الفلسفة عند ألان جيرانفيل.. ممارسة الفلسفة تستوجب بالفعل قصدية حاضرة في السؤال الفلسفي ذاته الذي يفترض مسبقا شكا في الجواب باعتباره معرفة

 "تشكل الفلسفة بدون شك... رغبة في المعرفة و في الحكمة.
ويمكن أن نقبل الفكرة التي تقول "إن الشخص الذي يطرح سؤالا فلسفيا ما يريد من وراء ذلك التوصل إلي المعرفة.
ولكن سؤالا مثل" أين توجد المحطة؟" لا يبدو إجمالا سؤالا فلسفي ذلك لأن الممارسة الفلسفية بالفعل قصدية حاضرة في السؤال ذاته...
ولا يمكن لأي سؤال أن يكون في ذاته فلسفيا بدون هذه القصدية...
إن السؤال الفلسفي يفترض مسبقا شكا في الجواب باعتباره معرفة... إن السؤال الفلسفي الذي قلنا سابقا إنه يتخذ المعرفة كموضوع له يفترض في الواقع أن المعرفة مستحيلة أو على الأقل أن هناك معرفة مزعومة معرفة في الواقع ليست معرفة.
والنتيجة هي أن السؤال الفلسفي باعتباره سؤالا لا يمكن أن يطرح على الشخص الذي يعرف أي على من يمتلك المعرفة.
إن الفلسفة هي قبل كل شيء شك في امتلاك المعرفة...
إن الإنسان الذي يطرح عليه السؤال الفلسفي هو ذاك الذي يعتقد أنه يمتلك المعرفة والسؤال الفلسفي يحطم هذا الاعتقاد البديهي.
إن السؤال الفلسفي هو تساؤل و ليس مجرد سؤال.
إن السؤال المنفرد لا يكفي وحده لكي يشكل سؤالا فلسفيا، إذ يجب على السؤال الفلسفي أن يكرر لا بمعنى تكرار نفس السؤال... بل بمعنى تكرار سؤال آخر ينتمي إلي نفس التساؤل الفلسفي.  
ما هو الطابع العام للجواب الفلسفي؟ يجب على هذا الطابع العام أن يصدر عما سبق قوله عن التساؤل الفلسفي.
أولا يجب على الجواب أن يقدم ذاته كمعرفة ما دام موضوع السؤال الفلسفي هو المعرفة.
بعد ذلك يجب أن يكون مرتبطا بالشك الذي يكون في الآن نفسه قبليا و شاملا على الدوام لكل ما سيقال، أي لهذه المعرفة التي سيحملها الجواب بالضبط.
وأخيرا يجب أن يتمفصل بشكل دقيق و برهاني ما دام السؤال الفلسفي غير منعزل، وما دام التساؤل الفلسفي يقتضي استعادته باستمرار حتى يتم التوصل إلى مبدأ أول.
إن الطابع العام للجواب الفلسفي، إذا، هو أن يظهر في شكل ما يسمى عادة بالخطاب...
ويجب أن نؤكد على أنه لا يمكن أن يوجد خطاب واحد بدون تنوع الخطابات الفلسفية...
ولا يمكن لأي خطاب أن يكون منعزلا.
إن الخطاب يحمل دائما إجابة ما. بهذا المعنى, لا يوجد خطاب فلسفي واحد، بل توجد خطابات فلسفية عديدة".

ضوابط التساؤل الفلسفي عند ألان جيرانفيل.. الأداتية التوسطية. القصدية. الشكية والارتيابية. الانتظامية

ضوابط التساؤل الفلسفي:

1- الأداتية التوسطية:
يراد بأداتية السؤال كون هذا الأخير لا يعدو أن يكون في المقام الأول إلى وساطة يتوسل بها الفيلسوف لتحصيل الحقيقة.

2- القصدية:
يراد بقصدية السؤال أن استفهامات الفيلسوف لا تكون اعتباطية ولا تعسفية، وإنما تكون أسئلة غائية ينشد من خلالها المتسائل تحصيل الحقيقة والمعرفة بصدد بعض القضايا المصيرية التي يطرحها الوجود البشري.

3- الشكية والارتيابية:
يراد بارتيابية السؤال الفلسفي كون تساؤلات الفيلسوف غير قابلة لحسم النهائي، فكل إثبات يستحيل إلى نفي، وكل جواب يصير سؤالا جديدا.
إن قوام التفلسف هنا هو رفض المعرفة الجاهزة واليقين المطلق.

4- الانتظامية:
المراد بها كون أسئلة الفيلسوف تكون مترابطة ومتماسكة، بحيث تشكل نظاما استفهاميا، وهو ما يسمى في حقل الفلسفة بالتساؤل أو الإشكالية.

الطابع الانتظامي للجواب الفلسفي والتماثل بين بنية السؤال وبنية الجواب

الطابع الانتظامي للجواب الفلسفي:
إذا صح أن هناك تماثلا بين بنية السؤال وبنية الجواب، صح معه أن نقول إن الأجوبة الفلسفية كالأسئلة الفلسفية تكون منتظمة ومؤلفة تأليفا بديعا ومنطقيا.
بحيث ننفي أنفسنا أمام ما يسمى بالخطاب، وإذا حق أن الخطاب مجموع الأجوبة المترابطة حق معه تقرير تنوع الخطابات الفلسفية بفعل تعدد الأجوبة.

الطابع الارتيابي للجواب الفلسفي بمنظورات ذاتية تصطبغ بالخصوصية والنسبية والانفتاحية

الطابع الارتيابي للجواب الفلسفي:
لا يتعلق الأمر في الفلسفة بأجوبة نهائية تقدم نفسها كحقائق خالدة وثابتة، بل بمنظورات ذاتية تصطبغ بالخصوصية والنسبية والانفتاحية.

الطابع الحجاجي للجواب الفلسفي والأبنية الحجاجية والمنطقية التي يتأسس عليها

الطابع الحجاجي للجواب الفلسفي:
إن ما يعطي للأجوبة الفلسفية وجاهتها وصحتها إنما هو الأبنية الحجاجية والمنطقية التي تتأسس عليها.
إن الجواب الفلسفي إنما يستمد قيمته من الأدلة والحجج المؤسسة له.

ضوابط السؤال الفلسفي وضوابط الجواب الفلسفي

ضوابط السؤال الفلسفي:
- الأداتية التوسطية في السؤال الفلسفي.
- القصدية في السؤال الفلسفي.
- الارتيابية في السؤال الفلسفي.
- الانتظامية في السؤال الفلسفي.
++  التساؤل الفلسفي.

ضوابط الجواب الفلسفي:
- الطابع المعرفي للجواب الفلسفي.
- الطابع الارتيابي للجواب الفلسفي.
- الطابع الحجاجي للجواب الفلسفي.
- الطابع الانتظامي للجواب الفلسفي.
++ الخطاب الفلسفي.

التساؤل الفلسفي عند ألان جيرانفيل.. السؤال المنفرد لا يكفي وحده لكي يشكل سؤالا فلسفيا مرتبطا بالشك الذي يكون في الآن نفسه قبليا وشاملا

يبدو أن نمط التساؤل الفلسفي يشكل خاصية أساسية أخرى، فهو تساؤل وليس مجرد سؤال.
إن السؤال المنفرد لا يكفي وحده لكي يشكل سؤالا فلسفيا، إذ يجب على السؤال الفلسفي أن يتكرر، لا بمعنى تكرار نفس السؤال (...) بل بمعنى تكرار سؤال آخر ينتمي إلأى نفس التساؤل الفلسفي (..) ما هو الطابع العام للجواب الفلسفي؟.
يجب على هذا الطابع العام أن يصدر عما سبق قوله عن التساؤل الفلسفي. أولا يجب على الجواب أن يقدم ذاته كمعرفة مادام موضوع السؤال الفلسفي هو المعرفة.
بعد ذلك يجب أن يكون مرتبطا بالشك الذي يكون في الآن نفسه قبليا وشاملا على الدوام لكل ما سيقال، أي لهذه المعرفة التي سيحملها الجواب بالضبط.
وأخيرا يجب أن يتمفصل بشكل دقيق وبرهاني،  مادام السؤال الفلسفي غير منعزل، وما دام التساؤل الفلسفي يقتضي استعادته باستمرار حتى يتم التوصل إلى مبدأ أول.
إن الطابع العام للجواب الفلسفي، إذن، هو أن يظهر في شكل ما يسمى عادة بالخطاب (..) ويجب أن نؤكد على أنه لا يمكن أن يوجب خطاب واحد تنوع الخطابات الفلسفية (..) ولا يمكن لأي خطاب أن يكون منعزلا.
إن الخطاب يحمل دائما إجابة ما. بهذا المعنى، لا يوجد خطاب فلسفي واحد، بل توجد خطابات فلسفية عديدة.

الطابع المعرفي للجواب الفلسفي لتحقيق استجابة مرتبطة بطلب السائل

الطابع المعرفي للجواب الفلسفي مضمونه أن كل جواب إنما يكون تحقيقا لاستجابة مرتبطة بطلب السائل، وتوقا إلى تبديد الحيرة والانشغال الذي يولده السؤال ويتولد عنه.

الاستعمال الوظيفي والمزاوجة بين المعرفي والمنهجي في تحليل النص الفلسفي في درس الفلسفة

كيفما كان الحال بالنسبة لنوعية النص الفلسفي ولموقعه، فالمطلوب دائما هو الاستعمال الوظيفي فقط للنص.
فرغم كون النص دعامة أساسية في درس الفلسفة، فإنه لا ينبغي أن يتحول الدرس الفلسفي إلى مجرد نص.
لأنه ليست الغاية في حد ذاته، بل لابد من المزاوجة بين المعرفي والمنهجي في تحليل نص فلسـفي.
وبـهذا يصدق رأي الأستاذ عـبـد المجيد الإنتصار (إن الدرس في العملية التعليمية التعلمية يحكم النص ويؤطـره بإشكاليته، ويشمله كجزء في البنية الكلية حتى وإن كان من النوع  الذي نطلق عليه النـص - الدرس).

النصوص الفلسفية المفاهيمية والإشكالية.. الفلسفة تساؤل لألان جيرانفيل

هناك نوع من النصوص الفلسفية يتمثل في النصوص التي تقدم مفاهيم فلسفية معينة (نص مفاهيمي)، أو تبحث في حل مشكل ما (نص إشكالي).
يقول ميشيل طوزي Michel TOZZI في كتابه "تعلم التفلسف بثانويات اليوم" مؤكدا أن المتعلم يكتسب أن: «النص الفلسفي القصير لا يكون دائما حجاجيا، بل إنه يستطيع أن يحلل مشكلا ما (أشكلة)، كما يستطيع شرح مفهوم ما (مفهمة)».
وفي هذا المضمار نأخذ نصا من الكتاب المدرسي، السنة الأولى من التعليم الثانوي (التأهيلي)، آداب، تحت عنوان: "الفلسفة تساؤل" لـ ألان جيرانفيل Alain JURANVILLE، ضمن درس الفلسفة، الصفحة 11.

النص الفلسفي التقويمي النقدي لاستحضار الأطروحة المناقضة قصد زعزعتها.. ماهية الحقيقة لمارتن هيدكر

قد نستعمل نصا فلسفيا ما في موقع تقويمي نقدي، حيث يستحضر النص الفلسفي موقفا معارضا يريد دحضه.
إذ يستحضر الأطروحة المناقضة قصد زعزعتها.
وخير مثال على ذلك نص "ماهية الحقيقة" لمارتن هيدكر الموجود في الصفحة 83-84 من الكتاب المدرسي للسنة الثانية باكالوريا، آداب عصرية، ضمن درس الحقيقة.
ذلك أن هيدكر يستحضر الموقف التقليدي للحقيقة الذي كان يعتبر الحقيقة مجرد تطابق، وبالمقابل يطرح موقفا نقديا تقويميا، حيث جعل ماهية الحقيقة هي الحرية.

النص الفلسفي لاستعادة وتذكر الأفكار التي سبق تحليلها.. اللغة والتواصل لرومان جاكوبسون

قد يستعمل النص الفلسفي بعد تحليل أفكار الدرس، فيكون النص مجرد خلاصة تركيبية للمحور، مما يجعل وظيفته مجرد استعادة وتذكر للأفكار التي سبق تحليلها.
كما هو الحال بنص: "اللغة والتواصل" لرومان جاكوبسون، مثلا ضمن درس اللغة للسنة الثانية باكالوريا، آداب عصرية، الصفحة 26-27.

شرح وتحليل المقامة النصيبية للحريري

روى الحارثُ بنُ همّام قال: أمْحَلَ العِراقُ ذاتَ العُوَيْمِ. لإخْلافِ أنواء الغَيْمِ. وتحدّثَ الرُكْبانُ بريفِ نَصيبِينَ. وبُلَهْنِيَةِ أهلِها المُخصِبينَ. فاقتَعَدْتُ مَهْرِيّاً. واعْتقلْتُ سمْهَرياً. وسِرْتُ تلفِظُني أرضٌ إلى أرضٍ. ويجذِبُني رفْعٌ منْ خفْضٍ. حتى بلغْتُها نِقْضاً على نِقضٍ. فلمّا أنخْتُ بمغْناها الخصيبِ. وضربْتُ في مرْعاها بنَصيبٍ. نوَيْتُ أن أُلْقيَ بها جِراني. وأتّخذَ أهلَها جيراني. إلى أنْ تحْيا السّنَةُ الجَمادُ. وتتعهّدُ أرضَ قوْمي العِهادُ. فواللهِ ما تمَضْمَضَتْ مُقلَتي بنوْمِها. ولا تمخّضَتْ ليْلَتي عن يومِها. دونَ أن ألفَيْتُ أبا زيدٍ السَّروجيَّ يجولُ في أرجاء نَصيبينَ. ويخبِطُ بها خبْطَ المُصابينَ والمُصيبينَ. وهوَ ينثُرُ منْ فيهِ الدُرَرَ. ويحتلِبُ بكفّيْهِ الدِّرَرَ. فوجدْتُ بها جِهاديَ قد حازَ مَغنَماً. وقِدْحيَ الفَذّ قد صار توْأماً. ولم أزلْ أتْبَعُ ظِلّهُ أينَما انبَعَث. وألتَقِطُ لفظَهُ كلّما نفثَ. إلى أنْ عراهُ مرضٌ امتدّ مَداهُ. وعرَقَتْهُ مُداهُ. حتى كادَ يسلُبُه ثوبَ المَحْيا. ويسلّمُهُ إلى أبي يَحْيى. فوجدْتُ لفَوْتِ لُقياهُ. وانقِطاعِ سُقْياهُ. ما يجدُهُ المُبعَدُ عن مرامِهِ. والمُرضَعُ عندَ فِطامِهِ. ثمّ أرْجِفَ بأنّ رهْنَهُ قد غلِقَ. ومِخْلَبَ الحِمامِ بهِ قد علِقَ. فقَلِقَ صحْبُهُ لإرْجافِ المُرْجِفينَ. وانثالوا إلى عَقوَتِهِ مُوجِفينَ:
حَيارى يميدُ بهـمْ شَـجْـوُهُـمْ *** كأنّهمُ ارتَضعوا الخـنـدَريسـا
أسالوا الغُروبَ وعطّوا الجُيوبَ *** وصكّوا الخدودَ وشجّوا الرّؤوسا
يودونَ لوْ سالمَتْـهُ الـمَـنـونُ *** وغالَتْ نفائِسَهُمْ والنّـفـوسـا
قال الرّاوي: وكنتُ في مَنِ التفّ بأصْحابِه. وأغذّ إلى بابِه. فلمّا انتهيْنا إلى فِنائِه. وتصدّينا لاستِنْشاء أنْبائِهِ. برزَ إليْنا فتاهُ. مُفترّةً شفتَاهُ. فاستَطْلَعناهُ طِلْعَ الشيخِ في شَكاتِهِ. وكُنْهَ قُوى حرَكاتِهِ. فقال: قدْ كان في قبْضَةِ المرْضَةِ. وعرْكَةِ الوعْكَةِ. إلى أنْ شفّهُ الدّنَفُ. واستشفّهُ التّلَفُ. ثمّ منّ اللهُ تَعالى بتقويةِ ذمائِهِ. فأفاقَ منْ إغمائِهِ. فارْجِعوا أدراجَكُمْ. وانْضوا انزِعاجَكُمْ. فكأنْ قد غَدا وراحَ. وساقاكُمُ الرّاحَ. فأعْظَمْنا بُشْراهُ. واقترَحْنا أنْ نَراهُ. فدخَلَ مؤذِناً بِنا. ثمّ خرَج آذِناً لنا. فلَقينا منْهُ لَقًى. ولِساناً طلْقاً. وجلسْنا مُحدِقين بسَريرِهِ. محدّقينَ إلى أساريرِه. فقلّبَ طرْفَهُ في الجَماعةِ. ثمّ قال: اجْتَلوها بنتَ السّاعةِ. وأنشَد:
عافانيَ اللهُ وشُكْـراً لـهُ *** منْ عِلّة كادتْ تُعَفّينـي
ومنّ بالبُرْء علـى أنّـهُ *** لا بُدّ منْ حتْفٍ سيَبْريني
ما يتَناسانـي ولـكـنّـهُ *** إلى تقضّي الأُكْلِ يُنْسيني
إنْ حُمّ لمْ يُغْنِ حَمـيمٌ ولا *** حمَى كُلَيْبٍ منْهُ يحْميني
وم أُبالـي أدَنـا يومُـهُ *** أم أُخّرَ الحَينُ إلى حـينِ
فأيُّ فخْرٍ في حَـياةٍ أرى *** فيها البَلايا ثمّ تُبْلـينـي
قال: فدعَوْنا لهُ بامتِدادِ الأجلِ. وارتِدادِ الوجَلِ. ثمّ تداعَيْنا إلى القِيامِ. لاتّقاءِ الإبْرامِ. فقالَ: كلاّ بلِ البَثوا بَياضَ يومِكُمْ عِندي. لتَشْفوا بالمَفاكَهَةِ وجْدي. فإنّ مُناجاتَكُمْ قوتُ نفْسي. ومَغْناطيسُ أُنسي. فتحرّيْنا مرْضاتَهُ. وتحامَيْنا مُعاصاتَهُ. وأقبَلْنا على الحَديثِ نمْخُضُ زُبْدَهُ. ونُلْغي زبَدَه. إلى أنْ حانَ وقتُ المَقيلِ. وكلّتِ الألسُنُ منَ القالِ والقيلِ. وكان يوْماً حاميَ الوَديقَةِ. يانِعَ الحَديقَةِ. فقال: إنّ النّعاسَ قدْ أمالَ الأعْناقَ. وراودَ الآماقَ. وهو خصْمٌ ألَدُّ. وخِطْبٌ لا يُرَدُّ. فصِلوا حبْلَهُ بالقَيْلولَةِ. واقْتَدوا فيهِ بالآثارِ المنقولةِ. قال الرّاوي: فاتّبعْنا ما قالَ. وقِلْنا وقالَ. فضربَ اللهُ على الآذانِ. وأفرَغَ السِّنَةَ في الأجْفانِ. حى خرَجْنا منْ حُكْمِ الوجودِ. وصُرِفْنا بالهُجودِ. عنِ السّجودِ. فما استيْقَظْنا إلا والحرُّ قدْ باخَ. واليومُ قد شاخَ. فتكرّعْنا لصَلاةِ العَجْماوَينِ. وأدّيْنا ما حَلّ منَ الدّينِ. ثمّ تحثْحَثْنا للارْتِحالِ. إلى مُلْقى الرِّحالِ. فالتَفَتَ أبو زيدٍ إلى شِبلِهِ. وكان على شاكِلَتِه وشكْلِهِ. وقال: إني لإخالُ أبا عَمْرَةَ. قد أضْرَمَ في أحشائِهِم الجَمرَةَ. فاسْتَدْعِ أبا جامِعٍ. فإنّهُ بُشرى كُلّ جائِعٍ. وأردِفْهُ بأبي نُعَيمٍ. الصّابِرِ على كلّ ضيْمٍ. ثمّ عزّزْ بأبي حَبيبٍ. المُحبَّبِ إلى كلّ لَبيبٍ. المقَلَّبِ بينَ إحْراقٍ وتعْذيبٍ. وأهِّبْ بأبي ثَقيفٍ. فحبّذا هوَ منْ أليفٍ. وهلْمُمْ بأبي عوْنٍ. فما مثلُهُ منْ عوْنٍ. ولوِ استحْضَرْتَ أبا جميلٍ. لجَمّلَ أيّ تجْميلٍ. وحَيَّ هلَ بأمّ القِرَى. المذَكِّرةِ بكِسْرى. ولا تتناسَ أمّ جابِرٍ. فكمْ لها منْ ذاكِرٍ. ونادِ أمّ الفرَجِ. ثمّ افتِكْ بها ولا حرَجَ. واختِمْ بأبي رَزينٍ. فهُو مسْلاةُ كلّ حزينٍ. وإنْ تقْرُنْ بهِ أبا العَلاء. تمْحُ اسمَكَ من البُخَلاء. وإيّاكَ واستِدْناءَ المُرْجفَينِ. قبلَ استِقلالِ حُمولِ البَينِ. وإذا نزَعَ القوْمُ عنِ المِراسِ. وصافَحوا أبا إياسٍ. فأطِفْ علَيْهِمْ أبا السَّرْوِ. فإنّهُ عُنْوانُ السّرْوِ. قال: ففَقِهَ ابنُهُ لَطائِفَ رُموزِهِ. بلَطافَةِ تمْييزِهِ. فطافَ عليْنا بالطّيّباتِ والطِّيبِ. إلى أنْ آذَنَتْ الشّمسُ بالمَغيبِ. فلمّا أجْمَعْنا على التّوديعِ. قُلْنا لهُ: ألمْ ترَ إلى هذا اليومِ البديعِ؟ كيفَ بَدا صُبحُهُ قمْطَريراً. ومُسْيُهُ مُستَنيراً؟ فسجَدَ حتى أطالَ. ثمّ رفَعَ رأسَهُ وقالَ:
لا تيْأسَنْ عندَ الـنُّـوَبْ *** منْ فرْجَةٍ تجلو الكُرَبْ
فلكَمْ سَمـومٍ هـبّ ثـ *** مّ جرَى نسيمً وانقَلَـبْ
وسَحابِ مكْـروهٍ تـنـ *** شّا فاضْمَحَلّ وما سكَبْ
ودُخانِ خطْبٍ خِيفَ منْ *** هُ فما استَبانَ لهُ لهَـبْ
ولَطالَما طلَعَ الأسـى *** وعلى تَفيئَتِـه غـرَبْ
فاصْبِرْ إذا ما نابَ روْ *** عٌ فالزّمانُ أبو العجَبْ
وترَجّ مـنْ رَوْحِ الإلـ *** ـهِ لَطائِفاً لا تُحْتَـسَـبْ
قال: فاستَمْلَيْنا منْهُ أبياتَهُ الغُرّ. وواليْنا للهِ تَعالى الشُكْرَ. وودّعْناهُ مسرورينَ ببُرْئِهِ. مَغْمورينَ ببِرّهِ.

شرح وتحليل المقامة النجرانية للحريري

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: تَرامتْ بي مَرامي النّوى. ومسَاري الهَوى. إلى أن صِرْتُ ابنَ كُلّ تُربَةٍ. وأخا كُلّ غُربةٍ. إلا أني لمْ أكُنْ أقطَعُ وادِياً. ولا أشهَدُ نادِياً. إلا لاقْتِباسِ الأدَبِ المُسْلي عنِ الأشْجانِ. المُغْلي قيمَةَ الإنسانِ. حتى عُرِفَتْ لي هذه الشِّنْشِنَةُ. وتناقلَتْها عني الألسنَةُ. وصارتْ أعْلَقَ بي منَ الهوى ببَني عُذْرَةَ. والشّجاعَةِ بآلِ أبي صُفرَةَ. فلمّا ألْقَيتُ الجِرانَ بنَجْرانَ. واصطَفَيتُ بها الخُلاّنَ والجيرانَ. تخِذْتُ أندِيَتَها مُعتَمَري. وموسِمَ فُكاهَتي وسمَري. فكنْتُ أتعَهّدُها صَباحَ مساء. وأظهَرُ فيها على ما سرّ وساء. فبَينَما أنا في نادٍ محْشودٍ. ومحْفِلٍ مشْهودٍ. إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ. ثمّ قال: يا بُدورَ المَحافِلِ. وبحورَ النّوافِلِ. قد بيّنَ الصّبْحُ لِذي عيْنَينِ. ونابَ العِيانُ مَنابَ عدْلَينِ. فماذا تَروْنَ. في ما ترَوْنَ؟ أتُحسِنونَ العَوْنَ. أم تنأوْنَ. إذْ تُدعَوْنَ؟ فقالوا: تاللهِ لقَدْ غِظْتَ. ورُمْتَ أن تُنبِطَ فغِضْتَ. فناشَدَهُمُ اللهَ عمّاذا صدّهُمْ. حتى استَوجَبَ ردَّهُمْ. فقالوا: كنّا نتَناضَلُ بالألْغازِ. كما يُتَناضَلُ يومَ البِرازِ. فما تمالَكَ أن شعّثَ منَ المَنْضولِ. وألْحَقَ هذا الفضْلَ بنمَطِ الفُضولِ. فلَسَنَتْهُ لُسْنُ القوْمِ. ووَخَزوهُ بأسنّةِ اللّوْمِ. وأخذَ هوَ يتنصّلُ من هَفوَتِهِ. ويتندّمُ على فَوْهَتِهِ. وهُمْ مُضِبّونَ على مؤاخذَتِهِ. ومُلَبّونَ داعيَ مُنابَذَتِهِ. إلى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ. فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ. ثمّ هلُمّ إلى أن نُلغِزَ. ونُحكّمَ المُبرِّزَ. فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ. وانحَلّتْ عُقدُهمْ. ورَضوا بما شرَطَ عليهِمْ ولَهُمْ. واقتَرَحوا أنْ يكونَ أوّلَهُمْ. فأمْسكَ ريْثَما يُعقَدُ شِسْعٌ. أو يُشَدّ نِسْعٌ. ثمّ قال: اسمَعوا وُقيتُمُ الطّيشَ. ومُلّيتُمُ العيْشَ. وأنشدَ مُلغِزاً في مِروَحَةِ الخيْش:
وجارِيَةٍ في سيرِها مُشـمَـعِـلّةٍ *** ولكِنْ على إثْرِ المَسيرِ قُفولُهـا
لها سائِقٌ من جِنسِها يستَحثّـهـا *** على أنهُ في الإحتِثاثِ رَسيلُهـا
تُرى في أوانِ القَيظِ تنظُفُ بالنّدى *** ويَبدو إذا ولّى المَصيفُ قُحولُها
ثمّ قال: وهاكُمْ يا أولي الفضْلِ. ومَراكِزَ العقْلِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في حابولِ النّخْلِ:
ومُنتَسِـبٍ إلى أمٍّ *** تَنَشّا أصْلُهُ منْهـا
يعانِقُها وقد كانـتْ *** نفَتْهُ بُرهَةً عنْهـا
بهِ يتوصّلُ الجانـي *** ولا يُلْحى ولا يُنْهى
ثمّ قال: ودونَكُمُ الخَفيّةَ العلَمِ. المُعتَكِرَةَ الظُلَمِ. وأنشدَ مُلغِزاً في القلَمِ:
ومأمومٍ بهِ عُـرِفَ الإمـامُ *** كما باهَتْ بصُحْبَتِهِ الكِرامُ
لهُ إذ يرتَوي طَيْشانُ صـادٍ *** ويسكُنُ حينَ يعْروهُ الأُوامُ
ويُذْري حين يُستَسْعى دُموعاً *** يرُقْنَ كما يروقُ الإبتِسـامُ
ثمّ قال: وعلَيْكُمْ بالواضِحَةِ الدّليلِ. الفاضِحَةِ ما قيلَ. وأنشدَ مُلغِزاً في المِيلِ:
وما ناكِحٌ أُختَينِ جَهْـراً وخُـفـيَةً *** وليسَ عليهِ في النّكـاحِ سَـبـيلُ
متى يغْشَ هذي يغْشَ في الحالِ هذه *** وإنْ مالَ بعْلٌ لـمْ تـجِـدْهُ يَمـيلُ
يَزيدُهُما عندَ المَشـيبِ تـعـهّـداً *** وبِرّاً وهذا في البُـعـولِ قَـلـيلُ
ثم قال: وهذِهِ يا أولي الألْبابِ. مِعْيارُ الآدابِ. وأنشَد مُلغِزاً في الدّولابِ:
وجافٍ وهْوَ موْصولٌ *** وَصولٌ ليسَ بالجافي
غَريقٌ بارِزٌ فاعْجَـبْ *** لهُ منْ راسِبٍ طافِ
يسُحّ دُموعَ مهْضـومٍ *** ويهْضِمُ هَضْمَ مِتْلافِ
وتُخْشى منهُ حِـدّتُـهُ *** ولكِنْ قلبُـهُ صـافِ
قال: فلمّا رشَقَ. بالخَمْسِ التي نسَقَ. قال: يا قوْمِ تدَبّروا هذهِ الخمْسَ. واعْقِدوا عليْها الخَمْسَ. ثمّ رأيَكُمْ وضَمّ الذّيلِ. أوِ الازدِيادَ منْ هَذا الكَيْلِ! قال: فاستَفزّتِ القوْمَ شهوَةُ الزّيادَةِ. على ما أُشرِبوا منَ البَلادَةِ. فقالوا لهُ: إنّ وُقوفَنا دونَ حدّكَ. ليُفْحِمُنا عنِ استِيراء زنْدِكَ. واستِشْفافِ فِرِنْدِكَ. فإنْ أتْمَمتَ عشْراً فمِنْ عِندِكَ. فاهتزّ اهتِزازَ منْ فلَجَ سهمُهُ. وانخَزَلَ خصْمُهُ. ثمّ افتَتَح النُطْقَ بالبَسمَلَةِ. وأنشدَ مُلغِزاً في المُزَمَّلَةِ:
ومَسْرورَةٍ مَغمومَةٍ طولَ دهـرِهـا *** وما هيَ تدري ما السُرورُ ولا الغَـمُّ
تُقرَّبُ أحـيانـاً لأجْـلِ جَـنـينِـهـا *** وكـمْ ولـدٍ لـوْلاهُ طُـلّـقَـتِ الأمُّ
وتُبعَدُ أحياناً ومـا حـالَ عـهـدُهـا *** وإبعادُ من لم يَستَحِلْ عهـدُه ظُـلـمُ
إذا قَصُرَ الليلُ استُـلِـذّ وصـالُـهـا *** وإن طالَ فالإعراضُ عن وصْلِها غُنمُ
لها ملـبَـسٌ بـادٍ أنـيقٌ مـبَـطَّـنٌ *** بما يُزْدَرى لكنْ لِما يُزْدرى الحُـكـمُ
ثم كشَرَ عن أنيابِهِ الصُفْرِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الظُفْرِ:
ومرهوبِ الشَّـبـا نـامٍ *** وما يرْعى ولا يشـرَبْ
يُرى في العَشْرِ دونَ النّحْـ *** ـرِ فاسمَعْ وصفَهُ واعْجَبْ
ثم تخازرَ تخازُرَ العِفْريتِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في طاقَةِ الكِبريتِ:
وما مَحْقورَةٌ تُدْنى وتُقْصى *** وما منْها إذا فكّـرْتَ بُـدُّ
لها رأسانِ مُشتَبِهانِ جِـداً *** وكُلٌ منهُما لأخـيهِ ضِـدُّ
تعذَّبُ إن هُما خُضِبا وتُلغى *** إذا عَدِما الخِضابَ ولا تُعَدّ
ثمّ تخمّطَ تخمُّطَ القَرْمِ. وأنشدَ في حلَبِ الكَرْمِ:
وما شيءٌ إذا فسَـدا *** تحوّلَ غـيُّهُ رشَـدا
وإنْ هوَ راقَ أوصافاً *** أثارَ الشرّ حيثُ بَدا
زَكيُّ العِرقِ والِـدُهُ *** ولكِنْ بِئْسَ ما ولَـدا
ثمّ اعتَضَدَ عَصا التَّسيارِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الطيّارِ:
وذي طَيشَةٍ شِـقُّـهُ مـائِلٌ *** وما عابَهُ بهِمـا عـاقِـلُ
يُرى أبـداً فـوقَ عِـلّـيّةٍ *** كما يعْتَلي المَلِكُ العـادِلُ
تساوَى لدَيْهِ الحَصا والنُّضارُ *** وما يستَوي الحقُّ والباطلُ
وأعْجَبُ أوصافِهِ إنْ نظرْتَ *** كما ينظُرُ الكَيّسُ الفاضِـلُ
تَراضي الخُصومِ بهِ حاكِماً *** وقدْ عرَفـوا أنّـهُ مـائِلُ
قال: فظلّتِ الأفكارُ تَهيمُ في أوديةِ الأوْهامِ. وتَجولُ جوَلانَ المُستَهامِ. إلى أن طالَ الأمَدُ. وحصْحَصَ الكمَدُ. فلمّا رآهُمْ يزنِدونَ ولا سَنا. ويقْضونَ النّهارَ بالمُنى. قال: يا قومِ إلامَ تنظُرونَ. وحتّامَ تُنظَرونَ؟ ألَمْ يأنِ لكُمُ استِخْراجُ الخَبيّ. أو استِسلامُ الغَبيّ؟فقالوا: تاللهِ لقدْ أعْوَصْتَ. ونصَبْتَ الشَّرَكَ فقنَصْتَ. فتحَكّمْ كيفَ شيتَ. وحُزِ الغُنْمَ والصّيتَ. ففرَضَ عنْ كلّ مُعَمًى فرْضاً. واستخلَصَهُ منهُمْ نَضّاً. ثمّ فتَح الأقفالَ. ورسمَ الأغْفالَ. وحاولَ الإجْفالَ. فاعتلَقَ بهِ مِدرَهُ القومِ. وقال لهُ: لا لُبسَةَ بعْدَ اليومِ. فاستَنْسِبْ قبلَ الانطِلاقِ. وهَبْها مُتعَةَ الطّلاقِ. فأطْرَقَ حتى قُلْنا مُريبٌ. ثمّ أنشَدَ والدمعُ مُجيبٌ:
سَروجُ مطْلِعُ شمْسي *** وربْعُ لَهْوي وأُنسـي
لكِنْ حُرِمْتُ نَعيمـي *** بها ولَذةَ نـفْـسـي
واعْتَضْتُ عنها اغْتِراباً *** أمَرَّ يومي وأمْسـي
ما لي مقَـرٌّ بـأرضٍ *** ولا قَرارٌ لعَنْـسـيْ
يوماً بنَـجـدٍ ويوْمـاً *** بالشّأمِ أُضْحي وأُمسي
أُزْجي الزّمانَ بقـوتٍ *** منغّصٍ مُستَـخَـسّ
ولا أبـيتُ وعـنـدي *** فلْسٌ ومَنْ لي بفَلْـسِ
ومنْ يعِشْ مثلَ عيشي *** باعَ الحياةَ ببـخْـسِ
ثم إنّهُ اخْتَبَن خُلاصَةَ النّضّ. وندرَ ضارِباً في الأرضِ. فناشدْناهُ أن يعودَ. وأسْنَيْنا لهُ الوعودَ. فلا وأبيكَ ما رجعَ. ولا التّرغيبُ لهُ نجعَ.

شرح وتحليل المقامة الملطية للحريري

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أنَخْتُ بمَلْطِيّةَ مطيّةَ البَينِ. وحَقيبَتي ملأى منَ العينِ. فجعَلْتُ هِجّيرايَ. مُذْ ألقَيْتُ بها عصايَ. أن أتورّدَ موارِدَ المرَحِ. وأتصيّدَ شوارِدَ المُلَحِ. فلمْ يَفُتْني بها منظَرٌ ولا مسمَعٌ. ولا خَلا مني ملعَبٌ ولا مرتَعٌ. حتى إذا لمْ يبْقَ لي فيها مأرَبٌ. ولا في الثّواء بها مَرْغَبٌ. عمَدْتُ لإنْفاقِ الذّهبِ. في ابتِياعِ الأُهَبِ. فلمّا أكمَلْتُ الإعْدادَ. وتهيّأ الظّعْنُ منها أو كادَ. رأيتُ تِسعَةَ رهْطٍ قد سبأوا قهوَةً. وارتَبأوا ربْوَةً. ودماثَتُهُمْ قيْدُ الألحاظِ. وفُكاهَتُهُمْ حُلوَةُ الألْفاظِ. فنحَوْتُهُمْ طلَباً لمُنادَمتِهِمْ. لا لمُدامَتِهِمْ. وشَعَفاً بمُمازَجَتِهِمْ لا بزُجاجَتِهمْ. فلمّا انتظَمْتُ عاشِرَهُمْ. وأضحَيْتُ مُعاشِرَهمْ. ألفَيتُهُمْ أبناءَ عَلاّتٍ. وقَذائِفَ فلَواتٍ. إلا أنّ لُحْمَةَ الأدَبِ. قد ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ النّسَبِ. وساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ. حتى لاحوا مثلَ كواكِبِ الجوْزاءِ. وبدَوْا كالجُملَةِ المُتناسِبَةِ الأجْزاءِ. فأبْهَجَني الاهتِداءُ إليْهِمْ. وأحمَدْتُ الطّالِعَ الذي أطلعَني عليْهِمْ. وطفِقْتُ أُفيضُ بقِدْحي معَ قِداحِهِمْ. وأسْتَشْفي برِياحِهِمْ لا بِراحِهِمْ. حتى أدّتْنا شُجونُ المُفاوضَةِ. إلى التّحاجي بالمُقايَضَةِ. كقوْلِكَ إذا عنَيْتَ بهِ الكَراماتِ. ما مثلُ النّوْمُ فاتَ. فأنْشأنا نجْلو السُهَى والقمرَ. ونجْني الشّوْكَ والثّمَرَ. وبيْنا نحنُ ننْشُرُ القَشيبَ والرّثَّ. وننْشُلُ السّمينَ والغَثَّ. وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ. وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ. فمثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ. ويلتَقِطُ ما ننْثُرُ. إلى أن نُفِضَتِ الأكياسُ. وحصْحَصَ الياسُ. فلمّا رأى إجْبالَ القَرائِحِ. وإكْداءَ الماتِحِ والمائِحِ. جمَعَ أذيالَهُ. وولاّنا قَذالَهُ. وقال: ما كُلّ سوْداء تمْرَةٌ. ولا كلّ صهْباء خمرَةٌ. فاعْتَلَقْنا بهِ اعتِلاقَ الحِرْباء بالأعْوادِ. وضربْنا دونَ وِجْهَتِهِ بالأسْدادِ. وقلْنا لهُ: إن دَواء الشّقّ أن يُحاصَ. وإلا فالقِصاصَ القِصاصَ. فلا تطمَعْ في أن تجْرَحَ وتطْرَحَ. وتُنهِرَ الفَتْقَ وتسْرَحَ! فلوَى عِنانَهُ راجِعاً. ثم جثَمَ بمَكانِهِ راصِعاً. وقال: أمّا إذا استَثَرْتُموني بالبَحْثِ. فلأحْكُمُ حُكمَ سُلَيْمانَ في الحرْثِ. اعْلَموا يا ذَوي الشّمائِلِ الأدبِيّةِ. والشَّمولِ الذّهبيّةِ. أنّ وضْعَ الأُحجِيّةِ. لامتِحانِ الألمَعيّةِ. واستِخْراجِ الخَبيّةِ الخفيّةِ. وشرْطُها أنْ تكونَ ذاتَ مماثلَةٍ حَقيقيّةٍ. وألْفاظٍ معْنَويّةٍ. ولَطيفَةٍ أدَبيّةٍ. فمتى نافَتْ هذا النّمَطَ. ضاهَتِ السّقَطَ. ولمْ تدْخُلِ السّفَطَ. ولم أرَكُمْ حافَظتُمْ على هذهِ الحُدودِ. ولا مِزْتُمْ بينَ المقبولِ والمرْدودِ. فقُلْنا لهُ: صدَقْتَ. وبالحقّ نطَقْتَ. فكِلْ لَنا منْ لُبابِكَ. وأفِضْ عليْنا منْ عُبابِكَ. فقال: أفْعَلُ لئلاّ يرْتابَ المُبطِلونَ. ويظنّوا بيَ الظّنونَ. ثمّ قابلَ ناظُورَةَ القومِ وقال:
يا مَنْ سَـمـا بـذَكـاءٍ *** في الفضلِ واري الزِّنادِ
ماذا يُمـاثِـلُ قـولـي *** جوعٌ أُمِــدّ بـــزادِ
ثمّ ضحِكَ إلى الثّاني وأنشدَ:
يا ذا الذي فاقَ فضْلاً *** ولمْ يُدَنّـسْـهُ شَـينُ
ما مثلُ قوْلِ المُحاجي *** ظهْرٌ أصابَتْهُ عـينُ
ثمّ لحَظَ الثّالِثَ وأنشأ يقول:
يا مَنْ نتـائِجُ فـكـرِهِ *** مثلُ النّقودِ الجـائِزَهْ
ما مثلُ قولِكَ لـلّـذي *** حاجَيْتَ صادَفَ جائِزَهْ
ثمّ أتلَعَ إلى الرّابِعِ وقال:
أيا مُستَنْبِـطَ الـغـامـ *** ضِ منْ لُغْزٍ وإضْمارِ
ألا اكْشِفْ ليَ ما مثلُ *** تنـاوَلْ ألـفَ دينـارِ
ثمّ رَمى الخامِسَ ببصرِه وقال:
يا أيّهَـذا الألْـمَــعـ *** يّ أخو الذّكاء المُنجَلي
ما مثلُ أهْمَلَ حِـلـيَةً *** بيِّنْ هُديتَ وعـجِّـلِ
ثمّ التفَت لفْتَ السّادِسِ وقال:
يا مَنْ تقـصّـرُ عـن مَـدا *** هُ خُطى مُجارِيهِ وتضْعُـفْ
ما مثـلُ قـولِـكَ لـلّـذي *** أضْحى يحاجيكَ اكفُفِ اكفُفْ
ثمّ خلجَ السابعَ بحاجِبِه وقال:
يا منْ لهُ فِطنَةٌ تـجـلّـتْ *** ورُتبَةٌ في الذّكاء جـلّـتْ
بيّنْ فمـا زِلْـتَ ذا بَـيانٍ *** ما مثلُ قولي الشَقيقُ أفلَتْ
ثم استنْصَتَ الثّامِنَ وأنشدَ:
يا مَـنْ حـدائِقُ فـضـلِــهِ *** مطلولَةُ الأزهـارِ غـضّـهْ
ما مثلُ قـولِـكَ لـلـمُـحـا *** جي ذي الحِجى ما اختارَ فِضّهْ
ثمّ حدجَ التاسِعَ ببصرِهِ وقال:
يا منْ يُشارُ إليهِ فـي الـ *** قلبِ الذّكيّ وفي البَراعَهْ
أوضِحْ لنا ما مثـلُ قـوْ *** لِكَ للمُحاجي دُسْ جماعَهْ
قال الراوي: فلما انتهى إليّ. هزّ مَنكِبَيّ. وقال:
يا منْ لهُ النُّكَـتُ الـتـي *** يُشجي الخُصومَ بها وينكُتْ
أنتَ المُبينُ فـقُـلْ لـنـا *** ما مثلُ قوْلي خاليَ اسكُتْ
ثم قال: قد أنْهلْتُكُمْ وأمهَلتُكُمْ. وإنْ شِئْتُمْ أنْ أعُلّكُمْ علّلتُكُمْ. قال: فألْجأنا لهَبُ الغُلَلِ. إلى استِسقاء العَلَلِ. فقال: لستُ كمَنْ يستأثِرُ على نَديمِهِ. ولا ممّنْ سمْنُهُ في أديمِه. ثمّ كرّ على الأوّلِ وقال:
يا منْ إذا أشكلَ المُعَمّى *** جلَتْهُ أفكارهُ الدّقـيقَـهْ
إنْ قال يوماً لكَ المُحاجي *** خذْ تلكَ ما مِثلُهُ حَقيقَـهْ
ثم ثَنى جيدَهُ إلى الثّاني وقال:
يا منْ بَدا بـيانُـهُ *** عنْ فضلِهِ مُبيِّنا
ماذا مثالُ قولِهِـمْ *** حِمارُ وحْشٍ زُيّنا
ثم أوحى إلى الثالثِ بلحْظِهِ وقال:
يا منْ غدا في فضلِهِ *** وذكائِهِ كالأصْمَعي
ما مثلُ قولِكَ للـذي *** حاجاكَ أنْفِقْ تقمَعِ
ثمّ حملَقَ إلى الرّابعِ وأنشدَ:
يا منْ إذا ما عَويصٌ *** دجا أنارَ ظلامَـهْ
ماذا يُماثِلُ قـوْلـي *** إسْتَنْشِ ريحَ مُدامَهْ
ثمّ أومضَ إلى الخامِسِ وقال:
يا مَنْ تـنـزّهَ فَـهـمُـهُ *** عنْ أن يرَوّي أو يَشُـكّـا
ما مثلُ قـولِـكَ لـلـذي *** أضْحى يُحاجي غطِّ هَلكى
ثمّ أقبلَ قِبَلَ السادِسِ وأنشدَ:
يا أخا الفِطنَةِ التي *** بانَ فيها كمالُـهُ
سارَ باللّيلِ مُـدّةً *** أيُّ شيءٍ مثالُـهُ
ثم نَحا بصرَهُ إلى السابِعِ وقال:
يا منْ تحلّى بفَـهْـمٍ *** أقامَ في الناسِ سوقَهْ
لكَ البَـيانُ فـبـيّنْ *** ما مثلُ أحْبِبْ فَروقَهْ
ثم قصدَ قصْدَ الثامنِ وأنشدَ:
يا مـنْ تـبـــوّأ ذِروَةً *** في المجدِ فاقتْ كلَّ ذرْوَهْ
ما مثلُ قولِـكَ أعـطِ إذْ *** ريقاً يلوحُ بغيرِ عُـروَهْ
ثم ابتسمَ إلى التّاسِعِ وقال:
يا مَنْ حوَى حُسـنَ الـدّرا *** يَةِ والبَيانِ بـغـيرِ شـكِّ
ما مثلُ قولِكَ لـلـمُـحـا *** جي ذي الذّكاء الثّورُ مِلكي
ثم قبَضَ بجُمْعِهِ على رُدْني وقال:
يا مَنْ سَما بثُقوبِ فِطنَـتِـهِ *** في المُشكلاتِ ونورِ كوْكبهِ
ماذا مِثالُ صَفيرُ جَحـفَـلةٍ *** بيّنْـهُ تِـبْـيانـاً ينـمّ بـهِ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أطرَبَنا بما سمِعْناهُ. وطالَبَنا مُكاشَفَةَ معْناهُ. قُلنا لهُ: لسْنا منْ خيلِ هذا المَيدانِ. ولا لَنا بحَلّ هذِه العُقَدِ يَدانِ. فإنْ أبَنْتَ. مننْتَ. وإنْ كتَمْتَ. غممْتَ. فظَلّ يُشاوِرُ نفسَيْهِ. ويُقلّبُ قِدْحَيْهِ. حتى هانَ بذْلُ الماعونِ عليْهِ. فأقبَلَ حينئذٍ على الجَماعةِ. وقال: يا أّلَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ. سأعلّمُكُمْ ما لمْ تكونوا تعْلَمونَ. ولا ظننْتُمْ أنّكُمْ تُعلَّمونَ. فأوْكوا عليْهِ الأوعِيَةَ. وروِّضوا بهِ الأنديَةَ. ثمّ أخذَ في تفسيرٍ صقلَ به الأذْهانَ. واستفْرَغ معهُ الأرْذانَ. حتى آضَتِ الأفْهامُ أنْوَرَ منَ الشّمسِ. والأكْمامُ كأنْ لمْ تغْنَ بالأمسِ. ولمّا همّ بالمَفرّ. سُئِلَ عنِ المَقَرّ. فتنفّسَ كم تتنفّسُ الثَّكولُ. وأنشأ يقولُ:
كلُّ شِعْبٍ ليَ شِعْـبُ *** وبهِ رَبْعـيَ رحْـبُ
غيرَ أنّـي بـسَـروجٍ *** مُستَهامُ القلْبِ صَـبّ
هيَ أرضي البِكرُ والجـ *** وُّ الذي فيهِ المَـهَـبّ
والى روضَتِها الغـنّـا *** ء دونَ الرّوضِ أصْبو
ما حَلا لي بعْدَها حُـلْـ *** وٌ ولا اعْذَوْذَبَ عذْبُ
قال الراوي: فقلْتُ لأصحابي هذا أبو زيدٍ السَّروجيّ. الذي أدْنى مُلَحِهِ الأحاجيّ. وأخذْتُ أصِفُ لهُمْ حُسنَ توشيَتِهِ. وانقِيادَ الكَلامِ لمشيّتِهِ. ثمّ التفَتُّ فإذا بهِ قدْ طمَرَ. وناءَ بما قمَرَ. فعجِبْنا ممّا صنَعَ إذْ وقَعَ. ولمْ ندْرِ أيْنَ سكَعَ وصَقَعَ.

شرح وتحليل المقامة المكية للحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نهضْتُ من مدينةِ السّلامِ. لحِجّةِ الإسلامِ. فلمّا قضيْتُ بعَونِ اللهِ التّفَثَ. واستبَحْتُ الطّيبَ والرَّفَثَ. صادَفَ موسِمُ الخيْفِ. معْمَعانَ الصّيفِ. فاستَظْهَرْتُ للضّرورةِ. بِما يَقي حرَّ الظّهيرةِ. فبَينَما أنا تحتَ طِرافٍ. مع رُفقَةٍ ظِرافٍ. وقدْ حَمِيَ وَطيسُ الحصْباء. وأعْشى الهَجيرُ عينَ الحِرْباء. إذ هجَمَ عليْنا شيخٌ مُتَسَعْسِعٌ. يتْلوهُ فتًى متَرَعرِعٌ. فسلّمَ الشيخُ تسْليمَ أديبٍ أريبٍ. وحاوَرَ مُحاوَرَةَ قَريبٍ لا غَريبٍ. فأُعْجِبْنا بما نثَرَ منْ سِمْطِهِ. وعِجبْنا منِ انبِساطِه قبلَ بسْطِهِ. وقُلْنا لهُ: ما أنتَ. وكيفَ ولَجْتَ وما استأذَنْتَ؟ فقال: أما أنا فعَافٍ. وطالِبُ إسْعافٍ. وسِرُّ ضُرّي غيرُ خافٍ. والنّظَرُ إليّ شفيعٌ لي كافٍ. وأمّا الانْسِيابُ. الذي علِقَ بهِ الارتِيابُ. فَما هوَ بعُجابٍ. إذ ما علَى الكُرَماء منْ حِجابٍ. فسألْناهُ: أنّى اهْتَدَى إليْنا. وبِمَ استَدَلّ علَيْنا؟ فقال: إنّ للكرَمِ نشْراً تَنُمّ بهِ نفَحاتُهُ. وتُرْشِدُ إلى روضِهِ فوْحاتُهُ. فاستَدْلَلْتُ بتأرّجِ عَرْفِكُمْ. على تبلّجِ عُرفِكُم! وبشّرَني تضوُّعُ رندِكُمْ. بحُسْنِ المُنقَلَبِ منْ عِندِكُم! فاستخْبَرْناهُ حينَئِذٍ عنْ لُبانَتِهِ. لنتَكفّلَ بإعانتِهِ. فقال: إنّ لي مأرَباً. ولفَتايَ مَطلَباً. فقُلْنا لهُ: كِلا المَرامَينِ سيُقْضى. وكِلاكُما سوفَ يرْضى. ولكِنِ الكُبرَ الكُبْرَ. فقال: أجَلْ ومنْ دَحا السّبْعَ الغُبْرَ. ثمّ وثبَ للمَقالِ. كالمُنشَطِ منَ العِقالِ. وأنشَدَ:
إني امرُؤٌ أُبدِعَ بي *** بعدَ الوَجى والتّعَبِ
وشُقّتي شـاسِـعةٌ *** يقْصُرُ عنها خَبَبي
وما معي خـرْدَلَةٌ *** مطبوعةٌ منْ ذهَبِ
فحيلَتـي مُـنـسَـدّةٌ *** وحَيرَتي تلعَـبُ بـي
إنِ ارتَحَلْـتُ راجِـلاً *** خِفْتُ دَواعي العطَبِ
وإنْ تخلّفْتُ عنِ الرُفْ *** قَةِ ضاقَ مذْهَـبـي
فزَفْرَتي في صُـعُـدٍ *** وعَبْرتي في صبَـبِ
وأنتُمُ مُنتـجَـعُ الـرّا *** جي ومرْمَى الطّلَـبِ
لُهـاكُـمُ مـنـهَـلّةٌ *** ولا انْهِلالَ السُحُـبِ
وجارُكُمْ فـي حـرَمٍ *** ووَفْرُكُمْ في حـرَبِ
ما لاذَ مُرْتـاعٌ بـكُـمْ *** فخافَ نابَ الـنُـوَبِ
ولا اسـتَـدَرّ آمِــلٌ *** حِباءكُمْ فما حُـبـي
فانعَطِفوا في قِصّتـي *** وأحسِنوا مُنقـلَـبـي
فلوْ بلوْتُمْ عـيشَـتـي *** في مطْعمي ومَشرَبي
لساءكُمْ ضُرّي الـذي *** أسلَمَني لـلـكُـرَبِ
ولوْ خبَرْتُمْ حسَـبـي *** ونسَبي ومـذْهَـبـي
وما حوَتْ معرِفَـتـي *** منَ العُلومِ الُّـخَـبِ
لما اعتَرَتْكُمْ شُـبـهَةٌ *** في أنّ دائي أدَبــي
فلَيْتَ أنّـي لـمْ أكُـنْ *** أُرضِعْتُ ثَدْيَ الأدَبِ
فقد دَهانـي شُـؤمُـه *** وعَقّنـي فـيهِ أبـي
فقُلْنا له: أمّا أنتَ فقدْ صرّحَتْ أبياتُكَ بفاقَتِك. وعطَبِ ناقَتِكَ. وسنُمْطيكَ ما يوصّلُكَ إلى بلدِكَ. فما مأرَبَةُ ولَدِكَ؟ فقال له: قُمْ يا بني كما قام أبوكَ. وفُهْ بما في نفسِك لا فُضّ فوكَ. فنهضَ نُهوضَ البطَلِ للبِرازِ. وأصْلَتَ لِساناً كالعضْبِ الجُرازِ. وأنشأ يقول:
يا سادَةً في المَعالـي *** لهُمْ مبـانٍ مَـشـيدَهْ
ومَنْ إذا نابَ خطْـبٌ *** قاموا بدَفْعِ المكـيدَهْ
ومن يهونُ علـيهِـمْ *** بذْلُ الكُنوزِ العَتـيدَهْ
أريدُ منـكُـمْ شِـواءً *** وجرْدَقاً وعـصـيدَهْ
فإنْ غَـلا فَـرُقـاقٌ *** بهِ تُوارَى الشّـهـيدَهْ
أو لمْ يكُـنْ ذا ولا ذَا *** فشُبْعَةٌ مـنْ ثَـريدَهْ
فإنْ تـعـذّرْنَ طُـرّاً *** فعـجْـوَةٌ ونَـهـيدَهْ
فأحْضِروا ما تسنّـى *** ولوْ شَظًى منْ قَديدَهْ
وروِّجوهُ فنَـفْـسـي *** لِمـا يروجُ مُـريدَهْ
والزّادُ لا بُـدّ مـنْـهُ *** لرِحْلَةٍ لـي بَـعـيدَهْ
وأنتُـمُ خـيْرُ رهْـطٍ *** تُدعَوْنَ عند الشّـديدهْ
أيدِيكُـمُ كـــلَّ يومٍ *** لَهـا أيادٍ جَـــديدَهْ
وراحُكُـمْ واصِـلاتٌ *** شمْلَ الصِّلاتِ المُفيدَهْ
وبُغْيَتي في مَطـاوي *** ما تَرفِـدونَ زهـيدَهْ
وفيّ أجْرٌ وعُقْـبَـى *** تنْفيسِ كَرْبي حَمـيدَهْ
ولي نـتـائِجُ فِـكـرٍ *** يفضَحْنَ كُلّ قَصـيدَهْ
قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا رأيْنا الشّبْلَ يُشبِهُ الأسَدَ. أرحَلْنا الوالِدَ وزوّدْنا الولَدَ. فقابَلا الصُّنْعَ بشُكْرٍ نشَرَ أرديَتَهُ. وأدّيا بِه ديَتَهُ. ولمّا عزَما على الانْطِلاقِ. وعَقَدا للرّحلَةِ حُبُكَ النّطاقِ. قُلتُ للشّيخِ: هلْ ضاهَتْ عِدَتُنا عِدَةَ عُرْقوبٍ. أو هلْ بقيَتْ حاجةٌ في نفْسِ يعْقوبَ؟ فقال: حاشَ للهِ وكَلاّ. بل جَلّ مَعروفُكُمْ وجَلّى. فقُلتُ لهُ: فَدِنّا كما دِنّاكَ. وأفِدْنا كما أفَدْناكَ. أينَ الدّوَيْرَةُ. فقدْ ملَكَتْنا فيكَ الحَيرَةُ؟ فتنفّسَ تنفُّسَ منِ ادّكَرَ أوطانَهُ. وأنشدَ والشّهيقُ يلَعثِمُ لسانَه:
سَروجُ داري ولكِـنْ *** كيفَ السّبيلُ إلَـيْهـا
وقدْ أنـاخَ الأعـادي *** بها وأخْنَوْا علَـيْهـا
فوالّتي سِرْتُ أبْغـي *** حَطّ الذُنوبِ لـدَيْهـا
ما راقَ طرْفيَ شيءٌ *** مُذْ غِبتُ عنْ طرَفَيْها
ثمّ اغرَوْرَقَتْ عيناهُ بالدّموعِ. وآذَنَتْ مَدامِعُهُ بالهُموعِ. فكَرِهَ أن يستَوكِفَها. ولم يملِكْ أن يكَفْكِفَها. فقطَعَ إنْشادَهُ المُستَحْلى. وأوجَزَ في الوَداعِ وولّى.

شرح وتحليل المقامة المغربية للحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: شهِدْتُ صَلاةَ المغْرِبِ. في بعضِ مساجِدِ المغرِبِ. فلمّا أدّيتُها بفضْلِها. وشفَعْتُها بنَفْلِها. أخذَ طرْفي رُفقَةً قدِ انتَبَذوا ناحيةً. وامْتازوا صَفوةً صافيَةً. وهُمْ يتعاطَونَ كأسَ المُنافَثَةِ. ويقتَدِحونَ زِنادَ المُباحثَةِ. فرغِبْتُ في مُحادثتِهِمْ لكلِمَةٍ تُستَفادُ. أو أدبٍ يُستَزادُ. فسعَيْتُ إليهِمْ. سعْيَ المتطفّلِ عليْهِمْ. وقلتُ لهُمْ: أتقْبَلون نَزيلاً يطلُبُ جنى الأسْمارِ. لا جنّةَ الثّمارِ. ويبْغي مُلَحَ الحِوارِ. لا مَلْحاءَ الحُرارِ. فحَلّوا ليَ الحِبى. وقالوا: مرْحباً مرحَباً. فلمْ أجلِسْ إلا لمحَةَ بارِقٍ خاطِفٍ. أو نغبَةَ طائِرٍ خائِفٍ. حتى غَشيَنا جوابٌ. على عاتِقِه جِرابٌ. فحيّانا بالكلِمتَينِ. وحيّا المسجدَ بالتّسليمتَينِ. ثمّ قال: يا أولي الألبابِ. والفضلِ اللُبابِ. أما تعلَمونَ أنّ أنْفَسَ القُرُباتِ. تنْفيسُ الكُرُباتِ؟ وأمْتَنَ أسبابِ النّجاةِ. مؤاساةُ ذوي الحاجاتِ؟ وإني ومَنْ أحلّني ساحتَكُمْ. وأتاحَ ليَ استِماحتَكُمْ. لشَريدُ محلٍّ قاصٍ. وبَريدُ صِبيَةٍ خِماصٍ. فهلْ في الجَماعةِ. منْ يفثأُ حُمَيّا المَجاعَةِ؟ فقالوا له: يا هذا إنّك حضرْتَ بعْدَ العِشاء. ولمْ يبْقَ إلا فَضلاتُ العَشاء. فإنْ كنتَ بها قَنوعاً. فما تجِدُ فينا مَنوعاً. فقال: إنّ أخا الشّدائِدِ. ليَقْنَعُ بلَفَظاتِ المَوائِدِ. ونُفاضاتِ المَزاوِدِ. فأمرَ كُلٌ منهُمْ عبْدَهُ. أنْ يزوّدَهُ ما عِندَهُ. فأعجَبَهُ الصُنْعُ وشكرَ عليْهِ. وجلَسَ يرْقُبُ ما يُحْمَلُ إليْهِ. وثُبْنا نحنُ إلى استِثارَةِ مُلَحِ الأدَبِ وعُيونِه. واستِنْباطِ مَعينِهِ من عُيونِهِ. إلى أنْ جُلْنا فيما لا يَستَحيلُ بالانعِكاسِ. كقولكَ ساكِبُ كاسٍ. فتَداعَينا إلى أنْ نستَنتِجَ لهُ الأفكارَ. ونفتَرِعَ منهُ الأبْكارَ. على أنْ ينظِمَ البادِئُ ثلاثَ جُماناتٍ في عِقدِهِ. ثمّ تتدرّج الزّياداتُ منْ بعدِهِ. فيرَبّعُ ذو ميمَنَتِهِ في نظْمِهِ. ويُسبِّعُ صاحِبُ ميسرَتِهِ على رغْمِهِ. قال الرّاوي: وكنّا قدِ انتظَمْنا عِدّةَ أصابِعِ الكفّ. وتألّفْنا أُلفَةَ أصْحابِ الكهْفِ. فابْتَدَرَ لعِظَمِ محْنَتي. صاحبُ ميمَنَتي. وقال: لُمْ أخاً ملّ. وقال مُيامِنُهُ: كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ. وقال الذي يليهِ: منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ. وقال الآخرُ: سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ. وأفضَتِ النّوبَةُ إليّ. وقد تعيّنَ نظْمُ السّمْطِ السُباعيّ عليّ. فلمْ يزَلْ فِكري يصوغُ ويكْسِرُ. ويُثْري ويُعسِرُ. وفي ضِمْنِ ذلِك أستَطْعِمُ. فلا أجدُ منْ يُطعِمُ. إلى أن ركَدَ النّسيمُ. وحصْحَصَ التّسليمُ. فقلتُ لأصْحابي: لو حضَرَ السَّروجيّ هذا المَقامَ. لشَفى الدّاءَ العُقامَ. فقالوا: لو نزَلَتْ هذهِ بإياسٍ. لأمْسَكَ على ياسٍ. وجعلْنا نُفيضُ في استِصْعابِها. واستِغْلاقِ بابِها. وذلِك الزّوْرُ المُعتَري. يلحَظُنا لحْظَ المُزدَري. ويؤلّفُ الدُرَرَ ونحنُ لا ندْري. فلمّا عثَرَ على افتِضاحِنا. ونُضوبِ ضحْضاحِنا. قال: يا قومُ إنّ منَ العَناء العظيمِ. استيلادَ العَقيمِ. والاستِشْفاءَ بالسّقيمِ. وفوْقَ كلّ ذي عِلمٍ عليمٌ. ثمّ أقبَل عليّ وقال: سأنوبُ منابَكَ. وأكفيكَ ما نابَكَ. فإنْ شِئْتَ أن تنثُرَ. ولا تعثُرَ. فقُلْ مُخاطِباً لمَنْ ذمّ البُخْلَ. وأكثَرَ العذْلَ: لُذْ بكلّ مؤمّلٍ إذا لمّ وملَك بذَلَ. وإنْ أحببْتَ أن تنظِمَ. فقُلْ للذي تُعظِمُ:
أُسْ أرْمَلاً إذا عَـرا *** وارْعَ إذا المرءُ أسا
أسْنِدْ أخـا نَـبـاهَةٍ *** أبِنْ إخـاءً دَنـسـا
أُسْلُ جَنابَ غـاشِـمٍ *** مُشاغِبٍ إنْ جلَسـا
أُسْرُ إذا هبّ مِـراً *** وارْمِ بهِ إذا رَسـا
أُسْكُنْ تقَوَّ فعَـسـى *** يُسعِفُ وقْتٌ نكَسـا
قال: فلمّا سحرَنا بآياتِه. وحسرَنا ببُعْدِ غاياتِه. مدحْناهُ حتى استَعْفى. ومنحْناهُ إلى أنِ استَكْفى. ثمّ شمّرَ ثيابَهُ. وازدَفَرَ جِرابَهُ. ونهضَ يُنشِدُ:
للـهِ دَرُّ عِـصـابَةٍ *** صُدُقِ المَقالِ مَقاوِلا
فاقوا الأنامَ فضـائِلاً *** مأثورَةً وفواضِـلا
حاورْتُهم فوجَدتُ سحْـ *** باناً لديْهِـمْ بـاقِـلا
وحللْتُ فيهِمْ سـائِلاً *** فلَقيتُ جوداً سـائِلا
أقسَمْتُ لوْ كان الكِرا *** مُ حياً لكانوا وابِـلا
ثم خَطا قِيدَ رُمحَينِ. وعادَ مُستَعيذاً من الحَينِ. وقال: يا عِزّ مَنْ عدِمَ الآلَ. وكَنْزَ منْ سُلِبَ المالَ. إن الغاسِقَ قدْ وقَبَ. ووجْهَ المحجّةِ قدِ انتقَبَ. وبيْني وبينَ كِنّي ليلٌ دامِسٌ. وطريقٌ طامِسٌ. فهلْ منْ مِصباحٍ يؤْمِنُني العِثارَ. ويُبيّنُ ليَ الآثارَ؟ قال: فلمّا جِيء بالمُلتَمَسِ. وجلّى الوجوهَ ضوءُ القبَسِ. رأيتُ صاحِبَ صيْدِنا. هوَ أبو زيدِنا. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي أشَرْتُ إلى أنهُ إذا نطَقَ أصابَ. وإنِ استُمْطِرَ صابَ. فأتلَعوا نحوَه الأعْناق. وأحدَقوا بهِ الأحْداقَ. وسألوهُ أنْ يُسامِرَهُمْ ليلَتَهُ. على أن يجْبِروا عَيلَتهُ. فقال: حُبّاً لِما أحبَبْتُمْ. ورُحْباً بكُمْ إذا رحّبْتُمْ. غيرَ أني قصدتُكُمْ وأطْفالي يتضوّرونَ منَ الجوعِ. ويدْعونَ لي بوشْكِ الرّجوعِ. وإنِ استَراثوني خامرَهُم الطّيشُ. ولمْ يصْفُ لهمُ العيشُ. فدَعوني لأذْهبَ فأسُدَّ مَخْمَصَتَهُمْ. وأُسيغَ غُصّتَهُمْ. ثمّ أنقَلِبَ إليكُمْ على الأثَرِ. متأهّباً للسّمَرِ. إلى السّحَرِ. فقُلْنا لأحدِ الغِلْمَةِ: اتّبِعْهُ إلى فئَتِه. ليكونَ أسرعَ لفَيْئَتِهِ. فانْطلَقَ معَهُ مضطَبِناً جِرابَه. ومُحَثْحِثاً إيابَه. فأبْطأ بُطْأَ جاوزَ حدّهُ. ثمّ عادَ الغُلامُ وحدَهُ. فقُلْنا له: ما عندَكَ من الحديث. عنِ الخبيثِ؟ فقال: أخذَ بي في طرُقٍ مُتعِبَةٍ. وسُبُلٍ متشعّبَةٍ. حتى أفضَيْنا إلى دُوَيْرَةٍ خرِبَةٍ. فقال: هاهُنا مُناخي. ووكْرُ أفْراخي. ثمّ استَفْتَحَ بابَهُ. واختلَجَ مني جِرابَهُ. وقال: لَعمْري لقدْ خفّفْتَ عني. واستوْجَبْتَ الحُسْنى مني. فهاكَ نصيحةً هيَ منْ نفائِسِ النّصائحِ. ومغارِسِ المصالِحِ. وأنشدَ:
إذا ما حوَيْتَ جنـى نـخـلَةٍ *** فلا تقْرُبَنْهـا إلـى قـابِـلِ
وإمّا سقَطْتَ عـلـى بـيْدَرٍ *** فحوْصِلْ من السُنبلِ الحاصِلِ
ولا تلبَثَنّ إذا مـا لـقَـطْـتَ *** فتَنشَبَ في كفّةِ الـحـابِـلِ
ولا توغِلَنّ إذا ما سـبـحْـتَ *** فإنّ السّلامةَ في السـاحِـلِ
وخاطبْ بهاتِ وجاوِبْ بسوْفَ *** وبِعْ آجِلاً منكَ بالـعـاجـلِ
ولا تُكثِرَنّ علـى صـاحـبٍ *** فما ملّ قطُّ سوى الواصِـلِ
ثم قال: اخزُنْها في تأمورِكَ. واقْتَدِ به في أمورِكَ. وبادِرْ إلى صحْبِكَ. في كِلاءةِ ربّكَ. فإذا بلَغْتَهُمْ فأبْلِغْهُمْ تحيّتي. واتْلُ عليْهِمْ وصيّتي. وقُلْ لهُمْ عنّي: إنّ السهَرَ في الخُرافاتِ. لَمِنْ أعظمِ الآفاتِ. ولستُ أُلْغي احتِراسي. ولا أجلُبُ الهوَسَ إلى راسي. قال الراوي: فلمّا وقفْنا على فحْوى شِعرِهِ. واطّلَعْنا على نُكْرِهِ ومكرِهِ. تلاوَمْنا على ترْكِهِ. والاغتِرارِ بإفْكِهِ. ثمّ تفرّقْنا بوجوهٍ باسِرَةٍ. وصفقَةٍ خاسِرةٍ.

شرح وتحليل المقامة المعرية للحريري

أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. إلى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً إلى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا.فابْتَدَر الغُلامُ وقال:
أعارني إبرَةً لأرفـوَ أطْـمـا *** راً عَفاها البِلـى وسـوّدَهـا
فانخرَمَتْ في يَدي على خطَـإٍ *** منّيَ لمّا جذَبْتُ مِـقـوَدَهـا
فلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَـنـي *** بإرْشِـهـا إذْ رأى تـأوُّدَهـا
بلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِـلُـهـا *** أو قيمَةً بعْدَ أن تـجـوّدَهـا
واعْتاقَ ميلي رَهْناً لـدَيْهِ ونـا *** هيكَ بـه سُـبّةً تَـزوّدَهــا
فالعينُ مَرْهَى لرَهْـنِـه ويدي *** تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَهـا
فاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي *** وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعـوّدَهـا
فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال:
أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ *** ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنى
لوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَنـي *** مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَـنـا
ولا تصدّيتُ أبتَـغـي بـدَلاً *** منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَـنـا
لكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني *** بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنـا
وخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالـتِـهِ *** ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنى
قد عدَلَ الدهْرُ بينَنـا فـأنـا *** نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنـا
لا هُوَ يسْطيعُ فـكّ مِـروَدِهِ *** لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَـنـا
ولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي *** فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنـى
فهَذِهِ قصّتـي وقـصّـتُـه *** فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنـا ولَـنـا
فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ. فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ إلى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما؟ فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال:
أنا السَّروجـيُّ وهـذا ولَـدي *** والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِ
ومـا تـعــدّتْ يدُهُ ولا يَدي *** في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِـرْوَدِ
وإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَـدي *** مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْـتَـدي
كلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَـوْرِدِ *** وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ الـيَدِ
بكُلّ فنٍ وبـكـلّ مـقْـصَـدِ *** بالجِدّ إنْ أجْـدَى وإلاّ بـالـدَّدِ
لنَجلِبَ الرّشْحَ إلى الحظّ الصّدي *** ونُنْفِدَ العُمْرَ بـعـيشٍ أنْـكَـدِ
والموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَـدِ *** إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِ
فقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ.

شرح وتحليل المقامة المروية للحريري

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حُبّبَ إليّ مُذْ سعَتْ قدَمي. ونفَثَ قلَمي. أنْ أتّخِذَ الأدَبَ شِرْعَةً. والاقتِباسَ منهُ نُجْعَةً. فكُنتُ أنَقّبُ عنْ أخبارِهِ. وخزَنَةِ أسْرارِهِ. فإذا ألْفَيْتُ منهُمْ بُغيَةَ الملتَمِسِ. وجُذْوَةَ المُقتَبِسِ. شدَدْتُ يَدي بغَرْزِهِ. واستَنزَلْتُ منهُ زَكاةَ كنزِهِ. على أنّي لمْ ألْقَ كالسَّروجيّ في غَزارَةِ السُّحْبِ. ووضْعِ الهِناء مَواضِعَ النُّقْبِ. إلا أنهُ كانَ أسْيَرَ منَ المثَلِ. وأسرَعَ منَ القمَرِ في النُّقَلِ. وكنتُ لهَوى مُلاقاتِهِ. واستِحْسانِ مَقاماتِهِ. أرْغَبُ في الاغتِرابِ. وأستَعْذِبُ السّفَرَ الذي هوَ قِطعَةٌ من العَذابِ. فلمّا تطوّحْتُ إلى مرْوَ. ولا غَرْوَ. بشّرَني بمَلقاهُ زجْرُ الطّيرِ. والفألُ الذي هوَ بَريدُ الخيرِ. فلمْ أزَلْ أنشُدُهُ في المحافِلِ. وعندَ تلَقّي القَوافِلِ. فلا أجِدُ عنْهُ مُخبِراً. ولا أرى لهُ أثَراً ولا عِثْيَراً. حتى غلَبَ اليأسُ الطّمَعَ. وانْزَوى التّأميلُ وانْقمَعَ. فإني لَذاتَ يومٍ بحضْرَةِ والي مرْوَ. وكانَ ممّنْ جمَعَ الفضْلَ والسَّرْوَ. إذ طلَعَ أبو زيْدٍ في خلَقٍ مِمْلاقٍ. وخُلُقٍ مَلاّقٍ. فحَيّا تحيّةَ المُحْتاجِ. إذا لقِيَ ربَّ التّاجِ. ثمّ قالَ لهُ: اعْلَمْ وُقيتَ الذّمّ. وكُفيتَ الهَمّ. أنّ مَنْ عُذِقَتْ بهِ الأعْمالُ. أُعْلِقَتْ بهِ الأمالُ. ومَنْ رُفِعَتْ لهُ الدّرَجاتُ. رُفِعَتْ إليْهِ الحاجاتُ. وأنّ السّعيدَ منْ إذا قدَرَ. وواتاهُ القدَرُ. أدّى زكاةَ النِّعَمِ. كما يؤدّي زكاةَ النَّعَمِ. والتزَمَ لأهْلِ الحُرَمِ. ما يُلتزَمُ للأهْلِ والحرَمِ. وقد أصبحْتَ بحمدِ اللهِ عَميدَ مِصرِكَ. وعِمادَ عصْرِكَ. تُزْجى الرّكائِبُ إلى حرَمِكَ. وتُرْجى الرّغائِبُ منْ كرَمِكَ. وتُنزَلُ المَطالِبُ بساحَتِكَ. وتُستَنْزَلُ الرّاحةُ منْ راحَتِكَ. وكان فضلُ اللهِ عليْكَ عظيماً. وإحْسانُهُ لديْكَ عَميماً. ثمّ إني شيخٌ ترِبَ بعْدَ الإتْرابِ. وعدِمَ الإعْشابَ حينَ شابَ. قصَدْتُكَ منْ محَلّةٍ نازِحَةٍ. وحالَةٍ رازِحَةٍ. آمُلُ منْ بحرِكَ دُفعَةً. ومنْ جاهِكَ رِفعَةً. والتّأميلُ أفضَلُ وسائِلِ السائِلِ. ونائِلِ النّائِلِ. فأوْجِبْ لي ما يجِبُ عليْكَ. وأحسِنْ كما أحْسَنَ اللهُ إليْكَ. وإيّاكَ أن تلْويَ عِذارَكَ. عمَّنِ ازْدَراكَ. وأمَّ دارَكَ. أو تقبِضَ راحَكَ. عمّنِ امْتاحَكَ. وامْتارَ سَماحَكَ. فوَاللهِ ما مجَدَ مَنْ جمَدَ. ولا رشَدَ منْ حشَدَ. بلِ اللّبيبُ مَنْ إذا وجَدَ جادَ. وإنْ بَدأ بعائِدَةٍ عادَ. والكَريمُ منْ إذا استُوهِبَ الذّهَبَ. لمْ يهَبْ أنْ يهَبَ. ثمّ أمْسَكَ يرْقُبُ أُكُلَ غرْسِهِ. ويرْصُدُ مطيبَةَ نفْسِهِ. وأحَبَّ الوالي أنْ يعْلَمَ هلْ نُطفَتُهُ ثمَدٌ. أم لقَريحَتِهِ مدَدٌ. فأطْرَقَ يرَوّي في استيراء زَنْدِهِ. واستِشْفافِ فِرِنْدِهِ. والتَبَسَ على أبي زيدٍ سِرُّ صَمْتَتِهِ. وإرْجاءِ صِلَتِهِ. فتوَغّرَ غضَباً. وأنْشَدَ مُقتَضِباً:
لا تحقِرَنّ أبيْتَ الـلّـعـنَ ذا أدبٍ *** لأنْ بَدا خلَقَ السّرْبـالِ سُـروتـا
ولا تُضِعْ لأخي التّأميلِ حُرمـتَـهُ *** أكانَ ذا لسَنٍ أم كـان سِـكّـيتـا
وانفَحْ بعُرْفِكَ منْ وافاكَ مختَبطـاً *** وانعَشْ بغَوْثِكَ من ألفيتَ مَنكوتـا
فخَيرُ مالِ الفتى مـالٌ أشـادَ لـهُ *** ذِكْراً تناقَلَهُ الرُكبـانُ أو صِـيتـا
وما على المُشتَري حمْداً بمَوْهِـبَةٍ *** غبنٌ ولوْ كان ما أعْطاهُ ياقـوتـا
لوْلا المُروءةُ ضاقَ العُذْرُ عن فَطِنٍ *** إذا اشْرأبّ إلى ما جاوَزَ القـوتـا
لكنّهُ لابْتِناء المـجْـدِ جـدّ ومِـنْ *** حُبّ السّماحِ ثنَى نحوَ العُلى لِيتـا
وما تنشّقَ نشْرَ الشّكْـرِ ذو كـرَمٍ *** إلا وأزْرى بنَشرِ المِسكِ مَفتـوتـا
والحمدُ والبخلُ لم يُقضَ اجتماعهما *** حتى لقَدْ خيلَ ذا ضَبّاً وذا حـوتَـا
والسّمحُ في الناسِ محبوبٌ خلائِقُهُ *** والجامدُ الكفّ ما ينْفَكّ ممْقـوتـا
وللشّحيحِ على أمْـوالِـهِ عـلَـلٌ *** يوسِعْنَهُ أبَـداً ذمّـاً وتـبْـكـيتـا
فجُدْ بما جمَعتْ كفّاكَ من نشَـبٍ *** حتى يُرَى مُجْتَدي جَدواكَ مَبهوتا
وخُذْ نصيبَكَ منـهُ قـبـلَ رائِعَةٍ *** من الزّمانِ تُريكَ العودَ منحوتـا
فالدّهْرُ أنكَدُ من أن تستَمـرّ بـهِ *** حالٌ تكرّهْتَ تلكَ الحالَ أم شيتا
فقال لهُ الوالي: تاللهِ لقدْ أحسَنْتَ. فأيُّ ولَدِ الرّجُلِ أنتَ؟ فنظَرَ إليْهِ عنْ عُرْضٍ. وأنشَدَ وهُوَ مُغْضٍ:
لا تسْألِ المرْءَ مَنْ أبوهُ ورُزْ *** خلالَهُ ثمّ صِلْهُ أو فاصْـرِمِ
فما يَشينُ السُّلافَ حينَ حَلا *** مَذاقُها كونُها ابنَةَ الحِصْرِمِ
قال: فقرّبَهُ الوالي لبَيانِهِ الفاتِنِ. حتى أحلّهُ مقْعَدَ الخاتِنِ. ثمّ فرَضَ له من سُيوبِ نيْلِهِ. ما آذنَ بطولِ ذَيلِهِ. وقِصَرِ لَيلِهِ. فنهَضَ عنْهُ برُدْنٍ مَلآنَ. وقلْبٍ جذْلانَ. وتبِعْتُهُ حاذِياً حَذْوَهُ. وقافِياً خَطْوَهُ. حتى إذا خرَجَ منْ بابِهِ. وفصَلَ عنْ غابِهِ. قُلتُ لهُ: هُنّئْتَ بِما أوتيتَ. ومُلّيتَ بِما أُوليتَ! فأسْفَرَ وجهُهُ وتَلالا. ووالى شُكْراً للهِ تَعالى. ثمّ خطَرَ اخْتِيالاً. وأنشدَ ارتِجالاً:
منْ يكُنْ نالَ بالحَماقَةِ حَظّـاً *** أو سَما قدرُهُ لِطيبِ الأصولِ
فبِفَضْلي انتَفَعْتُ لا بفُضولي *** وبقَوْلي ارتفَعْتُ لا بقُيولـي
ثم قال: تَعْساً لمَنْ جدَبَ الأدَبَ. وطوبى لمَنْ جدّ فيهِ ودأبَ! ثمّ ودّعَني وذهَبَ. وأوْدَعَني اللَّهَبَ.

شرح وتحليل المقامة المراغية للحريري

رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: حضَرْتُ ديوانَ النّظرِ بالمَراغَةِ. وقدْ جَرى بهِ ذكْرُ البَلاغَةِ. فأجمَعَ مَنْ حضَرَ منْ فُرْسانِ اليَراعَةِ. وأرْبابِ البَراعةِ. على أنّهُ لمْ يبْقَ مَنْ يُنقّحُ الإنْشاءَ. ويتصرّفُ فيهِ كيفَ شاءَ. ولا خلَفَ. بعْدَ السّلَفِ. مَنْ يبتَدِعُ طريقةً غَرّاء. أو يفتَرِعُ رسالةً عذْراءَ. وأنّ المُفلِقَ من كُتّابِ هذا الأوانِ. المُتمكّنَ من أزِمّةِ البَيانِ. كالعِيالِ على الأوائِلِ. ولو ملَكَ فَصاحَةَ سحْبانِ وائِلٍ. وكان بالمجْلِسِ كهْلٌ جالِسٌ في الحاشيةِ. عندَ مَواقِفِ الحاشِيَةِ. فكانَ كلّما شطّ القوْمُ في شوْطِهِمْ. ونشَروا العَجْوَةَ والنّجْوَةَ منْ نوْطِهِمْ. يُنْبئ تَخازُرُ طرْفِهِ. وتشامُخُ أنفِهِ. أنّهُ مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ. ومُجْرَمِّزٌ سيَمُدّ الباعَ. ونابِضٌ يبْري النِّبالَ. ورابِضٌ يبْغي النّضالَ. فلمّا نُثِلَتِ الكَنائِنُ. وفاءتِ السّكائِنُ. وركَدَتِ الزّعازعُ. وكفّ المُنازِعُ. وسكنَتِ الزّماجِرُ. وسكتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. أقبَلَ على الجَماعَةِ وقال: لقَدْ جئْتُمْ شيْئاً إدّاً. وجُرْتُمْ عنِ القصْدِ جِدّاً. وعظّمتُمُ العِظامَ الرُّفاتَ. وافْتَتُّمْ في المَيْلِ إلى مَنْ فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللذت، معهم انعَقَدَتِ المودّاتُ. أنَسيتُمْ يا جَهابِذَةَ النّقْدِ. ومَوابِذَةَ الحَلّ والعَقْدِ. ما أبْرَزَتْهُ طَوارِفُ القَرائِحِ. وبرّزَ فيهِ الجذَعُ على القارِحِ. منَ العِباراتِ المهَدَّبَةِ. والاستِعاراتِ المُستَعْذَبَةِ. والرّسائِلِ الموشّحَةِ. والأساجيعِ المُستَمْلَحَةِ؟ وهلْ للقُدَماء إذا أنعَمَ النّظَرَ. مَنْ حضَرَ. غيرُ المَعاني المطْروقَةِ المَوارِدِ. المعْقولَةِ الشّوارِدِ. المأثورَةِ عنهُمْ لتَقادُمِ المَوالِدِ. لا لتقدُّمِ الصّادِرِ على الوارِدِ؟ وإني لأعْرِفُ الآنَ مَنْ إذا أنْشا. وشّى. وإذا عبّرَ. حبّرَ. وإنْ أسهَبَ. أذْهَبَ. وإذا أوْجَزَ. أعْجَزَ. وإنْ بَدَهَ. شدَهَ. ومتى اخْتَرَعَ. خرَعَ. فقالَ لهُ ناظورَةُ الدّيوانِ. وعينُ أولَئِكَ الأعْيانِ: مَنْ قارِعُ هذِهِ الصّفاةِ. وقَريعُ هذِهِ الصّفاتِ؟ فقال: إنّه قِرْنُ مَجالِكَ. وقَرينُ جِدالِكَ. وإذا شِئْتَ ذاكَ فرُضْ نَجيباً. وادْعُ مُجيباً. لتَرى عَجيباً. فقال لهُ: يا هَذا إنّ البُغاثَ بأرضِنا لا يَستَنْسِرُ. والتّمييزَ عندَنا بينَ الفِضّةِ والقضة متيَسِّرٌ. وقَلَّ منِ استَهدَفَ للنّضالِ. فخلّصَ منَ الدّاء العُضالِ. أوِ استَسارَ نقْعَ الامْتِحانِ. فلمْ يُقْذَ بالامتِهانِ. فلا تُعرِّضْ عِرْضَكَ للمَفاضِحِ. ولا تُعْرِضْ عنْ نَصاحَةِ النّاصِحِ. فقال: كُلُّ امرِئٍ أعْرَفُ بوسْمِ قِدْحِهِ. وسيَتَفرّى الليلُ عنْ صُبْحِهِ. فتَناجَتِ الجَماعَةُ فيما يُسْبَرُ بهِ قُلَيْبُهُ. ويُعْمَدُ فيهِ تقْليبُهُ. فقال أحدُهُمْ: ذَرُوهُ في حِصّتي. لأرْميَهُ بحَجَرِ قِصّتي. فإنّها عُضْلَةُ العُقَدِ. ومِحَكُّ المُنْتَقَدِ. فقلّدوهُ في هذا الأمْرِ الزّعامَةَ. تقْليدَ الخوارِجِ أبا نَعامَةَ. فأقْبَلَ على الكهْلِ وقالَ: اعْلَمْ أني أُوالي. هذا الوالي. وأُرَقّحُ حالي. بالبَيانِ الحالي. وكُنْتُ أستَعينُ على تقْويمِ أوَدي. في بلَدي. بسَعَةِ ذاتِ يَدي. معَ قِلّةِ عدَدي. فلمّا ثَقُلَ حاذي. ونفِدَ رَذاذي. أمّمْتُهُ منْ أرْجائي. برَجائي. ودعوْتُهُ لإعادَةِ رُوائي وإرْوائي. فهَشّ للوِفادَةِ وراحَ. وغَدا بالإفادَةِ وراحَ. فلمّا استأذَنْتُهُ في المَراحِ. إلى المُراحِ. على كاهِلِ المِراحِ. قال: قدْ أزْمَعْتُ أنْ لا أزوّدَكَ بَتاتاً. ولا أجْمعَ لكَ شَتاتاً. أو تُنْشِئَ لي أمامَ ارتِحالِكَ. رِسالَةً تودِعُها شرْحَ حالِكَ. حُروفُ إحْدى كلِمتَيْها يعُمّها النَّقْطُ. وحُروفُ الأخْرى لمْ يُعْجَمْنَ قطّ. وقدِ استأنَيْتُ بَياني حَوْلاً. فَما أحارَ قوْلاً. ونَبَهْتُ فِكْري سَنَةً. فما ازْدادَ إلا سِنَةً. واستَعَنْتُ بقاطِبَةِ الكُتّابِ. فكلٌ منْهُمْ قطّبَ وتابَ. فإنْ كُنتَ صدَعْتَ عنْ وصْفِكَ باليَقينِ. فأتِ بآيَةٍ إنْ كُنتَ منَ الصّادِقين. فقال لهُ: لقَدِ استَسْعَيْتَ يَعْبوباً. واستَسْقَيْتَ أُسْكوباً. وأعطَيْتَ القوْسَ بارِيَها. أسْكَنْتَ الدّارَ ثانِيَها. ثمّ فكّرَ ريثَما اسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ:اسْتَجَمّ قريحَتَهُ. واستَدَرّ لَقْحَتَهُ. وقالَ: ألْقِ دَواتَكَ واقْرُبْ. وخُذْ أداتَكَ واكتُبْ: الكرَمُ ثبّتَ اللهُ جيْشَ سُعودِكَ يَزينُ. واللّؤمُ غَضّ الدّهرُ جَفْنَ حَسودِكَ يَشينُ. والأرْوَعُ يُثيبُ. والمُعْوِرُ يَخيبُ. والحُلاحِلُ يُضيفُ. والماحِلُ يُخيفُ. والسّمْحُ يُغْذي. والمَحْكُ يُقذي. والعطاء ينجي والمطال يشجي، والدعاء يفي والمدح ينقي والحُرُّ يَجْزي. والإلْطاطُ يُخْزي. واطّراحُ ذي الحُرْمَةِ غَيٌ. ومَحْرَمَةُ بَني الآمالِ بغْيٌ. وما ضنّ إلا غَبينٌ. ولا غُبِنَ إلا ضَنينٌ. ولا خزَنَ إلا شَقيٌ. ولا قبَضَ راحَهُ تقيٌ. وما فتئ وعدُك يَفي. وآراؤكَ تَشْفي. وهِلالُكَ يُضي. وحِلْمُك يُغْضي. وآلاؤكَ تُغْني. وأعداؤكَ تُثْني. وحُسامُك يُفْني. وسؤدَدُكَ يُقْني. ومُواصِلُكَ يجْتَني. ومادِحُك يقْتَني. وسماحُكَ يُغيثُ. وسماؤكَ تَغيثُ. ودرُّكَ يَفيضُ. وردُّكَ يَغيضُ. ومؤمِّلُكَ شيْخٌ حَكاهُ فَيْءٌ. ولمْ يبْقَ لهُ شيءٌ. أمّكَ بظَنٍ حِرصُهُ يثِبُ. ومدَحَكَ بنُخَبٍ. مُهورُها تجِبُ. ومَرامُهُ يخِفُّ. وأواصِرُهُ تشِفُّ. وإطْراؤهُ يُجْتَذَبُ. وملامُهُ يُجتَنَبُ. وورَاءهُ ضَفَفٌ. مَسّهُمْ شظَفٌ. وحصّهُمْ جنَفٌ. وعمّهُمْ قشَفٌ. وهوَ في دمْعٍ يُجيبُ. وولَهٍ يُذيبُ. وهَمٍّ تَضيّفَ. وكمَدٍ نيّفَ. لمأمولٍ خيّبَ. وإهْمالٍ شيّبَ. وعدوٍّ نَيّبَ. وهُدُوٍّ تغيّبَ. ولمْ يزِغْ ودُّهُ فيغْضَبَ. ولا خَبُثَ عودُهُ فيُقْضَبَ. ولا نفَثَ صدْرُهُ فيُنْفَضَ. ولا نشَزَ وصْلُهُ فيُبْغَضَ. وما يقْتَضي كرَمُكَ نبْذَ حُرَمِهِ. فبيِّضْ أمَلَهُ بتَخْفيفِ ألَمِهِ. ينُثّ حمدَكَ بينَ عالَمِهِ. بقيتَ لإماطَةِ شجَبٍ. وإعْطاءِ نشَبٍ. ومُداواةِ شجَنٍ. ومُراعاةِ يفَنٍ. موصولاً بخَفْضٍ. وسُرورٍ غَضٍّ. ما غُشِيَ معْهَدُ غنيٍّ. أو خُشِيَ وهْمُ غبيٍّ. والسّلامُ. فلمّا فرَغَ منْ إمْلاءِ رِسالَتِهِ. وجلّى في هَيْجاء البَلاغَةِ عنْ بَسالَتِهِ. أرضَتْهُ الجماعَةُ فِعْلاً وقوْلاً. وأوْسَعَتْهُ حَفاوَةً وطَوْلاً. ثمّ سُئِلَ منْ أيّ الشّعوبِ نِجارُهُ. وفي أيّ الشِّعابِ وِجارُهُ؟ فقال:
غسّانُ أُسرَتيَ الصّـمـيمَـهْ *** وسُروجُ تُرْبَتي القَـديمَـهْ
فالبَيتُ مثلُ الـشّـمْـسِ إشْـ *** راقاً ومنـزِلَةً جـسـيمَـهْ
والرّبْعُ كالـفِـرْدَوْسِ مـطْ *** يَبَةً ومَـنْـزَهَةً وقـيمَـهْ
واهـاً لـعـيْشٍ كـانَ لـي *** فيهـا ولـذّآتٍ عَـمـيمَـهْ
أيّامَ أسْحَـبُ مُـطْـرَفـي *** في روضِها ماضي العَزيمَهْ
أخْتالُ فـي بُـردِ الـشّـبـا *** بِ وأجْتَلي النِّعَمَ الوَسيمَـهْ
لا أتّـقـي نُـوَبَ الـزّمـا *** نِ ولا حَوادِثَهُ المُـلـيمَـهْ
فلوَ انّ كـرْبـاً مُـتْـلِـفٌ *** لَتَلِفْتُ منْ كُرَبي المُقـيمَـهْ
أو يُفْتَدَى عـيْشٌ مـضـى *** لفدَتْهُ مُهجَتيَ الـكَـريمَـهْ
فالموْتُ خـيرٌ لـلـفـتـى *** منْ عيشِهِ عيْشَ البَهـيمَـهْ
تقْـتـادُهُ بُـرَةُ الـصَّـغـا *** رِ إلى العظيمَةِ والهضيمَـهْ
ويرَى السّباعَ تَـنـوشُـهـا *** أيْدي الضّباعِ المُستَضيمَـهْ
والـذّئبُ لــلأيّامِ لـــوْ *** لا شُؤمُها لمْ تنْبُ شـيمَـهْ
ولوِ استَقامَـتْ كـانـتِ الـ *** أحوالُ فيها مُسـتَـقـيمَـهْ
ثمّ إنّ خبَرَه نَما إلى الوالي. فمَلأ فاهُ باللآلي. وسامَهُ أن ينضَويَ إلى أحشائِهِ. ويَليَ ديوانَ إنْشائِهِ. فأحْسَبَهُ الحِباءُ. وظلَفَهُ عنِ الوِلايَةِ الإباءُ. قال الراوي: وكُنتُ عرَفْتُ عُودَ شجَرَتِه. قبلَ إيناعِ ثمرَتِهِ. وكِدْتُ أنبّهُ على عُلوّ قدْرِهِ. قبلَ استِنارَةِ بدْرِهِ. فأوْحى إليّ بإيماضِ جفْنِهِ. أن لا أجرِّدَ عضْبَهُ منْ جفْنِهِ. فلمّا خرَجَ بَطينَ الخُرْجِ. وفصَلَ فائِزاً بالفُلْجِ. شيّعْتُهُ قاضِياً حقّ الرّعايَةِ. ولاحِياً لهُ على رفْضِ الوِلايَةِ. فأعْرَضَ مُتَبَسّماً. وأنْشَدَ مترنّماً:
لَجَوْبُ البِلادِ معَ المَتْرَبَـهْ *** أحَبُّ إليّ منَ المرْتَـبَـهْ
لأنّ الوُلاةَ لـهُـمْ نَـبـوَةٌ *** ومعْتَبَةٌ يا لَها مَعْـتَـبَـهْ
ومافيهمِ مَنْ يرُبُّ الصّنيعَ *** ولا مَنْ يُشيِّدُ ما رتّـبَـهْ
فلا يخدَعنْكَ لَموعُ السّرابِ *** ولا تأتِ أمْراً إذا ما اشْتبَهْ
فكَمْ حالِمٍ سرّهُ حُـلْـمُـهُ *** وأدرَكَهُ الرّوْعُ لمّا انْتبَـهْ

شرح وتحليل المقامة الكوفية للحريري

حكى الحارث بن همام ، قال: سمرت بالكوفة، في ليلة أديمها ذو لونين، وقمرها كتعويذة من لجين، مع رفقةٍ غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، وما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يحتفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يمل عنه، فأستهوانا السمر إلى غرب القمر وغلب السهر، فلما روق الليل البهيم، ولم يبقى إلا الهويم، سمعنا من الباب نبأة مستنبحٍ، ثم تلتها صكةُ مستفتح، فقلنا من الملم، في الليل المدلهم، فقال:
يا أهل ذا المغنى وقيتم شراً *** ولا لقيتم ما بقيتم ضراً
قد دفع الليل الذي أكفهرا *** إلى ذراكم شَعِثاً مغبرا
أخا سِفارٍ طال واسبطرا *** حتى أنثنا محقوقفاً مصفرا
مثل الهلال الأفق حين إفترا *** وقد عرا فناءكم معترا
وأمكم دون الأنام طراً *** يبغي قرى ومنكم مستقرا
فدونكم ضيفاً قنوعاً حرا *** يرضى بما أحلو لي وما مرا
وينثني عنكم وينبث البرا
قال الحارث بن همام: فلما خلبنا بعذوبة نطقه، وعلمنا ما وراء برقه، إبتدرنا فتح الباب، وتلقيناه بالترحاب، وقلنا للغلام هيأ هيأ، وهلم وتهيأ، فقال الضيف والذي أحلني ذراكم، لا لا تلمظت بقراكم، أو تضمنوا لي أن لا تتخذوني كلا، ولا تجشموا لأجلي كلاً، فرب كلةٍ هاضت الآكل وحرمته مآكل، وشر الأضياف من سام التكليف وآذى المضيف، خصوصاً إذ يتعلق بالأجسام، ويقضي إلى الأسقام، وما قيل في المثل الذي سار سائره خير العشاء سوافره إلا ليعجل التعشي ويجتنب أكل الليل الذي يعشي، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع.
(قال) فكأنه أطلع على إرادتنا فرمى عن قوس عقيدتنا، لا جرم أنا آنسناه بالتزام الشرط، وأثنينا على خُلقه السبط، ولما أحضر الغلام، وماراج وأذكى بيننا السراج، تأملته فإذا هو أبو زيد. فقلت لِصحابي: ليهنئكم الضيف الوارد بل المغنم البارد. فإن يكن أفل قمر الشِعرى، فقد طلع قمر الشِعرا، وأستتر بدر النثرة فقد تبلج بدر النثر، فسرة حُميا المسرة فيهم، وطارت السِنة عن مآقيهم، ورفضوا الدعة التي كانو نووها، وتابوا إلى نشر الفكاهة بعد ما طووها، وأبو زيدٍ مكب على إعمال يديه، حتى إذا أسترفع ما لديه قلنا له: أطرفنا بغربية من غرائب أسمارك، وعجيبة من عجائب أسفارك؟
فقال: لقد بلوت من العجائب ما لم يره الراؤون، ولا رواه الروون، وأن من أعجبها ما عاينته الليلة قبيل أنتيابكم ومصيري إلى بابكم.
فأستخبرناه عن طرفة مراه في مسرح مسراه، فقال: إن مرامي الغربة لفظتني إلى هذه التربة، وأنا ذو مجاعةٍ وبؤسى وجرابٍ كفؤاد أم موسى، فنهضت حين سجى الدجى على ما بي من الوجى، لأرتاد مضيفاً أو أقتاد رقيفاً. فساقني حادي السّغب، والقضاء المكنى أبا العجب، إلى أن وقفت على باب دارٍ فقلت على بدارٍ (شعر):
حييتم يا أهل هذا المنزل *** وعشتم في خضل عيشٍ خضل
ما عنكم لأبن سبيلٍ مرملٍ *** نضو سرىً خابط أليل أليل
جوى الحشى على الطوى مشتمل *** ما ذاق مذ يومين طعم مأكل
ولا له في أرضكم موئل *** وقد دجى جنح الظلام المسبل
وهو من الحيرة في تململ *** فهل بهذا الربع عذب المنهل
يقول لي ألق عصاك وأدخل *** وأبشر ببشرٍ وقرىً معجل
قال: فبرز إلي جوذر، عليه شوذر وقال (شعر):
وحرمة الشيخ الذي سن القرى *** وأسس المحجوج في أم القرى
ما عندنا لطارقٍ إذا عرا *** سوى الحديث والمُناخ في الذرى
وكيف يقري من نفى عنه الكرى *** طوى برى أعظُمه لما أنبرى
فما ترى فيما ذكرت ما ترى؟
فقلت: ما أصنع بمنزلٍ قفرٍ ومنزلٍ حِلفِ فقرٍ، ولكن يا فتى ما أسمك فقد فتتني فهمك، فقال أسمي زيد ومنشئي فيد، ووردت هذه المدرة أمس، مع أخوالي من بني عبس.
فقلت زدني إضاحاً زادك الله صلاحاً، عشت ونعشت. فقال: أخبرتني أمي برة، وهي كأسمها برة، أنها نكحت عام الغارة بماوان رجلاً من سراة سروج وغسان، فلما أنس منها الإثقال، وكان باقعةً على ما يقال، ظعن عنها سراً وهلم جراً، فما يعرف أحي هو فيتوقع أم أودع اللحد البلقع.
قال أبو زيد: فعلمت بصحة العلامات أنه ولدي، وصدفني عن التعرف إليه صفر يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة ودموعٍ مفضوضةٍ، فهل سمعتم ي أولي الألباب بأعجب من هذا العجاب؟
فقالنا: أثبتوها في عجائب الأتفاق، وخلدوها في بطون الأوراق، فما سير مثلها في الآفاق.
فأحضرنا الدواة وأساودها، ورشقنا الحكاية على ما سردها، ثم أستنبطناه عن مرتآه، في أستضمام فتاه، فقال: إذا ثقل ردني، خف علي أن أكفل أبني.
فقلنا: أن كان يكفيك نصاب من المال، ألفناه لك في الحال. فقال: وكيف لا يقنعني نصاب، وهل يحتقر قدره إلا مصاب. (قال الراوي): فألتزم كل منا قسطاً وكتب له به رقطاً. فشكر عند ذلك الصنع وأستنفد في الثناء الوسع، حتى أننا أستطلنا القول وأستققلنا الطول، ثم أنه نشر من وشي السمر ما أزرى به محبر، إلى أن أطل التنوير وجشر الصبح المنير، فقضيناها ليلة غابت شوائبها إلى أن شابت ذوائبها، وكمل سعودها إلى أن أنفطر عودها، ولما ذر قرن الغزالة، وقال أنهض بنا لنقبض الصلات ولنستنضر الإحالات. فقد أستطارت صدوع كبدي من الحنين إلى ولدي، فوصلت جناحه حتى سنيت نجاحه، فحين أحرز العين في صرته برقت اسارير مسرته، وقال لي: جزيت خيراً عن خطا قدميك والله خليفتي عليك. فقلت: أريد أن أتعبك لأشاهد ولدك النجيب وأنافثه لكي يجيب، فنظر إلي نظرة الخادع إلى المخدوع وضحك حتى تغرغرت مقلتاه بالدموع، ثم أنشد:
يا من تظني السراب ماءً *** لما رويت الذي رويتُ
ما خلت أن يستسر مكري *** وأن يخيل الذي عنيت
والله ما برة بعرسي *** ولا لي أبن به أكتنيت
وأنما لي فنون سحرٍ *** أبدعت فيها وأقتديت
لم يحكها الأصمعي فيما *** حكى ةلا حكاها الكميت
تخذتها وصلة إلى ما *** تجنيه كفي متى أشتهيت
ولو تعافيتها لحالت *** حالي ولم أحوِ ما حويت
فمهد العذر أو فسامح *** أن كنت أجرمت أو جنيت
ثم أنه ودعني ومضى، وأودع قلبي جمر الغضى

شرح وتحليل المقامة الكرجية للحريري

حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: شتَوْتُ بالكَرَجِ لدَينٍ أقتَضيهِ. وأرَبٍ أقْضيهِ. فبلَوْتُ منْ شِتائِها الكالِحِ. وصِرّها النّافِحِ. ما عرّفَني جَهْدَ البَلاء. وعكَفَ بي على الاصْطِلاء. فلمْ أكُنْ أُزايلُ وِجاري. ولا مُستَوْقَدَ ناري. إلا لضَرورَةٍ أُدفَعُ إليْها. أو إقامةِ جماعةٍ أحافِظُ عليه. فاضطُررْتُ في يومٍ جَوُّهُ مُزْمَهِرٌّ. ودَجْنُهُ مكفَهِرٌّ. إلى أن برَزْتُ منْ كِناني. لمُهِمٍّ عَناني. فإذا شيخٌ عاري الجِلدَةِ. بادي الجُردَةِ. وقدِ اعتَمّ برَيْطَةٍ. واستَثْفَر بفُوَيطَةٍ. وحوالَيهِ جمْعٌ كَثيفُ الحواشي. وهو يُنشِدُ ولا يُحاشي:
يا قومِ لا يُنبِئكُـمُ عـن فَـقـري *** أصْدَقُ من عُرْيي أوانَ الـقُـرِّ
فاعتَبِروا بِما بَـدا مـنْ ضُـرّي *** باطِنَ حالي وخَـفِـيَّ أمْـري
وحاذِروا انقِلابَ سِلْـمِ الـدهْـرِ *** فإنني كُنـتُ نَـبـيهَ الـقـدْرِ
آوي إلى وَفْـرٍ وحـدٍّ يَفْـري *** تُفيدُ صُفري وتُبـيدُ سُـمْـري
وتشتَكي كُومـي غَـداةَ أقْـري *** فجرّدَ الدّهرُ سُـيوفَ الـغـدْرِ
وشَنّ غاراتِ الرّزايا الـغُـبْـرِ *** ولمْ يزَلْ يسْحَـتُـنـي ويَبْـري
حتى عفَتْ داري وغـاضَ دَرّي *** وبارَ سِعْري في الوَرى وشِعْري
وصِرْتُ نِضْوَ فـاقَةٍ وعُـسْـرِ *** عاري المَطا مجرَّداً من قِشْري
كأنّني المِغزَلُ في الـتّـعـرّي *** لا دِفْءَ لي في الصِّنّ والصِّنَّبْرِ
غيرُ التّضحّي واصْطِلاءِ الجمْرِ *** فهلْ خِضَمٌ ذو رِداءٍ غَـمْـرِ
يستُرُني بمُطرَفٍ أو طِـمْـرِ *** طِلابَ وجهِ اللهِ لا لشُـكْـري
ثم قال: يا أرْبابَ الثّراء. الرّافِلينَ في الفِراء. مَنْ أوتيَ خيراً فليُنْفِقْ. ومنِ استَطاعَ أن يُرفِقْ فليُرْفِقْ. فإنّ الدُنْيا غَدورٌ. والدهرَ عَثورٌ. والمُكنَةَ زَورَةُ طيْفٍ. والفُرصَةُ مُزنَةُ صيفٍ. وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ. وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ. وها أنا اليومَ يا سادَتي. ساعِدي وِسادَتي. وجِلْدَتي بُرْدَتي. وحَفْنَتي جَفنَتي. فليَعتَبِرِ العاقِلُ بحالي. ولْيُبادِرْ صرْفَ اللّيالي. فإنّ السّعيدَ منِ التّعظَ بسِواهُ. واستَعدّ لمسْراهُ. فقيلَ لهُ: قد جلَوْتَ علَينا أدبَكَ. فاجْلُ لنا نسبَكَ. فقال: تبّاً لمُفتَخِرٍ. بعَظْمٍ نخِرٍ! إنّما الفخْرُ بالتُّقى. والأدَبِ المُنتَقى. ثم أنشدَ:
لعَمرُكَ ما الإنسانُ إلا ابنُ يومِه *** على ما تجلّى يومُهُ لا ابنُ أمسِهِ
وما الفخرُ بالعظْمِ الرّميمِ وإنّمـا *** فَخارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِـهِ
ثمّ إنّهُ جلسَ مُحقَوقِفاً. واجْرَنثَمَ مُقَفقِفاً. وقال: اللهُمّ يا مَنْ غمرَ بنوالِهِ. وأمرَ بسؤالِهِ. صلِّ على محمدٍ وآلهِ. وأعِنّي على البَرْدِ وأهْوالِهِ. وأتِحْ لي حُرّاً يؤثِرُ منْ خَصاصَةٍ. ويؤاسي ولوْ بقُصاصَةٍ. قال الراوي: فلمّا جلّى عنِ النّفْسِ العِصاميّةِ. والمُلَحِ الأصمعيّةِ. جعلَتْ ملامِحُ عيني تَعجُمُهُ. ومَرامي لحْظي تَرجُمُه. حتى استَبَنْتُ أنهُ أبو زيدٍ. وأنّ تعرّيَهُ أُحبولَةُ صيدٍ. ولمحَ هوَ أنّ عِرْفاني قد أدْركَهُ. ولمْ يأمَنْ أنْ يهتِكَهُ. فقال: أُقسِمُ بالسَّمَرِ والقمَرِ. والزُّهْرِ والزَّهَرِ. إنهُ لنْ يستُرَني إلا مَنْ طابَ خِيمُهُ. وأُشرِبَ ماءَ المُروءةِ أديمُهُ. فعقَلْتُ ما عَناهُ. وإنْ لم يدْرِ القومُ معْناهُ. وساءني ما يُعانِيهِ منَ الرِّعدَةِ. واقشِعْرارِ الجِلْدَةِ. فعمَدْتُ لفَرْوةٍ هيَ بالنّهارِ رِياشي. وفي الليلِ فِراشي. فنضَوتُها عني. وقلتُ له: اقْبَلْها مني. فما كذّبَ أنِ افْتَراها. وعيني تَراها. ثم أنشدَ:
للهِ من ألبَـسَـنـي فَـروةً *** أضحتْ من الرِّعدَةِ لي جُنّهْ
ألبَسنِيها واقِياً مُـهـجَـتـي *** وُقّيَ شرَّ الإنْسِ والجِـنّـهْ
سيَكتَسي اليومَ ثَنـائي وفـي *** غدٍ سيُكسى سُندُسَ الجَنّـهْ
قال: فلمّا فتَن قُلوبَ الجَماعَةِ. بافتِنانِهِ في البَراعَةِ. ألقَوْا عليْهِ منَ الفِراء المُغشّاةِ. والجِبابِ المُوشّاةِ. ما آدَهُ ثقَلُهُ. ولم يكَدْ يُقلّهُ. فانطلقَ مُستَبشِراً بالفَرجِ. مُستَسقِياً للكَرَجِ. وتبعْتُهُ إلى حيثُ ارتفَعَتِ التّقيّةُ. وبدَتِ السّماءُ نقيّةً. فقلتُ له: لَشَدّ ما قرّسَكَ البرْدُ. فلا تتعرّ منْ بعْدُ! فقال: ويْكَ ليسَ منَ العدْلِ. سُرعةُ العذْلِ! فلا تعْجَلْ بلَوْمٍ هوَ ظُلْمٌ. ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلمٌ. فوَالّذي نوّرَ الشّيبَةَ. وطيّبَ تُربَةَ طَيْبَةَ. لو لمْ أتَعرّ لرُحْتُ بالخَيبَةِ. وصفَرِ العَيبَةِ. ثمّ نزَعَ إلى الفِرارِ. وتبرقَعَ بالاكْفِهْرارِ. وقال: أمَا تعْلَمُ أنّ شِنْشِنتيَ الانتِقالُ منْ صَيدٍ إلى صيْدٍ. والانعِطافُ منْ عمْرٍو إلى زيدٍ؟ وأراكَ قد عُقتَني وعقَقْتَني. وأفَتّني أضْعافَ ما أفدْتَني. فأعْفِني عافاكَ الله منْ لغوِكَ. واسْدُدْ دوني بابَ جِدّكَ ولهْوِكَ. فجبذتُهُ جبْذَ التِّلْعابَةِ. وجعْجَعْتُ به للدُعابَةِ. وقلتُ له: واللهِ لوْ لمْ أُوارِكَ. وأُغَطِّ على عَوارِكَ. لمَما وصلْتَ إلى صِلةٍ. ولا انقلَبْتَ أكْسى منْ بصَلَةٍ. فجازِني عنْ إحساني إليْكَ. وسَتري لكَ وعلَيْكَ. بإن تسمَحَ لي بردّ الفَروَةِ. أو تُعرّفَني كافاتِ الشّتوَةِ. فنظرَ إليّ نظَرَ المتعجّبِ. وازْمهَرّ ازمِهْرارَ المتغَضّبِ. ثمّ قال: أمّا رَدّ الفَروةِ فأبْعَدُ منْ ردّ أمسِ الدّابِرِ. والمَيْتِ الغابِرِ. وأما كافاتُ الشّتْوةِ فسُبحانَ مَنْ طبَع على ذِهنِكَ. وأوْهى وِعاءَ خَزْنِكَ. حتى أُنسيتَ ما أنشدْتُكَ بالدَّسْكَرةِ. لابنِ سُكّرَةَ:
جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِـه *** سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حبَسا
كِنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكاسُ طِـلاً *** بعْدَ الكَبابِ وكفٌ ناعمٌ وكِـسـا
ثم قال: لَجوابٌ يَشفي. خيرٌ من جِلبابٍ يُدْفي. فاكْتَفِ بما وعَيْتَ وانْكَفي. ففارَقْتُهُ وقدْ ذهبَتْ فَروَتي لشِقْوَتي. وحصلْتُ على الرِّعدَةِ طولَ شَتْوَتي.

شرح وتحليل المقامة القهقرية للحريري

حدّث الحارثُ بنُ همّام قال: لحظْتُ في بعضِ مطارِحِ البَينِ. ومطامِحِ العينِ. فِتيَةً عليهِمْ سِيما الحِجى. وطُلاوَةُ نُجومِ الدُجى. وهمْ في مُماراةٍ مشتَدّةِ الهُبوبِ. ومُباراةٍ مشتطّةِ الأُلْهوبِ. فهزّني لقَصْدِهمْ هوى المُحاضرَةِ. واستِحْلاءُ جنى المُناظرةِ. فلمّا التحقْتُ برهْطِهِمْ. وانتظمْتُ في سِمْطِهمْ. قالوا: أأنتَ ممّنْ يُبْلى في الهَيْجاء. ويُلْقي دَلْوَهُ في الدِّلاء؟ فقلت: بل أنا منْ نظّارَةِ الحرْبِ. لا منْ أبناء الطّعْنِ والضّرْبِ. فأضْرَبوا عن حِجاجي. وأفاضوا في التّحاجي. وكانَ في بحبوحةِ حلْقَتِهِمْ. وإكْليلِ رُفقَتِهِمْ. شيخٌ قد برَتْهُ الهُمومُ. ولوّحَتْهُ السَّمومُ. حتى عادَ أنْحلَ. منْ قلَمٍ وأقْحلَ منْ جلَمٍ. إلا أنهُ كان يُبدي العُجابَ. إذا أجابَ. ويُنْسي سحْبانَ. كلّما أبانَ. فأُعجِبْتُ بما أوتيَ من الإصابَةِ. والتّبريزِ على تلكَ العِصابةِ. وما زالَ يفضَحُ كلَّ مُعمًّى. ويُصْمي في كلّ مرْمًى. إلى أن خلَتِ الجِعابُ. ونفِدَ السّؤالُ والجوابُ. فلما رأى إنْفاضَ القوْمِ. واضْطِرارَهُمْ إلى الصّومِ. عرّضَ بالمُطارَحَةِ. واستأذنَ في المُفاتَحةِ. فقالوا له: حبّذا. ومنْ لنا بِذا؟ فقال: أتعرِفونَ رِسالةً أرْضُها سماؤها. وصُبحُها مساؤها؟ نُسِجَتْ على مِنوالَينِ. وتجلّتْ في لوْنَينِ. وصلّتْ إلى جِهَتَينِ. وبدتْ ذات وجهَينِ. إنْ بزغَتْ منْ مشرِقِها. فناهيكَ برَونَقِها. وإنْ طلعَتْ منْ مغرِبِها. فَيا لعَجَبِها! قال: فكأنّ القومَ رُموا بالصُّماتِ. أو حقّتْ عليهِمْ كلمةُ الإنْصاتِ. فما نبَسَ منهُمْ إنسانٌ. ولا فاهَ لأحدِهِمْ لِسانٌ. فحينَ رآهُم بُكْماً كالأنْعامِ. وصُموتاً كالأصْنامِ. قال لهُمْ: قدْ أجّلتُكُمْ أجَلَ العِدّةِ. وأرخَيت لكُمْ طِوَلَ المُدّةِ. ثم هاهُنا مجمَعُ الشّمْلِ. وموقِفُ الفصْلِ. فإنْ سمحَتْ خواطرُكُمْ مدَحْنا. وإنْ صلدَتْ زِنادُكُمْ قدَحْنا. فقالوا لهُ: واللهِ ما لَنا في لُجّةِ هذا البحرِ مسبَحٌ. ولا في ساحِلِهِ مسرَحٌ. فأرِحْ أفكارَنا منَ الكدّ. وهنّئِ العطيّةَ بالنّقْدِ. واتّخِذْنا إخواناً يثِبونَ إذا وثَبْتَ. ويُثيبونَ متى استَثَبْتَ. فأطْرَقَ ساعةً. ثمّ قال: سمْعاً لكُمْ وطاعةً! فاستَمْلوا مني. وانْقُلوا عني: الإنسانُ. صَنيعةُ الإحسانِ. وربُّ الجَميلِ. فِعْلُ النّدْبِ. وشيمَةُ الحُرّ. ذخيرَةُ الحمْدِ. وكسْبُ الشُكْرِ. استِثْمارُ السّعادةِ. وعُنوانُ الكرَمِ. تباشيرُ البِشْرِ. واستِعْمالُ المُداراةِ يوجِبُ المُصافاةَ. وعقْدُ المحبّةِ يقتَضي النُصْحَ. وصِدْقُ الحديثِ. حِليةُ اللّسانِ. وفصاحَةُ المنطِقِ. سحرُ الألْبابِ. وشرَكُ الهوى. آفَةُ النّفوسِ. وملَلُ الخلائقِ. شَينُ الخلائقِ. وسوءُ الطّمعِ. يُبايِنُ الورَعَ. والتِزامُ الحَزامَةِ. زِمامُ السّلامَةِ. وتطلُّبُ المثالِبِ. شرُّ المَعايِبِ. وتتبُّعُ العثَراتِ. يُدْحِضُ المودّاتِ. وخُلوصُ النيّةِ. خُلاصةُ العطيّةِ. وتهنئةُ النّوالِ. ثمَنُ السّؤالِ. وتكلُّفُ الكُلَفِ. يسهِّلُ الخَلَفَ. وتيقُّنُ المَعونَةِ. يُسَنّي المؤونَةَ. وفضْلُ الصّدْرِ. سعَةُ الصّدرِ. وزينَةُ الرُعاةِ. مقْتُ السُعاةِ. وجَزاءُ المدائِحِ. بثُّ المَنائِحِ. ومهْرُ الوسائِلِ. تشفيعُ المسائِلِ. ومجلَبَةُ الغَوايةِ. استِغْراقُ الغايةِ. وتجاوزُ الحدّ. يُكِلّ الحدَّ. وتعدّي الأدَبِ. يُحبِطُ القُرَبَ. وتناسي الحُقوقِ. يُنشِئُ العُقوقَ. وتحاشي الرِّيَبِ. يرفَعُ الرُتَبَ. وارتِفاعُ الأخطارِ. باقتِحامِ الأخطارِ. وتنوّهُ الأقْدارِ. بمؤاتاةِ الأقْدارِ. وشرَفُ الأعْمالِ. في تقْصيرِ الآمالِ. وإطالةُ الفِكرَةِ. تنقيحُ الحِكمَةِ. ورأسُ الرّئاسةِ. تهذُّبُ السّياسَةِ. ومع اللّجاجَةِ. تُلْغى الحاجةُ. وعندَ الأوْجالِ. تتفاضَلُ الرّجالُ. وبتفاضُلِ الهِمَمِ. تتفاوتُ القِيَمُ. وبتزيُّدِ السّفيرِ. يهِنُ التّدبيرُ. وبخلَلِ الأحوالِ. تتبيّنُ الأهْوالُ. وبموجَبِ الصّبرِ. ثمَرَةُ النّصْرِ. واستِحقاقُ الإحْمادِ. بحسَبِ الاجْتِهادِ. ووجوبُ المُلاحظَةِ. كِفاءُ المُحافظَةِ. وصفاءُ الموالي. بتعهُّدِ المَوالي. وتحلّي المُروءاتِ. بحِفْظِ الأماناتِ. واختِبارُ الإخْوانِ. بتخْفيفِ الأحْزانِ. ودفْعُ الأعْداء. بكفّ الأودّاء.
وامتِحانُ العُقَلاء. بمُقارَنَةِ الجُهَلاء. وتبصُّرُ العَواقِبِ. يؤمنُ المَعاطِبَ. واتّقاءُ الشُنْعَةِ. ينشُرُ السُمْعَةَ. وقُبْحُ الجَفاء. يُنافي الوَفاء. وجوهَرُ الأحْرارِ. عندَ الأسْرارِ. ثمّ قال: هذهِ مِئَتا لفظَةٍ. تحتوي على أدَبٍ وعِظَةٍ. فمَنْ ساقَها هذا المَساقَ. فلا مِراءَ ولا شِقاقَ. ومنْ رامَ عكْسَ قالَبِها. وأنْ يردّها على عقِبِها. فلْيَقُلْ: الأسْرارُ. عندَ الأحرارِ. وجوهرُ الوَفاء. ينافي الجَفاء. وقُبْحُ السُمعةِ. ينشُرُ الشُنعَةَ. ثمّ على هذا المسحَبِ فليَسْحَبْها. ولا يرْهَبْها. حتى تكونَ خاتِمَةُ فِقَرِها. وآخِرَةُ دُرَرِها: ورَبُّ الإحسانِ. صنيعَةُ الإنسانِ. قال الراوي: فلمّا صدَعَ برسالَتِه الفَريدةِ. وأُملوحَتِهِ المُفيدةِ. علِمْنا كيفَ يتفاضَلُ الإنْشاءُ. وأنّ الفضْلَ بيدِ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ. ثمّ اعْتَلَقَ كلٌ منّا بذَيلِه. وفلَذَ لهُ فِلذَةً من نيْلِهِ. فأبى قَبولَ فِلْذَتي. وقال: لستُ أرْزأُ تلامِذَتي. فقلتُ له: كُنْ أبا زيدٍ على شُحوبِ سَحنتِكَ. ونُضوبِ ماء وجْنتِكَ. فقال: أنا هوَ على نُحولي وقُحولي. وقشَفِ مُحولي. فأخذْتُ في تثريبِه. على تشْريقِه وتغريبِه. فحوْلَقَ واسترْجَعَ. ثمّ أنشدَ منْ قلْبٍ موجَعٍ:
سَلَّ الزّمانُ عليّ عضْبَـهْ *** ليَروعَني وأحَدَّ غَـرْبَـهْ
واستَلّ منْ جَفْنـي كَـرا *** هُ مُراغِماً وأسالَ غَربَـهْ
وأجالَني فـي الأفْـقِ أطْ *** وي شرْقَهُ وأجوبُ غرْبَهْ
فبِـكُـلّ جـوٍّ طـلْـعَةٌ *** في كلّ يومٍ لي وغَرْبَـهْ
وكذا المُغرِّبُ شخـصُـهُ *** متغرّبٌ ونواهُ غـرْبَـهْ
ثمّ ولّى يجُرّ عِطفَيْهِ. ويخطِرُ بيَدَيْهِ. ونحنُ بين متلفّتٍ إليهِ. ومتهافِتٍ عليهِ. ثمّ لمْ نلبَثْ أن حللْنا الحِبى. وتفرّقنا أياديَ سَبا.

شرح وتحليل المقامة القطيعية للحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: عاشَرتُ بقطيعَةِ الرّبيعِ. في إبّانِ الرّبيعِ. فِتيةً وجوهُهُمْ أبلَجُ من أنوارِهِ. وأخلاقُهُمْ أبهَجُ من أزهارِهِ. وألفاظُهُمْ أرقُّ من نسيمِ أسحارِهِ. فاجتَلَيتُ منهُمْ ما يُزْري على الرّبيعِ الزّاهِرِ. ويُغْني عن رنّاتِ المَزاهِرِ. وكنّا تقاسَمْنا على حِفْظِ الوِدادِ. وحَظْرِ الاستِبْدادِ. وأن لا يتفرّدَ أحدُنا بالتِذاذٍ. ولا يستأثِرَ ولو برَذاذٍ. فأجْمَعْنا في يومٍ سَما دَجْنُهُ. ونَما حُسنُه. وحكَمَ بالاصْطِباحِ مُزْنُهُ. على أنْ نلتَهي بالخُروجِ. إلى بعضِ المُروجِ. لنُسرِّحَ النّواظِرَ. في الرّياضِ النّواضِرِ. ونصْقُلَ الخواطِرَ. بشَيْمِ المَواطِرِ. فبرَزْنا ونحنُ كالشّهورِ عِدّةً. وكنَدْمانَيْ جَذيمَةَ مودّةً. إلى حَديقَةٍ أخذَتْ زُخرُفَها وازّيّنَتْ. وتنوّعتْ أزاهيرُها وتلوّنَتْ. ومعَنا الكُمَيتُ الشَّموسُ. والسُقاةُ الشُّموسُ. والشّادي الذي يُطرِبُ السّامِعَ ويُلهِيهِ. ويَقْري كلَّ سمْعٍ ما يشتَهيهِ. فلمّا اطمأنّ بِنا الجُلوسُ. ودارَتْ عليْنا الكؤوسُ. وغَلَ علَيْنا ذِمْرٌ. عليهِ طِمْرٌ. فتجَهّمْناهُ تجهُّمَ الغيدِ الشِّيبَ. ووجَدْنا صفْوَ يومِنا قد شِيبَ. إلا أنهُ سلّمَ تسليمَ أولي الفَهْمِ. وجلسَ يَفُضّ لَطائِمَ النّثْر والنّظْمِ. ونحنُ ننْزَوي منِ انبِساطِهِ. وننْبَريْ لطَيِّ بِساطِهِ. إلى أنْ غنّى شادِينا المُغْرِبُ. ومُغرِّدُنا المُطْرِبُ:
إلامَ سُعادُ لا تَصلِينَ حَـبْـلـي *** ولا تأوينَ لي مـمّـا أُلاقـي
صبَرْتُ عليكِ حتى عيلَ صبْري *** وكادَتْ تبلُغُ الرّوحُ التّـراقـي
وها أنا قدْ عزَمْتُ على انتِصافٍ *** أُساقي فيهِ خِلّي ما يُسـاقـي
فإنْ وَصْلاً ألذُّ بـهِ فـوَصْـلٌ *** وإنْ صَرْماً فصرْمٌ كالطّـلاقِ
قال: فاسَفْهَمْنا العابثَ بالمَثاني. لِمَ نصَبَ الوصْلَ الأوّلَ ورفَعَ الثّاني؟ فأقْسَمَ بتُربَةِ أبَوَيْه. لقدْ نطَقَ بما اختارَهُ سيبوَيه. فتشَعّبَتْ حينئذٍ آراءُ الجمْع. في تجويزِ النّصبِ والرّفعِ. فقالتْ فِرقَةٌ: رفْعُهُما هوَ الصّوابُ. وقالتْ طائِفةٌ: لا يجوزُ فيهِما إلا الانتِصابُ. واستَبْهَمَ على آخرينَ الجوابُ. واستعَرَ بينَهُمُ الاصطِخابُ. وذلِكَ الواغِلُ يُبْدي ابتِسامَ ذي معرِفةٍ. وإنْ لمْ يفُهْ ببِنْتِ شفَةٍ. حتى إذا سكنَتِ الزّماجِرُ. وصمتَ المزْجورُ والزّاجِرُ. قال: يا قومُ أنا أُنَبّئُكُمْ بتأويلِهِ. وأميّزُ صَحيحَ القوْلِ منْ عَليلِهِ. إنهُ لَيَجوزُ رفْعُ الوصْلَينِ ونصْبُهُما. والمُغايَرَةُ في الإعرابِ بينَهُما. وذلِكَ بحسَبِ اختِلافِ الإضْمارِ. وتقْديرِ المحْذوفِ في هَذا المِضْمارِ. قال: ففَرَطَ منَ الجَماعةِ إفْراطٌ في مُماراتِهِ. وانخِراطٌ إلى مُباراتِهِ. فقال: أما إذا دعوْتُمْ نَزالِ. وتلبّبْتُمْ للنّضالِ. فما كلِمَةٌ هيَ إنْ شِئْتُمْ حرْفٌ محْبوبٌ. أوِ اسمٌ لِما فيهِ حرْفٌ حَلوبٌ؟ وأي اسمٍ يترَدّدُ بينَ فرْدٍ حازِمٍ. وجمْعٍ مُلازِمٍ؟ وأيّةُ هاءٍ إذا التحقَتْ أماطَتِ الثِّقَلَ. وأطلَقَتِ المُعتقَلَ؟ وأينَ تدخُلُ السينُ فتعزِلُ العامِلَ. منْ غيرِ أن تُجامِلَ؟ وما منْصوبٌ أبَداً على الظّرْفِ. لا يخْفِضُهُ سوى حرْفٌ؟ وأيّ مُضافٍ أخَلّ منْ عُرَى الإضافَةِ بعُرْوَةٍ. واختلَفَ حُكمُهُ بينَ مساءٍ وغُدوَةٍ؟ وما العامِلُ الذي يتّصلُ آخِرُهُ بأوّلِهِ. ويعمَلُ معكوسُهُ مثلَ عمَلِه؟ وأيّ عمَلٍ نائِبُهُ أرْحَبُ منهُ وَكْراً. وأعظَمُ مَكْراً. وأكثَرُ للهِ تَعالى ذِكْراً؟ وفي أيّ موطِنٍ تلبَسُ الذُّكْرانُ. براقِعَ النّسوانِ. وتبرُزُ ربّاتُ الحِجالِ. بعَمائِمِ الرّجالِ؟ وأينَ يجِبُ حِفظُ المَراتِبِ. على المضْروبِ والضّارِبِ؟ وما اسمٌ لا يُعرَفُ إلا باستِضافَةِ كلِمتَينِ. أوِ الاقتِصارِ منه على حرْفَينِ. وفي وَضْعِهِ الأوّلِ التِزامٌ. وفي الثّاني إلْزامٌ؟ وما وصْفٌ إذا أُردِفَ بالنّونِ. نقَصَ صاحِبُهُ في العُيونِ. وقُوّمَ بالدّونِ. وخرَجَ منَ الزَّبونِ. وتعرّضَ للهُونِ؟ فهَذِهِ ثِنْتا عشْرَةَ مسألةً وفْقَ عدَدِكُمْ. وزِنَةَ لَدَدِكُمْ. ولو زِدْتُمْ زِدْنا. وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا. قال المُخبرُ بهذِهِ الحِكايةِ: فورَدَ عليْنا من أحاجِيهِ اللاّتي هالَتْ. لمّا انْهالَتْ. ما حارَتْ لهُ الأفكارُ وحالَتْ. فلمّا أعجزَنا العَوْمُ في بحرِهِ. واستسْلَمَتْ تَمائِمُنا لسِحْرِهِ. عدَلْنا منِ استِثْقالِ الرّؤيَةِ لهُ إلى استِنْزالِ الرّوايَةِ عنهُ. ومِنْ بَغْيِ التّبرّمِ بهِ إلى ابتِغاء التعلّمِ منهُ. فقال: والذي نزّلَ النّحْوَ في الكَلامِ. منزِلَةَ المِلْحِ في الطّعامِ. وحجَبَهُ عن بصائِرِ الطّغامِ. لا أنَلْتُكُمْ مَراماً. ولا شفيْتُ لكُمْ غَراماً. أو تُخوّلَني كلُّ يدٍ. ويخْتَصّني كلٌ منكُم بيَدٍ. فلمْ يبْقَ في الجماعةِ إلا منْ أذْعَنَ لحُكمِهِ. ونبَذَ إلَيْهِ خُبْأةَ كُمّهِ. فلمّا حصلَتْ تحتَ وِكائِهِ. أضرَمَ شُعلَةَ ذكائِهِ. فكشَفَ حينئذٍ عن أسْرارِ ألْغازِهِ. وبدائِعِ إعْجازِهِ. ما جَلا بهِ صدأ الأذْهانِ. وجلّى مطْلَعَهُ بنورِ البُرْهانِ. قال الرّاوي: فهِمْنا. حينَ فهِمْنا. وعجِبْنا. إذْ أُجِبْنا. وندِمْنا. على ما ندّ مِنّا. وأخذْنا نعتَذِرُ إليهِ اعتِذارَ الأكْياسِ. ونعْرِضُ عليهِ ارتِضاعَ الكاسِ. فقالَ: مأرَبٌ لا حَفاوةٌ. ومشْرَبٌ لمْ يبْقَ لهُ عندي حَلاوَةٌ. فأطَلْنا مُراودَتَهُ. ووالَيْنا مُعاوَدَتَهُ. فشمخَ بأنفِهِ صَلَفاً. ونأى بجانِبِه أنَفاً. وأنشدَ:
نَهاني الشيْبُ عمّا فـيهِ أفْـراحـي *** فكيفَ أجمَعُ بين الـرّاحِ والـرّاحِ
وهل يجوزُ اصطِباحي من مُعتّـقةٍ *** وقد أنارَ مشيبُ الرّأسِ إصْباحـي
آلَيتُ لا خامرَتني الخمرُ ما علِقَـتْ *** روحي بجِسْمي وألفاظي بإفْصاحي
ولا اكتسَتْ لي بكاساتِ السُلافِ يدٌ *** ولا أجَلتُ قِداحـي بـين أقْـداحِ
ولا صرَفْتُ إلى صِرْفٍ مُشَعشَـعةٍ *** همّي ولا رُحتُ مُرْتاحاً إلى راحِ
ولا نظَمْتُ علـى مـشـمـولَةٍ أبـداً *** شملي ولا اخترْتُ نَدماناً سوى الصّاحي
مَحا المشيبُ مِراحي حينَ خطّ عـلـى *** رأسي فأبغِضْ به من كـاتِـبٍ مـاحِ
ولاحَ يلْحَى على جرّي العِـنـانَ إلى *** ملْهًى فسُـحْـقـاً لـهُ مـن لائِحٍ لاحِ
ولوْ لهَوْتُ وفَـوْدِي شـائِبٌ لـخَـبـا *** بينَ المصابيحِ من غسّانَ مِصْبـاحـي
قومٌ سَجاياهُـمُ تـوْقـيرُ ضَـيْفِـهِـمِ *** والشّيبُ ضيفٌ له التّوْقـيرُ يا صـاحِ
ثمّ إنّه انْسابَ انسيابَ الأيْمِ. وأجْفلَ إجْفالَ الغيْمِ. فعلِمْتُ أنهُ سِراجُ سَروجَ. وبدْرُ الأدبِ الذي يجْتابُ البُروجَ. وكان قُصارانا التّحرُّقَ لبُعدِهِ. والتّفرُّقَ منْ بعدِهِ.

شرح وتحليل المقامة الفراتية للحريري

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: أوَيْتُ في بعضِ الفتَراتِ. إلى سقْيِ الفُراتِ. فلَقيتُ بها كُتّاباً أبْرَعَ منْ بَني الفُراتِ. وأعْذَبَ أخْلاقاً منَ الماء الفُراتِ. فأطَفْتُ بهِمْ لتهَذُّبِهِمْ. ولا لذَهَبِهِمْ. وكاثَرْتُهُمْ لأدَبِهِم. لا لمآدِبِهمْ. فجالَسْتُ منهُمْ أضْرابَ قَعْقاعِ بنِ شَوْرٍ. ووصلتْ بهِمْ إلى الكَوْرِ. بعدَ الحَوْرِ. حتى إنّهُمْ أشرَكوني في المرْتَعِ والمرْبَعِ. وأحَلّوني محَلّ الأنْمُلَةِ منَ الإصْبَعِ. واتّخذوني ابنَ أُنسِهِمْ عندَ الوِلايَةِ والعَزْلِ. وخازِنَ سِرّهِمْ في الجِدّ والهزْلِ. فاتّفَقَ أنْ نُدِبوا في بعْضِ الأوْقاتِ. لاستِقْراء مَزارِعِ الرُزْداقاتِ. فاخْتاروا منَ الجَواري المُنْشآتِ. جاريةً حالِكَةَ الشِّياتِ. تَحْسَبُها جامِدةً وهي تمُرّ مرّ السّحابِ. وتنْسابُ في الحَبابِ كالحُبابِ. ثمّ دعَوْني إلى المُرافَقَةِ. فلبّيتُ بلِسانِ المُوافَقَةِ. فلمّا تورّكْنا على المَطيّةِ الدّهْماء. وتبَطّنّا الوَلِيّةَ الماشيةَ على الماء. ألفَيْنا بها شيخاً علَيْهِ سحْقُ سِرْبالٍ. وسِبٌّ بالٍ. فعافَتِ الجَماعَةُ مَحْضَرَهُ. وعنّفَتْ منْ أحضَرَهُ. وهمّتْ بإبْرازِهِ منَ السّفينةِ. لولا ما ثابَ إلَيْها منَ السّكينَةِ. فلمّا لمحَ منّا استِثْقالَ ظِلّهِ. واستِبْرادَ طَلّهِ. تعرّضَ للمُنافثَةِ. فصُمّتَ. وحمْدَلَ بعدَ أنْ عطَسَ فما شُمّتَ. فأخْرَدَ ينظُرُ فيما آلَتْ حالُهُ إليْهِ. وينتظِرُ نُصرَةَ المَبْغيّ علَيْهِ. وجُلْنا نحْنُ في شُجونٍ. منْ جِدٍّ ومُجونٍ. إلى أنِ اعتَرَضَ ذِكْرُ الكِتابَتَينِ وفضْلِهِما. وتَبْيانِ أفضَلِهِما. فقالَ قائِلٌ: إنّ كتَبَةَ الإنْشاء أنْبَلُ الكُتّابِ. ومالَ مائِلٌ إلى تفْصيلِ الحُسّابِ. واحتدّ الحِجاجُ. وامتدّ اللَّجاجُ. حتى إذا لمْ يبْقَ للجِدالِ مَطرَحٌ. ولا للمِراء مسرَحٌ. قال الشيخُ: لقدْ أكثرْتُمْ يا قوْمُ اللّغَطَ. وأثَرْتُمُ الصّوابَ والغلَطَ. وإنّ جَليّةَ الحُكمِ عِندي. فارتَضوا بنقْدي. ولا تستَفْتوا أحداً بعْدِي. اعْلَموا أنّ صِناعَةَ الإنْشاء أرْفَعُ. وصِناعَةَ الحِسابِ أنفَعُ. وقلَمَ المُكاتَبَةِ خاطِبٌ. وقلَمَ المُحاسَبَةِ حاطِبٌ. وأساطيرَ البَلاغَةِ تُنسَخُ لتُدْرَسَ. ودساتيرَ الحُسْباناتِ تُنسَخُ وتُدرَسُ. والمُنشِئُ جُهَينَةُ الأخْبارِ. وحقيبةُ الأسْرارِ. ونَجيُّ العُظماء. وكَبيرُ النُّدَماء. وقلَمُهُ لِسانُ الدولَةِ. وفارِسُ الجولَةِ. ولُقْمانُ الحِكمَةِ. وتَرْجُمانُ الهِمّةِ. وهوَ البَشيرُ والنّذيرُ. والشّفيعُ والسّفيرُ. بهِ تُستَخْلَصُ الصّياصي. وتُملَكُ النّواصي. ويُقتادُ العاصي. ويُستَدْنى القاصي. وصاحِبُهُ بريءٌ من التّبِعاتِ. آمِنٌ كيْدَ السُعاةِ. مقرَّظٌ بينَ الجماعاتِ. غيرُ معرَّضٍ لنَظْمِ الجِماعاتِ. فلمّا انتهى في الفصْلِ. إلى هذا الفصْلِ. لحَظَ منْ لمَحاتِ القوْمِ أنهُ ازْدَرَعَ حُبّاً وبُغْضاً. وأرْضى بعْضاً وأحفَظَ بعْضاً. فعقّبَ كلامَهُ بأنْ قال: إلا أنّ صِناعَة الحِسابِ موضوعةٌ على التّحقيقِ. وصَناعَةَ الإنشاءِ مبنيّةٌ على التّلْفيقِ. وقلَمَ الحاسِبِ ضابِطٌ. وقلمَ المُنشِئ خابِطٌ. وبينَ إتاوَةِ توظيفِ المُعامَلاتِ. وتِلاوَةِ طَواميرِ السّجِلاّتِ. بوْنٌ لا يُدرِكُهُ قِياسٌ. ولا يعْتَورُهُ التِباسٌ. إذِ الإتاوَةُ تمْلأ الأكْياسَ. والتّلاوَةُ تفَرِّغُ الرّاسَ. وخَراجُ الأوارِجِ يُغْني النّاظِرَ. واستِخْراجُ المَدارِجِ يُعَنّي الناظِرَ. ثمّ إنّ الحسَبَةَ حفَظَةُ الأموالِ. وحمَلَةُ الأثْقالِ. والنّقَلَةُ الأثْباتُ. والسّفَرَةُ الثّقاتُ. وأعْلامُ الإنْصافِ. والانتِصافِ. والشّهودُ المَقانِعُ في الاختِلافِ. ومنهُمُ المُستَوْفي الذي هوَ يدُ السّلطانِ. وقُطْبُ الدّيوانِ. وقِسْطاسُ الأعملِ. والُهَيمِنُ على العُمّالِ. وإليْهِ المآبُ في السّلْمِ والهرْجِ. وعلَيْهِ المَدارُ في الدّخْلِ والخرَجِ. وبهِ مَناطُ الضّرّ والنّفْعِ. وفي يدِهِ رِباطُ الإعْطاء والمنْعِ. ولوْلا قلَمُ الحُسّابِ. لأوْدَتْ ثمرَةُ الاكتِسابِ. ولاتّصَلَ التّغابُنُ إلى يومِ الحِسابِ. ولَكانَ نِظامُ المُعامَلاتِ مَحْلولاً. وجُرْحُ الظُلاماتِ مطْلولاً. وجيدُ التّناصُفِ مغْلولاً. وسيْفُ التّظالُمِ مسْلولاً. على أنّ يَراعَ الإنْشاء متَقوِّلٌ. ويَراعُ الحِسابِ متأوِّلٌ. والمُحاسِبُ مناقِشٌ. والمُنشِئُ أبو بَراقِشَ. ولكِلَيْهِما حُمَةٌ حينَ يرْقَى. إلى أنْ يُلْقى ويُرْقى. وإعْناتٌ فيما يُنْشا. حتى يُغْشى. ويُرْشى. إلا الذينَ آمَنوا وعمِلوا الصّالِحاتِ وقَليلٌ ما هُمْ. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فلمّا أمْتَعَ الأسْماعَ. بما راقَ وراعَ. استَنْسَبْناهُ فاسْتَرابَ. وأبَى الانتِسابَ. ولوْ وجَدَ مُنْساباً لانْسابَ. فحصَلْتُ منْ لبْسِهِ على غُمّةٍ. حتى ادّكَرْتُ بعْدَ أمّةٍ. فقُلْتُ: والذي سخّرَ الفلَكَ الدّوّارَ. والفُلْكَ السّيّارَ. إني لأجِدُ ريحَ أبي زيدٍ. وإنْ كنتُ أعهدُهُ ذا رَواءٍ وأيْدٍ. فتبسّمَ ضاحِكاً من قوْلي. وقال: أنا هوَ على استِحالَةِ حالي وحوْلي. فقلتُ لأصحابي: هذا الذي لا يُفْرى فرِيُّهُ. ولا يُبارَى عبقَريُّهُ. فخطَبوا منْهُ الوُدّ. وبذَلوا لهُ الوُجْدَ. فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ. ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ. وقال: أما بعْدَ أنْ سحَقْتُمْ حقّي. لأجلِ سَحْقي. وكسفْتُمْ بالي. لإخْلاقِ سِرْبالي. فما أراكُمْ إلا بالعينِ السّخينَةِ. ولا لكُمْ مني إلا صُحْبَةُ السّفينةِ. ثمّ أنشدَ:
اسمَعْ أُخَيّ وصيّةً منْ نـاصِـحٍ *** ما شابَ محْضَ النُصْح منه بغِشّهِ
لا تَعجَلَنْ بقـضـيّةٍ مـبْـتـوتَةٍ *** في مدْحِ منْ لمْ تبلُهُ أو خـدشِـهِ
وقِفِ القضيّةَ فيهِ حتى تجْتَـلـي *** وصْفَيْهِ في حالَيْ رِضاهُ وبطْشِهِ
ويَبينَ خُلّبُ برْقِهِ مـنْ صِـدْقِـهِ *** للشّائِمينَ ووبْلُـهُ مـنْ طَـشّـهِ
فهُناكَ إنْ ترَ مـا يَشـينُ فـوارِهِ *** كرَماً وإنْ ترَ ما يَزينُ فأفْـشِـهِ
ومنِ استَحَقّ الإرْتِقـاءَ فـرقّـهِ *** ومنِ استحطّ فحُطّهُ في حـشّـهِ
واعلَمْ بأنّ التّبرَ في عِرْقِ الثّـرى *** خافٍ إلى أنْ يُستَثارَ بنَـبْـشِـهِ
وفَضيلةُ الدّينارِ يظهَـرُ سِـرُّهـا *** منْ حَكّهِ لا مِنْ مَلاحَةِ نقْـشِـهِ
ومنَ الغَباوةِ أن تعظّـمَ جـاهِـلاً *** لصِقالِ ملبَسِهِ ورونَقِ رَقْـشِـهِ
أو أن تُهينَ مهذّباً في نـفـسِـهِ *** لدُروسِ بِزّتِـهِ ورثّةِ فُـرْشِـهِ
ولَكَمْ أخي طِمْرَينِ هِيبَ لفضْلـه *** ومفَوّفِ البُرْدَينِ عيبَ لفُحْـشِـهِ
وإذا الفتى لمْ يغْشَ عاراً لم تكـنْ *** أسْمالُهُ إلاّ مَـراقـي عـرْشِـهِ
ما إنْ يضُرُّ العَضْبُ كوْنُ قِرابِـهِ *** خلَقاً ولا البازِي حَقارَةُ عُـشّـهِ
ثمّ ما عتّمَ أنِ استوْقَفَ الملاّحَ. وصعِدَ منَ السّفينةِ وساحَ. فندِمَ كلٌ منّا على ما فرّطَ في ذاتِه. وأغْضى جفْنَه على قَذاتِهِ. وتعاهَدْنا على أنْ لا نحتَقِرَ شخْصاً لرَثاثَةِ بُرْدِهِ. وأنْ لا نزْدَريَ سيْفاً مخْبوءاً في غِمدِهِ.

شرح وتحليل المقامة الفارقية للحريري

حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: يمّمْتُ ميّافَارِقينَ. معَ رُفقةٍ مُوافِقينَ. لا يُمارونَ في المُناجاةِ. ولا يدْرونَ ما طعْمُ المُداجاةِ. فكُنتُ بهِمْ كمَنْ لمْ يرِمْ عنْ وَجارِهِ. ولا ظعَنَ عنْ أليفِهِ وجارِهِ. فلمّا أنخْنا بها مطايا التّسْيارِ. وانتقلْنا عنِ الأكوارِ. إلى الأوْكارِ. تواصَيْنا بتَذْكارِ الصُحْبَةِ. وتناهَيْنا عنِ التّقاطُعِ في الغُربَةِ. واتّخذْنا نادِياً نعتَمِرُهُ طرَفَي النهارِ. ونتَهادَى فيهِ طُرَفَ الأخْبارِ. فبَينَما نحنُ بهِ في بعضِ الأيامِ. وقد انتظَمْنا في سِلكِ الالتِئامِ. وقفَ علَيْنا ذو مِقْوَلٍ جريّ. وجرْسٍ جهْوَريّ. فحَيّا تحيّةَ نفّاثٍ في العُقَدِ. قنّاصٍ للأسَدِ. والنّقَدِ. ثمّ قال:
عِنديَ يا قومُ حـديثٌ عَـجـيبْ *** فيهِ اعْتِبـارٌ لـلّـبـيبِ الأريبْ
رأيتُ في رَيْعانِ عُمْـري أخـا *** بأسٍ لهُ حدُّ الحُسامِ القَـضـيبْ
يُقْدِمُ في المَـعْـرَكِ إقْـدامَ مـنْ *** يوقِنُ بالفَـتْـكِ ولا يسْـتَـريبْ
فيُفْـرِجُ الـضّـيقَ بـكَـرّاتِـه *** حتى يُرى ما كان ضَنْكاً رَحيبْ
ما بارَزَ الأقْـرانَ إلا انْـثَـنـى *** عنْ موقِفِ الطّعْنِ برُمحٍ خضيبْ
ولا سَما يفتَحُ مُسـتَـصْـعِـبـاً *** مُستَغْلِقَ البابِ مَنيعـاً مَـهـيبْ
إلا ونـودِي حـينَ يسْـمـو لـهُ *** نصْرٌ منَ اللهِ وفـتْـحٌ قَـريبْ
هذا وكـمْ مـن لـيلَةٍ بـاتَـهـا *** يَميسُ في بُرْدِ الشّبابِ القَشـيبْ
يرتَشِفُ الـغِـيدَ ويرشُـفْـنَـهُ *** وهْوَ لدى الكُلّ المُفَدّى الحبـيبْ
فلـم يزَلْ يبـتَــزّهُ دهـــرُهُ *** ما فيهِ منْ بطْشٍ وعودٍ صَلـيبْ
حتى أصارَتْهُ اللّـيالـي لَـقًـى *** يَعافُهُ منْ كـان مـنـهُ قَـريبْ
قد أعجزَ الرّاقيَ تـحْـلـيلُ مـا *** بهِ منَ الدّاء وأعْيا الـطّـبـيبْ
وصارَمَ البـيضَ وصـارَمْـنَـهُ *** من بعدِ ما كانَ المُجابَ المُجيبْ
وآضَ كالمنْكوسِ في خَـلْـقِـهِ *** ومَنْ يَعِشْ يَلقَ دواهي المَشـيبْ
وها هُوَ اليومَ مُسَـجّـى فـمَـنْ *** يرْغَبُ في تكْفينِ ميْتٍ غَـريبْ
ثمّ إنهُ أعلنَ بالنّحيبِ. وبكى بُكاءَ المُحبّ على الحَبيبِ. ولما رقأتْ دمعَتُهُ. وانْفثأتْ لوْعَتُهُ. قال: يا نُجعَةَ الرّوادِ. وقُدوَةَ الأجْوادِ. واللهِ ما نطَقْتُ ببُهْتانٍ. ولا أخبَرْتُكُمْ إلا عنْ عِيانٍ. ولوْ كان في عَصايَ سيْرٌ. ولغَيمي مُطَيْرٌ. لاستأثرْتُ بما دعَوْتُكُمْ إليْهِ. ولما وقْفتُ موقِفَ الدّالّ علَيْهِ. ولكنْ كيفَ الطّيرانُ بلا جَناحٍ. وهلْ على منْ لا يجِدُ منْ جُناحٍ؟ قال الرّاوي: فطفِقَ القومُ يأتَمِرونَ. في ما يأمُرونَ. ويتخافَتونَ. في ما يأتُونَ. فتوهّمَ أنهُم يتمالَؤون على صَرْفِهِ بحِرْمانٍ. أو مُطالَبَتِه ببُرْهانٍ. ففرطَ منهُ أنْ قال: يا يلامِعَ القاعِ. ويَرامِعَ البِقاعِ. ما هذا الارْتِياء. الذي يأباهُ الحَياء؟ حتى كأنّكُمْ كُلّفْتُمْ مشَقّةً. لا شُقّةً. أوِ استُوهِبتُمْ بلدَةً. لا بُرْدَةً. أو هُزِزْتُمْ لكِسوَةِ البيْتِ. لا لتَكْفينِ الميْتِ؟ أُفٍّ لمَنْ لا تَنْدى صَفاتُهُ. ولا ترْشَحُ حَصاتُهُ! فلمّا بصُرَتِ الجَماعَةُ بذِلاقَتِهِ. ومرارَةِ مَذاقَتِهِ. رفأهُ كُلٌ منْهُمْ بنَيْلِهِ. واحتَمَلَ طلَّهُ خوْفَ سيْلِهِ. قال الحارثُ بنُ همّام: وكان هذا السّائلُ واقِفاً خلْفي. ومُحتَجِباً بظهْري عنْ طرْفي. فلمّا أرْضاهُ القومُ بسَيْبِهِمْ. وحقّ عليّ التّأسّي بهِمْ. خلَجْتُ خاتَمي من خِنصِري. ولفتّ إليهِ بصَري. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيُّ بِلا فِريَةٍ. ولا مِرْيَةٍ. فأيقَنْتُ أنّها أُكذوبَةٌ تكذَّبَها. وأُحبولَةٌ نصبَها. إلا أنّني طويْتُهُ على غَرّهِ. وصُنْتُ شَغاهُ عنْ فرّهِ. فحَصَبْتُهُ بالخاتَمِ. وقلتُ: أرصِدْهُ لنفَقَةِ المأتَمِ. فقال: واهاً لكَ. فما أضْرَمَ شُعْلَتَك. وأكْرَمَ فَعْلتَكَ! ثمّ انطلَقَ يسْعى قُدْماً. ويهرْوِلُ هرْولَتهُ قِدْماً. فنزَعْتُ إلى عِرْفانِ ميّتِه. وامتِحانِ دعْوى حميّتِهِ. فقرَعْتُ ظُنْبوبي. وألْهبْتُ أُلْهوبي. حتى أدركْتُه على غَلوَةٍ. واجتَلَيْتُهُ في خَلوَةٍ. فأخَذْتُ بجُمْعِ أرْدانِه. وعُقْتُهُ عن سُنَنِ ميْدانِهِ. وقلتُ لهُ: واللهِ ما لك منّي ملْجأٌ ولا منْجًى. أو تُريني ميّتَكَ المُسَجّى! فكشفَ عنْ سراويلِه. وأشار إلى غُرْمولِهِ. فقلتُ لهُ: قاتلَكَ اللهُ فما ألْعبَكَ بالنُهى. وأحيَلَكَ على اللُّهَى! ثمّ عُدْتُ إلى أصحابي عوْدَ الرّائِدِ الذي لا يكذِبُ أهلَهُ. ولا يُبَرقِشُ قولَهُ. فأخبَرْتُهُمْ بالذي رأيتُ. وما ورّيتُ ولا رأيتُ. فقَهْقهوا منْ كَيْتَ وكَيْتَ. ولعَنوا ذلِكَ المَيْتَ.