شرح المقامة الدينارية.. ارتجال الأبيات الشعرية في مدح وذم الدينار



شرح المقامة الدينارية:
قال الحارث بن همام: كنت في مجلس مع أصحاب لي كرماء لا يرفضون طلب من قصدهم طالبا مساعدة منهم وهم لحسن أدبهم ومناظراتهم ليس بينهم خلاف وهم علماء يعرفون ما يحدثون.

وبينما كنا نتناشد الأشعار ونتذكر الأخبار المسندة عن أهلنا طلع علينا شخص يرتدي ثيابا ممزقة ويبدو من مشيته أنه أعرج (قزل) فحيَّانا بقوله: يا أخيار الناس وأغلاهم إلى القلب، يا من تدخلون السرور إلى قلوب من لقيكم فيستبشر برؤيتكم لعلمه أنكم كرماء، عـِمُوا صباحًا وليهنأ لكم الشرب فيه.

انظروا إلى حال هذا الرجل الواقف أمامكم، لقد كان ميسور الحال، صاحب مجلس كريم، جوادا معطاءا مالكا للأراضي والدور، لم يتخلف عن إطعام المساكين، ولكن حاله قد تبدلت وانقلبت رأسا على عقب، فعبثت الشدائد في وجهه وقاتلته الهموم وأصابته عيون الحاسدين، فنزلت به المصائب وأصبح صفر اليدين وخلت داره من الأملاك وجف نبع رزقه فتفرق الناس من حوله وأصبح مبيته خشنا غير مريح.

فساءت الأحوال وبكى أهل بيتي وخلت ساحة خيلي من أرزاقها وصرت أطلب الرحمة والشفقة.

هلكت مواشيَّ ونفذت وقودي فتأثر لحالي الحاسد والشامت، وأرجعني الدهر للوراء، وإني أنام أنا وعيالي على التراب ونمشي حفاة، تألمت أقدامنا، وأصبحنا نأكل ما لا يؤكل، فسدت بطوننا وتعبت أمعاؤنا وكحَّل الأرق عيوننا، لم نذق للنوم طعما.

نسكن في المنخفضات لنختبئ من عيون الضيوف لأننا لا نملك إطعامهم، نتنقل مشيا، فدسنا الأشواك ونسينا ركوب الخيول فرأينا الموتَ خيرا من الحياة، وشعرنا أن الموت بطيء القدوم نحونا (تمنينا الموت من شدة ما قاسينا).

أيها الناس هل بينكم حر يداوي فقرنا وجوعنا وكريم يعين على الشدة؟
وأقسم بالله الذي قدَّر لي أن أكون من نسل قـَـيلـَـة (غساني) لقد أضحيتُ في غاية الفقر لا أملك طعام ليلة واحدة.

قال الحارث بن همام الذي يروي هذه المقامة: أثرت بي كلمات هذا الرجل وأشفقت عليه وقررت أن أستخرج منه كلاما أدبيا حسنا، وحاولت اختبار قدرته الأدبية فأبرزت دينارا، وقلت له: إذا استطعت مدح هذا الدينار شِعرًا فهو لك فوقف الرجل وأنشد مرتجلاً يقول أبياتا من الشعر مديحا في حق هذا الدينار.

بعد ارتجال الأبيات الشعرية في مدح الدينار:
مدَّ الرجل يده لـ الحارث بن همام وقال له أن يفي بـ وعده أي أن يعطيه الدينار بعدما ارتجل أبياتا من الشعر في مدح هذا الدينار.!

فـأعطاه الحارثُ الدينارَ، فـ شكره الرجل ومدحه، فـخطرت ببال الحارث فكرة هي أن يخرج دينارا آخر، وقال للرجل إن ذممت هذا الدينار شِعراً فهو لك أيضاً، فـ أنشأ الرجل يرتجل أبياتا من الشعر في ذم هذا الدينار.

بعد ارتجال الأبيات الشعرية في ذم الدينار:
اخذ الرجلُ الدينارَ من الحارث وشكره ثانية ووضع ديناره مع الأول.

عندها قال الحارث: ولما وجدتُ منه هذا الاقتدار وامتلاكه لناصية البيانِ، حدثتني نفسي أنه أبو زيدٍ وأن عرجه لكبير، فَعَرَّفتهُ بِنَفسي، وسألته عن حاله، فـ أجاب الرجل أنه يتقلب بين البؤس والرخاء، فسأله الحارث: كيف ادعيت القزل (العرج)؟

فـاختفت الابتسامة التي كانت قد تجلت على وجه الرجل وأنشأ مرتجلا يقول أبياتا من الشعر في هذا الشأن (شأن عرجه).


المواضيع الأكثر قراءة