقدم إلى البلاط في الموعد والساعة المحدَّدين.
كانت تعلم في قرارة نفسها أن هذه فرصتها الأخيرة لرؤية حبيبها، وهي لا تنوي أن تفوتها من أجل أي شيء في العالم.

حلّ يوم الجلسة الجديدة، وتقدّمت الفتاة مع أصيصها الخالي من أي نبتة، ورأت أن الأخريات جميعًا حصلن على نتائج جيدة؛ وكانت أزهار كل واحدة منهن أجمل من الأخرى، وهي من جميع الأشكال والألوان.

أخيرًا أتت اللحظة المنتظرة. دخل الأمير ونظر إلى كلٍ من المتنافسات بكثير من الاهتمام والانتباه.
وبعد أن مرّ أمام الجميع، أعلن قراره، وأشار إلى ابنة خادمته على أنها الإمبراطورة الجديدة.
احتجّت الفتيات جميعًا قائلات إنه اختار تلك التي لم تزرع شيئًا.

عند ذلك فسّر الأمير سبب هذا التحدي قائلاً: (هي وحدها التي زرعت الزهرة تلك التي تجعلها جديرة بأن تصبح إمبراطورة؛ زهرة الشرف. فكل البذور التي أعطيتكنّ إياها كانت عقيمة، ولا يمكنها أن تنمو بأية طريقة).

رواية الخروج واكتشاف العالم.. النسق البنائي للحكاية الشعبية. النوع الروائي الذي يؤدي فيه الخروج وظيفة شديدة الأهمية في السرد المعاصر هو ما يسمى برواية الصراع الحضاري

إن كل مغامرة خروج لاكتشاف النفس ومعرفة العالم وبذلك تذكرنا المغامرات بالنسق البنائي للحكاية الشعبية فكل حكاية كانت تبدأ بفعل الخروج حين يخالف الطفل الصغير نصائح الكبار فيهرب من منزله إلى العالم الواسع ويكتشف أن العالم ليس مكانا آمنا مثل منزله الجميل الذي تمرد عليه ولكنه يقاوم فكرة أن يعود مهزوما ويظل في البحث عن الحقائق التي يعرفها الكبار ولا يريدون له أن يصل إليها شفقة منهم عليه.

يظل فعل الخروج نسقا بنائيا في كثير من أشكال السرد.. لكن النوع الروائي الذي يؤدي فيه الخروج وظيفة شديدة الأهمية في السرد المعاصر هو ما يسمى برواية الصراع الحضاري وفيها يسافر البطل من الشرق إلى الغرب فيجد عالما آخر مختلفا في أنماط الحياة وطرائق السلوك وأنساق التفكير ومساحات الرؤية ويتعرض للصدمة الحضارية.

إن أهم روايات الخروج الحضاري وأكثرها جمالا ونضجا في السرد العربي المعاصر "عصفور من الشرق" لأديبنا المصري توفيق الحكيم و"موسم الهجرة إلى الشمال للروائي السوداني" الطيب صالح..

فإذا ما عدنا إلى التراث السردي سنجد أن رحلة ابن بطوطة هي النبع الذي تدفق منه تيار رواية الخروج أو رواية الصدمة الحضارية أو رواية الحوار الحضاري.

قصة مبكية ومؤثرة.. رسائل ريم التي كانت تكتبها إلى الله

استقيظت مبكرة كعادتي.. بالرغم من ان اليوم هو يوم إجازتي..
صغيرتي ريم كذلك، اعتادت على الاستيقاظ مبكرا..
كنت اجلس في مكتبي مشغولة بكتبي وأوراقي.

ريم: ماما ماذا تكتبين؟
الأم: اكتب رسالة الى الله.
ريم: هل تسمحين لي بقراءتها ماما؟؟
الأم: لا حبيبتي، هذه رسائلي الخاصة ولا احب ان يقرأها احد.

خرجت ريم من مكتبي وهي حزينة، لكنها اعتادت على ذلك، فرفضي لها كان باستمرار..
مر على الموضوع عدة اسابيع، ذهبت الى غرفة ريم و لأول مرة ترتبك ريم لدخولي...

يا ترى لماذا هي مرتبكة؟
الأم: ريم.. ماذا تكتبين؟
- زاد ارتباكها.. وردت: لا شيء ماما، إنها أوراقي الخاصة..
ترى ما الذي تكتبه ابنة التاسعة وتخشى ان أراه؟!!
ريم:  اكتب رسائل الى الله كما تفعلين..

قطعت كلامها فجأة وقالت: ولكن هل يتحقق كل ما نكتبه ماما؟
الأم: طبعا يا ابنتي فإن الله يعلم كل شيء..
لم تسمح لي بقراءة ما كتبت، فخرجت من غرفتها واتجهت إلى (راشد) كي اقرأ له الجرائد كالعادة، كنت اقرأ الجريدة وذهني شارد مع صغيرتي، فلاحظ راشد شرودي.. ظن بأنه سبب حزني.. فحاول اقناعي بأن اجلب له ممرضة.. كي تخفف علي هذا العبء..

يا إلهي لم ارد ان يفكر هكذا.. فحضنت رأسه وقبلت جبينه الذي طالما تعب وعرق من اجلي انا وابنته ريم..
واليوم يحسبني سأحزن من اجل ذلك.. وأوضحت له سبب حزني وشرودي...

ذهبت ريم الى المدرسة، وعندما عادت كان الطبيب في البيت فهرعت لترى والدها المقعد وجلست بقربه تواسيه بمداعباتها وهمساتها الحنونة.

وضح لي الطبيب سوء حالة راشد وانصرف، تناسيت أن ريم ما تزال طفلة، ودون رحمة صارحتها ان الطبيب أكد لي أن قلب والدها الكبير الذي يحمل لها كل هذا الحب بدأ يضعف كثيرا وانه لن يعيش لأكثر من ثلاث أسابيع، انهارت ريم، وظلت تبكي وتردد: لماذا يحصل كل هذا لبابا؟ لماذا؟

الأم: ادعي له بالشفاء يا ريم, يجب أن تتحلي بالشجاعة، ولا تنسي رحمة الله، انه القادر على كل شيء.. فأنت ابنته الكبيرة والوحيدة.
أنصتت ريم إلى أمها ونست حزنها، وداست على ألمها وتشجعت وقالت: لن يموت أبي.

في كل صباح تقبل ريم خد والدها الدافئ، ولكنها اليوم عندما قبلته نظرت اليه بحنان وتوسل وقالت: ليتك توصلني يوما ً مثل صديقاتي.
غمره حزن شديد فحاول إخفاءه وقال: إن شاء الله سيأتي يوماً وأوصلك فيه يا ريم..

وهو واثق ان اعاقته لن تكمل فرحة ابنته الصغيرة..
أوصلتُ ريم الى المدرسة، وعندما عدت الى البيت، غمرني فضول لأرى الرسائل التي تكتبها ريم الى الله، بحثت في مكتبها ولم اجد اي شئ..

وبعد بحث طويل.. لا جدوى.. ترى اين هي؟!!
ترى هل تمزقها بعد كتابتها؟
ربما يكون هنا .. لطالما احبت ريم هذا الصندوق، طلبته مني مرارا فأفرغت ما فيه واعطيتها الصندوق.. يا الهي انه يحوي رسائل كثيرة... وكلها الى الله!

- يا رب... يا رب... يموت كلب جارنا سعيد، لأنه يخيفني!!
- يا رب ... قطتنا تلد قطط كثيرة.. لتعوضها عن قططها التي ماتت!!!
- يا رب... ينجح ابن خالتي، لأني أحبه!!!
- يا رب... تكبر ازهار بيتنا بسرعة، لأقطف كل يوم زهرة واعطيها معلمتي!!!

والكثير من الرسائل الاخرى وكلها بريئة...
من اظرف الرسائل التي قرأتها هي التي تقول فيها:
- يا رب... يا رب... كبر عقل خادمتنا، لأنها ارهقت أمي..
يا الهي كل الرسائل مستجابة، لقد مات كلب جارنا منذ اكثر من اسبوع!، قطتنا اصبح لديها صغارا، ونجح احمد بتفوق، كبرت الأزهار، ريم تاخذ كل يوم زهرة الى معلمتها...

يا الهي لماذا لم تدعوا ريم ليشفى والدها ويرتاح من عاهته ؟؟!!..
شردت كثيراً ليتها تدعوا له..
ولم يقطع هذا الشرود الا رنين الهاتف المزعج، ردت الخادمة ونادتني:
سيدتي المدرسة...
- المدرسة!! ... ما بها ريم؟؟ هل فعلت شئ؟

أخبرتني ان ريم وقعت من الدور الرابع وهي في طريقها الى منزل معلمتها الغائبة لتعطيها الزهرة.. وهي تطل من الشرفة... وقعت الزهرة... ووقعت ريم...
كانت الصدمة قوية جداً لم اتحملها أنا ولا راشد... ومن شدة صدمته اصابه شلل في لسانه فمن يومها لا يستطيع الكلام.

- لماذا ماتت ريم؟ لا استطيع استيعاب فكرة وفاة ابنتي الحبيبة...
كنت اخدع نفسي كل يوم بالذهاب الى مدرستها كأني اوصلها، كنت افعل كل شئ صغيرتي كانت تحبه، كل زاوية في البيت تذكرني بها، اتذكر رنين ضحكاتها التي كانت تملأ علينا البيت بالحياة... مرت سنوات على وفاتها.. وكأنه اليوم...

في صباح يوم الجمعة اتت الخادمة وهي فزعة وتقول! انها سمعت صوت صادر من غرفة ريم... يا الهي هل يعقل ريم عادت؟؟ هذا جنون...
الأم: انت تتخيلين... لم تطأ قدم هذه الغرفة منذ ان ماتت ريم..
أصر راشد على ان اذهب وارى ماذا هناك..
وضعت المفتاح في الباب وانقبض قلبي... فتحت الباب فلم اتمالك نفسي..
جلست ابكي وأبكي... ورميت نفسي على سريرها، انه يهتز
.. آه تذكرت

قالت لي مرارا إنه يهتز ويصدر صوتا عندما تتحرك، ونسيت ان اجلب النجاركي يصلحه لها... ولكن لا فائدة الآن...
لكن ما الذي اصدر الصوت.. نعم انه صوت وقوع اللوحة التي زينت بآيات الكرسي، التي كانت تحرص ريم على قراءتها كل يوم حتى حفظتها، وحين رفعتها كي اعلقها وجدت ورقة بحجم البرواز وضعت خلفه..
يا إلهي انها احدى الرسائل.....

يا ترى، ما الذي كان مكتوب في هذه الرسالة بالذات..
ولماذا وضعتها ريم خلف الآية الكريمة..
إنها احدى الرسائل التي كانت تكتبها ريم الى الله،
كان مكتوبا،
- يا رب... يا رب... اموت انا ويعيش بابا...

نمط القصّ.. الكيفية التي بها يسرد عالم قصّه ليصير مرئياً.. تحديد القص على مستوى الصياغة

أما (نمط القصّ) فهو الكيفية التي بها يسرد عالم قصّه ليصير مرئياً.

وعلى هذا فإن الكلام على نمط القصّ يتحدد على مستوى الصياغة، فقد يتوسل أسلوباً مباشراً فيترك للشخصية أن تنطلق، ويبدو هو محايداً.
وقد تتعدد الأصوات أو تتداخل.

فيأتي الكلام بأسلوب فيه من التصرف ما يحملنا على وصفه بالحر.
وهذه الأنماط مستمدة من باختين الذي شرحها بالتفصيل في كتابه (الماركسية وفلسفة اللغة).

بالإضافة إلى أنها استمدت، في مجموع كتابها، من تحليل بروب للحكاية، وتحليل جينيت وتودوروف، مما جعل كتابها (معرضاً) انتقائياً لعدد من نظريات السرد الغربية المعاصرة.

وبهذا فقد أرادت الباحثة أن تكون (بنيوية)، فكانت (بنيوية شكلية) متخلية بذلك عن (بنيويتها التكوينية).

وهكذا راوحت، في كتبها النقدية الثلاثة، بين المنهج الاجتماعي والبنيوية التكوينية، فالبنيوية الشكلية، مؤكدة عدم استقرارها على منهج واحد، تجده جديراً بتحليل النص الأدبي.

المخطط الاستعجالي.. أوجه متعددة واقع التعليم هو نتاج اقتصادي واجتماعي

تقلدت مهمة التربية والتكوين وزارتان للتعليم تحت سيادة واحدة ونهج جديد ابتدأ من حديد وبدا يذوب مع ذوبان الجليد.
صرح المسئولون على ضرورة انقاد التعليم من أزمته واضمحلاله وهزاته وتراجعه و...

فعلا التعليم في وضع لا يحسد عليه ولو أنه وضع لا يتحمله رجاله فقط بل هو نتاج اقتصادي واجتماعي، بل هو روح المجتمع.
إن الدول الراقية تنظر بعين بصيرة الى التعليم وتعتبر كل هزة من هزاته أكثر ضراوة من الهزات الأرضية.
لكننا وللأسف نستهين الأمور ونفضل دوما المرور.

منذ ظهر الإصلاح العشري نادت نقابة مفتشي التعليم وغيرها من الغيورين على أنه مبتور وأنه غير واقعي، وأن أرقامه مزورة وتقاريره مكورة وتهليلاته مدورة التنظير شيء والتنفيذ شيء آخرنتقن التاليف والتكليف والتلفيف لكن هيهات هيهات بين ما نخطط له وما نطبقه وكأن عقلنا لا يتطابق مع فعلنا.

ولا أدل على ذلك أنه انعقدت عدة منتديات وملتقيات وكتبت التقارير تنادي بعدم تلاؤم الواقع مع مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتقصير الوزارة في تطبيق الكثير من بنوده، لكنهم كانوا يجمعون التقارير ويلقون بها في الزبالة – اسمحوا لي على هذا المصطلح غير اللائق- تغيرت الوزارة واكتشف تقرير دولي أوضاع التعليم الغير المرضية، فقامت الدنيا ولم تقعد، ما كان على الوزارة الا تحريك عجلة جديدة انطلقت من تقرير أعدته وسلمته لأعضاء المجلس الأعلى للتعليم فقرؤوه علينا، وارجعوا النسخة الأصلية الى أصحابها,لتنزل الوزارة بمخطط يوافق تماما ما جاء في تقرير المجلس الأعلى للتعليم من غياب وهدر واكتظاظ ومسئولية رجل التعليم وغيرها من المصطلحات التي تدغدغ لكنها قد لا تداوي الجرح.

- أيعقل أن يصلح المصلحون ما لم يصلحوا؟
- أيعقل أن مروجي منتديات الإصلاح هم أنفسهم مخططي المخطط المستعجل؟
- أيعقل أن يعترف منظرو الإصلاح بفشله ويكلفوا بإصلاح ما أصلحوا دون أن يصلحوا شيئا يذكر؟
إن الأسئلة كثيرة والإجابات عنها غير يسيرة والمنصتون إليها غير منصتين إلينا وفي عالم غير عالمنا.

ومما يؤلمني أن وزارتنا فعلا واعية إن كانت كذلك، بموضع التعليم وهزاته ونبراته وأنينه وأوجاعه، لكنني وبكل صدق أخاف أن تعيد كرة سابقيها بالتهليل والتمجيد لتسقط تعليمنا مرة أخرى في كبوة قد تكون أعمق مما سبق، لأن التسرع يكون دائما متدبدبا ويحتمل الخطأ أكثر مما يحتمل الصواب، ولعل الدارسين الأجانب يعترفون لما يتضمنه ميثاقنا الوطني تشريع يرقى الى مستوى الدول الراقية ومن تنفيذ ينزل الى مستوى الدول الدانية.

سأحاول في سلسلة من المقالات توضيح بعض معالم إصلاح الإصلاح ولو بشكل مقتضب وموجز تاركا للقارئ الكريم اغناءها بآرائه وأفكاره المفيدة. أستهلها ببرنامج أعدته وزارتنا لتكوين أطر الإدارة التربوية لتنفيذ ما جاء في المخطط المستعجل، وفعلا كانوا صائبين حيث نظم تكوين للمكونين بشكل مستعجل أواخر يونيو، وتم تكوين رجال الإدارة التربية أيضا بشكل مستعجل أواسط يوليوز,إذن الكل مستعجل، ناسين أنه (في العجلة الندامة وفي التأني السلامة).

وفيما يلي البرنامج الكامل لهذه التكوينات:
حيث انعقد في الفترة الممتدة مابين 23 إلى 27 يونيو 2008 بمركز التكوينات و الملتقيات -الرباط- والمدرسة العليا لأساتذة التعليم التقني دورة تكوينية لفائدة مكوني مديرات و مديري المؤسسات التعليمية، وتضمن الأنشطة التالية:

- 23 يونيو 2008: يوم تكويني لفائدة المكونين في محور تدبير الاكتظاظ أشرفت على تأطيره مديرية الإستراتيجية و الإحصاء والتخطيط.

- 24 يونيو 2008: يوم تكويني في محور محاربة الهدر المدرسي أشرفت على تنظيمه مديرية التربية غير النظامية.

- 25 يونيو 2008: محور كيفية التعامل مع ظاهرة الغياب تم تأطيره من طرف مديرية الموارد البشرية و تكوين الأطر.

- 25 و 26 يونيو 2008 بالمدرسة العليا لأساتذة التعليم التقني بالرباط يومين تكوينين في محور استعمال المعلوميات وتوظيفها في مجال التسيير الإداري أطرته مديرية إدارة منظومة الإعلام.

- 26 و 27 أشرفت مجموعة من المديريات المركزية على تأطير محور التدبير الإداري و المالي والتربوي والاجتماعي للمؤسسات التعليمية العمومية.

وقد شاركت الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين الثلاثة المعنية بمرحلة التجريب في تنشيط هذه الدورة التكوينية وهي:
- الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين للجهة (تازة-الحسيمة – تاونات).
- الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين للجهة (الشاوية ورديغة).
- الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين للجهة (مكناس – تافيلالت).

حتى في اختيار هذه الأكاديميات يبدو أن الوزارة تتعامل بمعايير الانتقائية لتمرير برنامجها بهدوء بعيدا عن الشوشرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فان أكاديمية الحسيمة لم تنه الكثير من التكوينات السابقة الا مؤخرا، وتعتبر من الأكاديميات التي لا زالت تحتكر مركزية التصرف في الميزانية بحيث لا تسرب الى النيابات التابعة لها سوى الغبار، ونيابة مكناس يكفي ما حصل بها من تسرب لأسئلة الباكالوريا والتي كادت تعصف بالامتحان ككل، إلا أن وزارتنا وضعت في هذه الأكاديميات الثقة لاعتبارات لا نعلمها وأهداف نجهل البعض منها.

فكان المخطط كالتالي:
+ تكليف المصالح المركزية للوزارة لثلاث أكاديميات جهـوية لتنظيم تكوين تجريبي لفائدة عينة من مديرات ومديري المؤسسات التعليمية بالابتدائي والثانوي بسلكيه في أفق تعميمه على باقي الأكاديميات خلال الأسبوع الثاني من شهر يوليوز2008.

+ عقد الوحدة المركزية لتكوين الأطر لاجتماعات تحضيرية مع المنسقين الجهويين للتكوين المستمر خلال 23 أبريل و06 مايو 2008 للتداول في الإجراءات العملية الكفيلة بإنجاح عملية التكوين.

+ تعيين الأكاديمية للفريق المكلف بتأطير الدورات التكوينية سواء خلال فترة التجريب أو التعميم.
+ تحديد شروط انتقاء المستفيدين من التكوين المركزي بناء على:
- الكفاءة والخبرة اللازمة.
-إعداد مجزوءة للتكوين وفق المعايير المتفق عليها.
- الالتزام بالتأطير الجهوي خلال الفترة المحددة لذلك بالأكاديميات.

+ تقديم ثلاث مترشحين عن كل محور أو أكثر حسب حاجيات الأكاديميات معايير انتقاء عينة المستهدفين بالتكوين:
- مراعاة تمثيل جميع الأوساط الجغرافية (حضرية – شبه حضرية - مراعاة التمثيل حسب الجنس هذه العناصر التي طلبتها مركزيتنا من جهوياتنا عناصر جوهرية لا أظن أن جهة ما تعتمدهابالشكل المطلوب وبالهدف المقصود وإن توفرت ستكون لا محالة بشكل نسبي، الا إن كانت مركزيتنا وجهوياتنا تفسر هذه المصطلحات تفسيرا خاصا، فقد تعني الكفاءة تطبيق تعليماتهم حرفيا وتمرير أوامرهم خطيا، وقد تعني الجدية عدم السؤال والصمت والانصات، وقد تعني التجربة اختيار نفس العناصر حفاظا على نفس النهج والمنهج، وقد يعني الاستعداد للانخراط و للتمرير حرفيا بعيدا عن الشوشرة والبحث والتنقيب والتعقيب، وقد تعني... وقد تعني... الشيء الكثير... وقد تعني غير ما أعتقد، أتمنى أن يكون كل ذلك في صالح منظومتنا وأبنائنا.

بدايات تنفيـذ المخطط الاستعجالي.. الإلحاح على الدخول المبكر إلى المدارس التعليمية وتوحيد الزي المدرسي وتغيير الزمن المدرسي وتنظيم إيقاعاته الصفية في المدارس الابتدائية والدعوة إلى مدرسة النجاح

بدأت وزارة التربية الوطنية في تنفيذ المخطط الاستعجالي مبدئيا من الدخول المدرسي لسنة 2009م عبر تنفيذ مجموعة من القرارات الأولية، وإصدار مجموعة من المذكرات الوزارية الممهدة لتفعيل المخطط الاستعجالي في مجال التربية والتعليم.

وتتعلق هذه المذكرات بــ:
- الإلحاح على الدخول المبكر إلى المدارس التعليمية.
- توحيد الزي المدرسي.

- تغيير الزمن المدرسي.
- تنظيم إيقاعاته الصفية في المدارس الابتدائية.

- الدعوة إلى مدرسة النجاح.
- تكوين الأساتذة في بيداغوجيا الإدماج.

- تكوين رجال الإدارة في مجال التدبير والتسيير.
- تأهيل الأساتذة في مجال الإعلاميات ضمن مشروع جيني Génie.

- توزيع مليون محفظة.
- استحداث بعض الكتب المدرسية، مع تغيير البعض منها (كتب التربية الإسلامية مثلا).

- حذف بعض الدروس الصعبة من المقررات الدراسية (حذف بعض دروس قواعد اللغة من كتب العربية بالتعليم الإعدادي والتأهيلي).

- إصدار مذكرة المرشد التربوي لمساعدة المفتش أو المشرف المؤطر بسبب تقلص عدد المفتشين داخل المنظومة التربوية.

بيد أن التطبيق الفعلي الحقيقي للمخطط الاستعجالي سيكون بلا ريب مع تنفيذ الميزانية المالية لسنة 2010م.
وسيمتد هذا المخطط الاستعجالي الإصلاحي إلى غاية 2012م.

آليات تنفيذ المخطط الاستعجالي.. الاعتماد على ميزانية الدولة المخصصة لقطاع التعليم والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. الحوار والانخراط الجماعي والمشاركة والتعاقد واللاتركيز والاجتهاد والمرونة والفعل والتقويم والمراجعة

قررت وزارة التربية الوطنية، في إرساء مخططها الاستعجالي لإنقاذ المنظومة التربوية وإصلاحها، أن تعتمد، أولا، على ميزانية الدولة المخصصة لقطاع التعليم.

وستستعين، ثانيا، بما يخصص لها من نفقات وموارد إضافية. وثالثا، ستعتمد على ما ستحصل عليه من مساعدات أخرى عن طريق الشراكات الداخلية (الجماعات المحلية وعدد من الفرقاء)، وربما عبر الشراكات الخارجية.

وستلتجأ، رابعا، إن أمكن لها ذلك، إلى الاستعانة بالقروض الدولية لتفعيل هذا المشروع التربوي الجبار والطموح.

كما يستفيد هذا المخطط الاستعجالي من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من خلال توزيع مليون حقيبة على المتعلمين المعوزين من أجل توفير نسبة كبيرة من التلاميذ المتعلمين.

وهكذا، فقد استفاد المخطط الاستعجالي بميزانية تقدر بــ32مليار درهم، حيث إن جزءا كبيرا منها ستوفره الدولة.

وسيتم تطبيق هذا المشروع الاستعجالي عبر التدرج، وبطريقة تنفيذية عمودية من الأعلى نحو الأسفل.

وستعتمد الوزارة في التطبيق مجموعة من الآليات كالحوار والانخراط الجماعي والمشاركة والتعاقد واللاتركيز والاجتهاد والمرونة والفعل والتقويم والمراجعة.

البرنامج الاستعجالي في الجامعات ومحاولة الدولة إصلاح التعليم أو إصلاح" الإصلاح".. التركيز على الواجبات أكثر من الحقوق يريد إلزامية الحضور ومحاربة الهدر المدرسي

تميزت السنوات الأخيرة للتعليم بالمغرب بوضعية مزرية فمنذ الاستقلال و التعليم في المغرب يعرف مجموعة من التقلبات كان أخرها التقرير الذي أصدره "صندوق النقد الدولي ووضع المغرب في المرتبة قبل الأخيرة أمام جيبوتي.

هكذا كان الإصلاح الجامعي وكانت أغلب الجامعات تقاطع الدروس و الامتحانات وكانت مواقف الفصائل بتلاوينها رافضة لهذا الأخير واعتبرته مجرد ارتجالية وليس جوابا على الوضع القائم بالتعليم العالي في المغرب، رغم النضال و الرفض طبق "الميثاق الوطني للتربية و التكوين" ولو بتجميد بعض بنوده في بعض المواقع الجامعية.

ولاشك أن هذه السنة الدراسية القادمة ستكون جديرة بالذكر خصوصا مع تطبيق ما سمي "البرنامج الاستعجالي في الجامعات حيث تحاول الدولة إصلاح التعليم أو إصلاح" الإصلاح" كما يقول البعض و أنا أقول تأزيم ما يمكن تأزيمه.

هذا البرنامج أو "المخطط الاستعجالي" لا يستجيب لمتطلبات الطلبة و التلاميذ و الأساتذة خصوصا أنه يهمشهم و البيانات الصادرة عن النقابة الوطنية للتعليم العالي رفض هذا المخطط لكن الواضح أن الدولة عندما تسعى إلى تطبيق شيء فلا يمكن أن يوقفها أحد.

هو برنامج غير متكامل يركز على الواجبات أكثر من الحقوق يريد إلزامية الحضور ومحاربة الهدر المدرسي ويحدد إجبارية التعليم في 15 سنة يريد الكثير لكنه ينسى الوضع الاجتماعي للطالب والوضعي المزري لأغلب أبناء المغاربة الذين يوفرون من طعامهم من أجل تدريس أبناءهم كذلك يتجاهل الطلبة في حقهم في المنح والرفع من هذه الأخيرة يتجاهل أبناء القرى وحقهم في تقريب المدارس والثانويات إلى مقر سكناهم و يقولون "إصلاح".

فعلا إنه تأزيم ما يمكن تأزيمه في طريق خوصصة مايمكن خوصصته وإنما هذا الأخير إنما تنفيذ للخط الثابت الذي يهدف التملص من الدعم الاجتماعي والصحي ودعم المهرجانات والأنشطة التافهة على حساب أبناء الشعب..

إبراهيم عليه السلام هو الإمام والمثال والقدوة والأسوة في المسارعة إلى تنفيذ أمر الله سبحانه

هـذا نبي الله إبراهيم جعله الله إماماً للناس جميعاً، وجعل النبوة في ذريته دون سائر البشر، ولم يصل إبراهيـم عليه السلام إلى ما وصل إليه من إمامة الدين إلا أنه أُمِرَ بأوامر إلهية تخالف معقول البشر فنفذها إبراهيم عليه السلام على النحو الذي أمره الله بها تماماً.

قال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً}، وكان مما أمر به مما يخالف معقول البشر أن يلقي زوجته هاجر وابنها اسماعيل في أرض مقفرة موحشة لا إنس فيـها ولا شيء وهي أرض مكة، وليس معهم أحد على الإطلاق وليس لهم من الزاد إلا جراب تمر، وقربة ماء... ثم كر عائداً وحده إلى بلاد الشام.

وهـذا الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام يخالف معقول البشر فإن أحداً لو فعل ذلك من عند نفسه لكان فعله جريمة وإثماً!!

وكذلك أمر الله سبحانه وتعالى له بأن يقتل ابنه بكره إسماعيل عليه السلام بعد أن شب وبلغ مبلـغ الرجال، فسارع إلى تنفيذ الأمر دون تلكأ أو نظر، أو تسويف، ولو أن إنساناً عمد إلى أن يقتل ابنه دون أمر من الله لكان هذا جريمة وإثماً.

فقـد روى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: [أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قِبَلِ أم اسماعيل، اتخذت منطقاً لتُعَفِّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجـد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاءاً فيه ماء، ثم قَفَّى إبراهيم منطلقاً.

فتبعته أم اسماعيل فقالت: يا إبراهيـم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً. وجعل لا يلتفت إليها فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ {يشـكرون} وجعلت أم اسماعيل ترضع اسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يَتَلَبَّط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثـم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل تـرى أحداً فلم تَرَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فذلك سعي الناس بينهما].

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صَهْ!! تريد نفسها، ثم سمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث!! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوِّضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف...

قال ابن عبـاس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من زمزم- لكانت زمزماً عيناً معيناً].

قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضَّيعَة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كُدَاء، فنزلوا في أسفل مكـة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا.

قال: وأم اسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم. ولكن لا حق لكم في الماء!! قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنْسَ] فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.

وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.
وماتت أم إسماعيل.

فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرٍّ!! ونحن في ضيق وشدة!! فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له يُغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك، فأخبرتـه، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم! أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غَيِّرْ عتبة بابك، قال: ذاك أبي،وقد أمرني أن أفارقك!! الحقي بأهلك فطلقها!! وتزوج منهم امرأة أخرى.

فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قـال: كيف أنتم؟ وسألها ما طعامكم؟ قالت: اللحم!! قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قـال النبي صلى الله عليه وسلم: [ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه]. قال: فهما لا يخلـو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريهِ يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليـه فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء. قالت: نعم! هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

ثـم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يناوله الحجارة يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}] (رواه البخاري)

لن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد هو صفاتها التي تجعل رجلها أعظم منها

رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت، وكان قلبها يحييها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه، ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه!

كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنها، أما قلبها ففي الثمانين أو فوق ذلك؛ هي في سن الشباب وهو متهدم في سن الموت.

وكانت فاضلة تقية صالحة، لم تتعلم ولكن علمها التقوى والفضيلة، وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تقر في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معا، وتأخذ ما تعطى من يد خالقها رحمة معروفة أو رحمة مجهولة، هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي، وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة، وتصير الأم، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.

ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل أعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيا وإلهامًا وعزاء وقوة، أي زيادة في سروره ونقصا من آلامه.

ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتها التي تجعل رجلها أعظم منها.

ومشيت من البيت الذي ألبسته الميتة معنى القبر، إلى القبر الذي ألبس الميتة معنى البيت وأنا منذ مشيت في جنازة أمي "رحمها الله" لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فأتبع من الميت صديقا ليس رجلا ولا امرأة، لأنه من غير هذه الدنيا؛ وأمشي في ساعة ليست ستين دقيقة، لأنها خرجت من الزمن؛ ولا أرى الطريق من طرق الحياة، لأنني في صحبة ميت؛ وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عمي الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية خفيت من شدة ما ظهرت.

يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، ولكن خضم آخر زخار متضرب، هو ذلك البحر الترابي العظيم المسمى "المقبرة".

يقولون: إن الحياة هي... هي ماذا -ويحكم- أيها المغرورون؛ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟

لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبا مع قلوبهم فيحس المرء بقلب، ويعمل بقلب آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرفة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيا إلى ربه, ما في ذلك شك, ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فر من ربه.

هبت الريح في السحر على روضة غناء فطابت لها، فعقدت عقدتها أن تتخذ لها بيتا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه. يا لها حكمة من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف.
يا لها حكمة سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحمق!

همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيق على نفسه أو وسع، وأصبح ينظر بعين من عمله إما مبصرة أو كالعمياء؛ فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: إن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل.

وما أعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا!

ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا، هو بعينه الذي يكون مستقبلكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا تنقصون. وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى, من العظماء إلى الفقراء؛ ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وأنتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة؛ إن التام على الأرض من تم بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تم بنفسه وحدها.

يا أسفا! لن يقول الميت للحي شيئا، ومن يدري؟ لعلنا ونحن نلحد للموتى وننزلهم في قبورهم، يرون بأرواحهم الخالدة أننا نحن موتاهم المساكين، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه "الكرة الأرضية" وهل الكرة الأرضية من اللانهاية إلا حفرة برجل نملة لتدفن فيها نملة.الحياة... أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد, حلال أو حرام.

ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسة أطفال صغار لو أنهم هم الذين انتزعوا من أمهم لترك كل واحد على قلبها مثل المكواة المحمى عليها في النار إلى أن تحمر؛ ولكن أمهم هي التي نزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفا لسكرة الموت عليها.
وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم. وكانوا هم عقلها في ساعة الموت!

تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها!
تبارك الذي أثاب الأم ثواب ما تعاني، فجعل فرحها صورة كبيرة من فرح صغارها!

وجاء أكبر الأطفال الخمسة، وكأنه ثمانية أرطال من الحياة لا ثمانية أعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم!

وطغت عليه الدموع فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
وظهر الانكسار في وجهه يعبر ببلاغة أنه قد أحس حقيقة ضعفه وطفولته بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلس مستسلما تترجم هيئته معاني هذه الكلمة: "رفقا بي!".

ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها!
ثم يرخي عينيه في إغماضة خفيفة، كأنما يرجو أن يرى أمه في طويته!

ولا يصدق أنها ماتت، فإن صوتها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس!
ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه، فينطق جسمه كله بهذه الكلمة" يا أمي!".

أحس -ولا ريب- أنه قد ضاع في الوجود، لأن الوجود كان أمه.
ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة, لأن فيه قلب أمه وروحها.

وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير؛ لأن تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة قد أخذت منه وتركته بلا حق في أحد؛ وليس لأحد أمان!
ولبسته المسكنة، لأن له شيئا عزيزًا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه!
ولبسته المسكنة، لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان!

وارتسم على وجهه التعجب، كأنه يسأل نفسه :"إذا لم تكن أمي هنا، فلماذا أنا هنا؟".

ثم تغرغرت عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها!
ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة؛ نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة!

انتهت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الأم؛ فهذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى؛ إذ يأتي الغد ومعك أمك!

وبدأت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الزمن، وسيأتي كل غد محجبا مرهوبا؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك!
الأم... يا إلهي! أي صغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟
مصطفى صادق الرافعي

القلب المسكين.. الراقصة التي ترقص بمعدتها طلبا للخبز وليس للمتعة

... أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقت بها صاحبته وهي ترقص حين عرفته -غير ما رأيتها أنا وغير ما رأى الناس: كانت لنا نحن ابتسامًا عذبًا من فم جميل يتم جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديثًا قديمًا كان بينهما؛ واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفت لنا نوعًا من الحسن ووصفت له نوعًا من الشوق، ومرت علينا شعاعًا في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب...

وقوي إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدل على نفسه ضروريا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء، وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة؛ وللمرأة لحظات تكون فيها بكفرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلًا أمامها في رجل تهواه؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويفسر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويعتنق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل؛ وكانت هي في هذه الساعة... فغلبت -والله- على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تقطع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة: بينه وبينها جمالها وعطرها هواؤها والحاسة التي فيه.

وجعل يستشفها من خلال أعضائها، ثم قال لي: أنظر -ويحك-! لكأن ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى.
قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث.

قال: كلا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر، تتحرك بدلًا من أن تقرأ وترى بدلًا من أن تسمع؛ قصيدة بلا ألفاظ، ولكن من شاء وضع لها ألفاظًا من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.
قلت: والأخريان؟

قال: كلا كلا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها.. ترقص للخبز لا غير؛ أما "تلك" فرقصها الطرب مصنوعًا على جسمها ومصنوعًا من جسمها؛ إنها كالطاووس يتبختر في أصباغه. في ريشه، في خيلائه، بخترة يضاعفها الحسن ثلاث مرات؛ ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشرًا ذيله في كبرياء روحه الملوثة لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.

وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلة في الهواء.. فقال صاحبنا: آه! لو أن هذه الحسناء تصدقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهمًا وقبلة..

قلت: يا عدو نفسه! هذه قبلة محررة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا.. ولكنك دائمًا في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة؛ تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العش وتتركه فارغًا من طيره؛ إن امرأة تحبك لابد منتهية إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.

ثم بدأ فصل آخر على المسرح، وظهر رجال ونساء وقصة؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثل فقيهًا، وآخر يمثل شرطيًا؛ فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقط، ما دام الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم ي هذه الدنيا من شرفاء لو حققت أمرهم وبلوت الباطن منهم- إنما يشرفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر.. وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون.. وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفجرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة.. ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن، وإلا ففيم كان تعب الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس؟
العقدة السماوية في هذه الأرض أن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق الإنسان إلا حيوانًا ملطفًا تلطيفًا إنسانيًا، ثم أراه الخير والشر وقال له: اجعل نفسك بنفسك إنسانًا وجئني.

قلت: يا عدو نفسه! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفًا إنسانيًا؟
قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا إغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراء لذلك الإغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر؛ أغالب ناموسًا من نواميس الكون، وأدافع قانونًا من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفًا وإلحاحًا وقهرًا للنفس، من قيل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة؛ فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممنعة بعيدة المنال، لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العنيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي!

ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل، فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت "الحقيقة" في شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمنًا قلبيًّا يحصر وجوده في وجودها.

وليس فن الحب شيئًا إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه، كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة.

والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينهما إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون، غير أنها في الحب تجد لها فكرًا وخيالًا من المحبوب، فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهول من أسرار الألوهية؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل، وتراه في وهم محبه يفرض فروضًا ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.

ومن ثم لا عصمة على المحب إلا إذا وجد بين إيمانين، أقواهما الإيمان بالحلال والحرام؛ وبين خوفين، أشدهما الخوف من الله؛ وبين رغبتين، أعظمهما الرغبة في السمو.

فإن لم يكن العاشق ذا دين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون... وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج.

فإن لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلما تجد الحب إلا وهو في جراءة كفرين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين؛ وبهذا لا يكون في الإنسان إلا دون ما هو في بهيمتين!

ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح، ظهرت هذه المرة في ثوب مركزة أوروبية تخاصر عشيقًا لها، فيرقصان في أدب أوروبي متمدن... متمدن بنصف وقاحة؛ متأدب... متأدب بنصف تسفل؛ مشروع... مشروع بنصف كفر؛ هو على النصف في كل شيء، حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة..!

وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غلامية مجممة الشعر* ممسوخة بين المرأة والرجل؛ فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل..

وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع، فانفصل عني الصديق، وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد النظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة؛ وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم، ونقل صاحبته إلى رتبة حواء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة!

والعجب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نورًا جديدًا على المسرح المكشوف في الحديقة، فكأنه فعل هذا ليتم الحسن والحب؛ وأخذ شعاع القمر السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي، فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين.
---------------
1 المعجمات: هي اللواتي يتخذن شعورهن جمة "بضم الجيم" أي يقصصنها، كما يفعل نساء هذه الأيام، تشبهًا بالرجال؛ وقد كان ذلك مما تصنعه نساء العرب ونهى الإسلام عنه كراهة لهذا التشبه؛ فقص الشعر "على المودة" هو التجميم.

ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنه بين اللحظة واللحظة يعبر تعبيرًا جديدًا بقسماته وملامحه الفتانة؛ كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق، وكل السواد الذي في عيون المها يجتمع في عينيه، وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين.

ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كأنه يتدفق هنا وهنا؟ إنه جسم كامل الأنوثة، إنه صارخ صارخ، إنه عالم جمال كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه "جهة فوق" و"جهة تحت"؛ لو امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس...

ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلة به رويدًا رويدًا إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المطل، وكان هذا الفم ينزل رويدًا رويدًا؛ ليدرك الهارب...

وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلي.. ثم تلقَّت القبلة، أما هو، أما مجنوننا، أما صاحب القلب المسكين؟...
مصطفى صادق الرافعي

ما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته وكأنه هو الذي يصلح في داخلك ما اختل من قوانين الطبيعة

قال محدثي: ولما قلت لهما: أيها العجوزان، أريد أن أسافر إلى سنة 1895 نظر إلي العجوز الظريف "ن"، وقال: يا بني، أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة... فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا؛ لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا.
قال الأستاذ "م": وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في "المجهول"؟

قال: ويحك يا "م"! لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل من قوانين الطبيعة، فلا تستبين فيك السن وقد نيفت على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته..

قال "م": فأنت أيها العجوز الصالح بيت قد تركه الشيطان وعلق عليك كلمة "الإيجار".. فضحك "ن"، وقال: تالله إن الهرم لهو إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهمًا لا خطأ فيه؛ إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة، ويلمس باليد الطاهرة... وتالله إن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب.

قال "م": فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحت بلا شيطان؛ لأن الهرم قد أدب أعصابك...
---------------
* الجمهور من أهل اللغة على أن "العجوز" وصف خاص بالمرأة إذا شاخت وهرمت، ولكن جاء في اللسان: "ويقال للرجل عجوز"، ونقله صاحب التاج عن الصاغاني، ونحن على هذا الرأي، ولو لم يأت فيه نص عن العرب لابتدعناه وزدناه في اللغة؛ ووجهه عندنا أن الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة، فلم يعودا رجلًا وامرأة، فاستويا في العجز، فكان الرجل قمينًا أن يشارك المرأة في وصفها، فيقع اللفظ عليهما جميعًا!

وإنما امتنع العرب أن يقولوا للرجل "عجوز"، وخصوا ذلك بالمرأة، تعسفًا وظلمًا وطغيانًا، كدأبهم مع النساء، فإذا شاخت المرأة فقد بطلت أنوثتها عندهم وعجزت عن حاجة الرجل وعجزت في كثير، ونفتها الطبيعة وبرأت منها؛ أما الرجل فبالخلاف؛ لأنه رجل؛ وإذا شاخ وبطل وعجز ولم يستطع أن يكابر في المعنى- كابر في اللفظ.. وأبى أن يقال إنه "عجوز"، وزعم أن ذلك خاص بالمرأة..

إلا أن هذا تزوير في اللغة، وإن كان للرجال عليهن درجة فذلك في أوصاف القدرة لا في أوصاف العجز!
قال العجوز الظريف: وعند من غيرنا -نحن الشيوخ- تطاع الأوامر والنواهي الأدبية حق طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتد على أحد... لا تفسد امرأة على زوجها...

قال المحدث: وضحكنا جميعًا، وكان العجوز "ن" من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين؟ فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله.

قال "م": لقد أُهتر الشيخ* يا بني؛ فإن هذا من خرفه فلا تصدقه.
قال "ن": والله ما خرقت وما قلت إلا حقًا، فههنا ما عمره خمس سنوات فقط، وهو أسناني..
قلت: "ورينا وريت" وسنة 1895؟

قال الأستاذ "م": أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به؟
وما كاد العجوز "ن" يسمع هذا حتى طرف بعينيه** وحدد بصره إلي وقال: أئنك لأنت هو؟ لعمري إن في عينيك لضجيجًا وكذبًا وجدالًا واختيالًا وزعمًا ودعوى وكفرًا وإلحادًا؛ ولعمري...

فقطعت عليه وقلت: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون"، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجسامًا والشيوخ عقولًا؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يدينوا بالماضي، فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف!

قال العجوز: رحم الله الشيخ "ع"؛ كان هذا يا بني رجلًا ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجرًا على الكراسة الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورق لأديب، ولم يعجبه خطه فكلمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشًا عن الكراسة؛ منها عشرة للكتابة، وعشرة غرامة لإهانة الكتابة...
---------------
* أي أخطأ في الرأي من تأثير الكبر.
** أي حرك أجفانهما.

نعم يا بني، إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة "اثنان واثنان أربعة"، لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها؛ وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل.

قال الأستاذ "م": وكيف ذلك؟
قال العجوز: زعموا أن مغفلًا كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يومًا في بعض شأنه إلى نار، ولم تكن امرأته في دارها فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطبًا فدخن ولم يشتعل، ففكر المغفل قليلًا ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته... وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها!

قال الأستاذ "م": إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحدًا مرتين.

لقد قرأت يا بني كثيرًا فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئًا ذا قيمة؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم، وما كان جيدًا فهو كالنفائس في ملك اللص: لها اعتباران، إن كان أحدهما عند مقتنيها ... فالآخر عند القاضي*.
كلا أيها اللص، لن تسمى مالكًا بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك.

يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود، إلى آخره وإلى آخرها... فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوته الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة؛ إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر المريض حين يهدم من صاحبه -يهدم في الكون بصاحبه؛ ففيها أيضًا القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله- يبنى في الكون بأهله.
---------------
* في كتابنا "تحت راية القرآن" كلام كثير عن التجديد والمجددين، وما نراه من ذلك حقًا وما نراه باطلًا.

قال العجوز "ن": زعموا أن أحد سلكي الكهرباء كان فيلسوفًا مجددًا، فقال للآخر: ما أراك إلا رجعيًا؛ إذ كنت لا تتبعني أبدًا ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أبدًا إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي. فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معًا فما أذهب فيك ولا تذهب في؛ وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي.

قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخره؛ ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبست بعض العقول كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية: تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى!

كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو، فلو أطعناهم لم تبق لشيء قاعدة.
قال الأستاذ "م" إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها؛ فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيز معروف؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان كحركات الجنين؛ يرتكض ليخرج عن قانونه، فإن استمر عمله ألقى به مسخًا مشوهًا من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قذف به ميتًا من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته.

هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد ما دام فيه؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجددًا لا يعجبه مثلًا وضع القلب ولا يرضيه عمل الدم، ولا يريد أن يكون مقيدًا؛ لأنه حر.

انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلًا ليدبر، ومدبرًا ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثيابًا يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب، وكأنها تقول: أيها الناس، إن ههنا الإنسان الذي هو قانون دائمًا، والذي هو قوة أبدًا، والذي هو سجن حينًا، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال.

أتحسب يا بني هذا الشرطي قائمًا في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلا يا بني؛ إنه واقف أيضًا في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية؛ فكيف لا يمحوه المجددون مع أنه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى؟

لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراهٌ لتنطلق به الرغبة، وقد لتتمجد به الحرية؛ وكان هو نفسه بلاء من ناحية؛ ليكون هو نفسه عصمة من الناحية التي تقابلها.

يا بني، كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب -كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه: فإما تخريب العالم أيها المجددون، وإما تخريب مذهبكم..

قال العجوز "ن": أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا؟ وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم.

فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة؛ وكل الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغايتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها.

قال المحدث: ورأيتني بين العجوزين كأني بين نابين؛ ولم أكن مجددًا على مذهب إبليس الذي رد على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغير ما لا يتغير؛ فسكت، حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة 1895؟
مصطفى صادق الرافعي

فضيلة الجمهور في ضمان تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل

وقال صاحب سر "م" باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أراقب الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن، ومبادرة لما يتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل.

وانتهى إلينا يوما أن راجفة من هذه الزلازل سترجف بفلان من أهل الرأي الحر؛ الذي يستقل ولا يتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرح ولا يجمجم، وأن قوما ثوروا عليه الغبار الآدمي من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحينون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم.

أما فلان هذا فرجل سياسي عنيد أضاع الحق كله لأنه لا يرضى بنصف الحق... وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب؛ فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم إلا بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب؛ لا يموت لأنه غير باطل، ثم لا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلا كالمصباح الوهاج فألقوا عليه الغطاء، فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحر الصريح كالنبي المكذوب يرد صدقه؛ لا لأنه غير صدق، ولكن لأنه غير مستطاع، أو غير ملائم.

ومن آفاتنا -نحن الشرقيين- أننا نستمرئ العداوة، وننقاد لأسبابها، ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم؛ كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فرد الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد، ومن توثب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثلب؛ والطعن والتجريح، وهو الجفوة والخصومة واللدد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شر وفساد وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والرد على عظيم منا كأنه يرد على منزلته في الناس لا على منزلته في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبير بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب الملك من مالكه وطرده منه... ومن ثم كان الدفاع بالمكابرة أصلا من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجة للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلا للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كل إنسان نفسه إمبراطورًا على الحق... فلا جرم لا ترد كلمة على كلمة إلا بحرب.

قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا، فجمع رؤوس المؤتمرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلبهم تقليبه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسدًا إذا لم يكن الجمهور صحيحا، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبت تجادلهم وتحتج عليهم بأنهم قبلوها, قالوا: هذا كان أمس... فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين.

ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلاف بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حق رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟

قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي، إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنيين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد. فإنها تستغرقه؛ بيد أن هذه ليست حال عشرة قروش يا أصدقائي...

نعم إن قطع الخلاف ضرورة من ضرورات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة؟ فذلك جدال محسوم من نفسه بلا جدال.

إن أساس انخذالنا -نحن الشرقيين- في قلوبنا، إذ لا نعتبر المعاني العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب.

لستم أحرارًا في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكون الرأي الذي يعارضكم رأيا حقا وتركتم منابذته فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلا فإظهاره باطلا هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجردوا أحدًا من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدعي أنها الحق، ثم تدعي لنفسها حكمة، فقد كذبت مرتين.

اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف، وتساجلا في مقالات عدة، فلما عجز أضعفهما حجة وكعمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضه فبيتها ونام عنها على أنه يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح آراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثلت له المقالة في أحلامه جسما حيا موهونا مترضضا، مخلوعا من هنا مكسورا من هناك، مجروحا مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله! إن أردت أن تغلب صاحبك وتسكته عنك، فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة...

قال صاحب السر: وضحك القوم جميعا، وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين، قد خلصت دخلتهم لذلك الرجل الحر وتنصلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجز من القول، ولكن تصويره للمسألة كان حلا لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جوابا عن شيء في أنفسهم، ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى أنهم ليجازون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة؟ وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته، بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة، حتى لترجع الفروق الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد وكأنها من الخلاف والمباينة فروق جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة، وإنسان من أمة أخرى تعاديها.

قلت: إن رأي الكثرة قانون يا باشا.
قال: هذا صحيح، ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألا يخرج الرأي على القانون، والثاني ألا تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة نقص للشرطين معا؛ ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات، واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم، ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت لنية صادقة مخلصة، لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأييين، وما من ذلك بد.

الحقيقة يا بني أن الجماهير الشرقية ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يعتد بها، إذ لا تزال في أول عمرها السياسي، وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبهه إلا الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها، لا نزاع حق يستعلي بأدلته.وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثلة جافة، منقطعة النماء من أسبابها، كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنضر الفرع ويثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.

فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسري، ومن كان بسبيل من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة، وقول "نعم" بالحجة وقول "لا" بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدور في كل مملكة بعضها ببعض، وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يملأ الفراغ الذي نراه خاويا بين الشعب والحكومة، وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ؛ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه، ويختفي ما يختفي.منا قوم موظفون في الحكومة؛ لكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفة عندهم؟

"اعتذار": بهذا المقال انتهت أحاديث الباشا؛ فقد أنبأنا صاحب السر أنه سيكتم السر...
مصطفى صادق الرافعي

التعصب.. إعلان الأمة أن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غيره

وقال صاحب سر "م" باشا: جاءني يوما صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل وأولئك للكذب والتهم والمغالطات.

وهو أذن وعين ولسان وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة، معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ وتصلح بإفساد، وتداوي الحمى بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في شفتي رضيعها المسكين.

ودخل علي هذا الكاتب في الساعة التي خرج فيها من غرفتي صاحب جريدة أسبوعية في مدينتنا، كان قد نفخ الضفدع ليجعلها ثورًا، فحول صحيفته إلى جريدة يومية، وهو لا يجد مادتها ولا يستطيع أسبابها، إلا أنه كدأب الناس عندنا كان يحسب الكذب في العمل سهلا مهلا1 كالكذب في القول، فلم يتعاظمه الأمر العظيم، واقترض لعمله كل ألفاظ النجاح من اللغة...

وظن عند نفسه أنه سيخوف بجريدته الكبراء والأعيان والمياسير حتى يغلب على جميعهم، ويشرك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم؛ فلم تعش جريدته إلا أياما وأتلف ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها؛ وعلم آخرا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جملا، لا يقبل منه أن يكذب على الكذب نفسه، فيزعم أن الناقة هي التي نتجت هذه الخروف...

ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووزره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تجمع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف؛ حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفا في هذه الجريدة لجمع الاشتراك...

وتحرى هذا الصحفي أن يستأذن يوما على الباشا وفي مجلسه حشد عظيم من السراة والأعيان والعمد، وكان جمعهم لأمر، فما هو إلا أن دخل الصحفي حتى ابتدره الباشا بهذا السؤال: يا أستاذ، ما هي تلغرافات أوروبا عن الحوداث التي ستقع غدا؟
---------------
1 هذا الاستعمال مما وضعناه نحن وليس في اللغة، وهو من باب الاتباع كقولهم: حسن بسن، وشيطان ليطان... إلخ.

فضج المجلس بالضحك، وفقد المسكين بهذه النكتة وأربعين دينارًا كان يؤمل أن يخرج بها، وأعلن الباشا في أظرف إعلان وأبلغه كذب الرجل ونفاقه وإسفافه، وإنه من رجال الصحافة المدورة تدوير الرغيف.

قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها، فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا شعوره أن بلاده قد ربته "للخارج"، فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر، فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ، أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر، يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافد البصيرة قائما على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا، وليس غير إنجلترا.

ثم تفرست في الرجل أريد كنهه وحقيقته، فإذا له نفس مفتوحة مقفلة معا، كغرف الدار؛ الواحدة يفتح بعضها لما فيه كيما يرى، ويقفل بعضها على ما فيه كيلا يرى.

وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه؛ تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني؛ يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرنة، قد نفت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تمد هذه النفس طبيعة مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسن بها وكل ما يحسن منها.

لقد خيل إلي، وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا -نحن الشرقيين- فإن خيبة النفس لا تتم معانيها أبدًا في النفس العاملة الدائبة, التي يشعرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يرفض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يرفض في السماء.

وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة، فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله، وقال لي مبتدئًا: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين؛ فأخلاقنا تظهر دائما في العمل، وأخلاقكم تظهر دائما في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة، وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى أنه لو خسر المصري ألف دينار، ثم أعلن أنها مائة فقط، وصدق الناس أنها مائة؛ لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة...

قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما، ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي، فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إلي، وكأنه يتأمل من أين يذبحني...

فضحك الباشا وقال لي: يا فلان إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذنبا كذيل الهر، ثم يمسكها منه فإذا هي تعض وتتلوى...

والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين، فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها! إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه, إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوروبية، أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة "الأقليات"، وأجريتموها في لغتكم السياسية، لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلا آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها، إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.

إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].

فإذا كان العدل في هذا الدين عدلا صارمًا، وحقا محضا لا يميز بشيء ألبته، لا ذات النفس التي فيها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم إذا كان هذا، فأين في هذا العدل محل الظلم؟

لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين، بل هي أثر الجهل بالدين؛ إن هذا ليس تعصبا، بل هو معنى من معاني الحمية النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظًا، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب، فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالدعوى المقبولة شكلا والمرفوضة بعد ذلك.

قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يدبرونهم من ورائهم. وهم عندكم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أي منبع الفكرة وقوتها.

قال الباشا: غير أن هؤلاء قد أصبحوا كلهم أو أكثرهم لا يندس فيهم عرق من تلك الوراثة، وذلك هو الذي بلغ بنا ما ترى؛ فالقوم إلا قليلا منهم كالأسلاك الكهربائية العطلة؛ لا فيها سلب ولا إيجاب؛ ولو أن هؤلاء العلماء كانت فيهم كهرباء النبوة؛ لكهربوا الأمم الإسلامية في أقطارها المختلفة. إذن لقام في وجه الاستعمار الأوروبي أربعمائة مليون مسلم جلد صارم شديد، متظاهرين متعاونين، قد أعدوا كل ما استطاعوا من قوة العلم، وقوة النفس، وهم لو قذف كل منهم بحجرين لردموا البحر.

أتريد معنى التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول؛ فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة، وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر الاستطاعة، لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة.
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامي، والدفاع عن كماله.

وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي، كان معناه إصرار جميع المسلمين على نوع الحياة وكرامتها، لا على استمرار الحياة ووجودها فقط. وذلك هو مبدؤكم أنتم أيها الإنجليز, لا تقبلون إلا حياة السيادة والحكم والحرية، فأنتم مسلمون في هذا المبدأ لو عدلتم.

أليس من البلاء أن المسلمين اليوم لا يدرس بعضهم بلاد بعض إلا على الخريطة... ومع أن الحج لم يشرع في دينهم إلا لتعويدهم دراسة الأرض في الأرض نفسها لا في الورق، ثم ليكون من مبادئهم العملية أن العالم مفتوح لا مقفل؟

إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره، وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غير الحق، وأن قاعدتها {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. فالهداية أولا والهداية آخرًا؛ الهداية في القوة، والهداية في السياسة، والهداية في الاجتماع. فقل لي بحياتك وحياة إنجلترا أيعاب ذلك على المسلمين إلا بالألفاظ التي يعيب اللص بها أهل الدار لأنهم يحكمون في وجهه إقفال الباب؟

قال: فوجم الإنجليزي حتى ذهل عن نفسه وصاح: إذا كان هذا فلنتعصب، فلنتعصب.
مصطفى صادق الرافعي