سمات النوع الأدبي.. الطبيعة التجريبية للقصة القصيرة جدا وقصيدة النثر: تحديد العلاقة بين التعبير بالصورة والتعبير بالحدث



لاشك في أن تحديد سمات النوع الأدبي سيقودنا حتما إلى الاعتقاد بوجود معيار للتصنيف له قدر من الثبات والتحدد، وهذا أصعب ما سنواجهه في دراستنا بسبب الطبيعة التجريبية للقصة القصيرة جدا، وخضوعها لتغير (مجموع المهيمنات التي تسمح بتشكيل نوع معين (...) إن النوع يزداد غنى بالأعمال الأدبية الجديدة التي تلتحم بالأعمال التي سبق وجودها للنوع المعين.

إن السبب الذي عمل على نوع ما يمكن أن يفقد فعاليته، وملامحه الأساسية يمكن أن تتغير ببطء، لكن النوع يستمر في الحياة كصنف espece أي عن طريق الرابط المعتاد للأعمال الجديدة بالأنواع الموجودة سلفا.

وقد يتعرض النوع لتطور وأحيانا لثورة مفاجئة، ومع ذلك، فبسبب الربط المعتاد للعمل الأدبي إلى الأنواع المحددة سلفا، يحتفظ (النوع) باسمه، على الرغم من حدوث تبدل جذري في بناء الأعمال التي تنتمي إليه) من هنا ستبقى القصة القصيرة جدا محتفظة بالاسم النوعي للقصة القصيرة.

من المعلوم أن القصة القصيرة جدا منجز بدأ يفرض وجوده منذ العقد السبعيني من القرن المنصرم وإلى الآن, ويتحول (إلى شكل شعبي يستمد من النادرة والحكمة والحكاية الشعبية والابيجراما والقصيدة الغنائية) وأخذ هذا التحول توجهين:

- الأول: انبنى على درامية القصة القصيرة بتقاليدها الكلاسيكية مثل لحظة الاكتشاف والخاتمة المفاجئة (محمد المخزنجي، ، خالد حبيب الراوي، إبراهيم أحمد، عبدالستار ناصر هيثم بهنام بردى، جمال نوري).

- الثاني: انبنى على تقاليد قصيدة النثر بابتعادها عن الحدث والدراما وركونها إلى أدوات الشعر من ايقاع ومجاز.. الخ (ناصر الحلواني، منتصر القفاش, محمود علي السعيد، عبدالله المتقي، جبيرالمليحان, ناصر سالم الجاسم).

إن الطابع الغنائي قد غلب عليها بوصفه صيغة تعكس أزمة الداخل (أزمة الذات التي بدت هي المركز الآمن) على حساب الخارج (الواقع المزيف وغير الموثوق به) متأثرة في غنائية القصة القصيرة وتحولاتها التي رافقت الوعي العربي منذ هزيمة حزيران 1967 وما لحق بالواقع من انكسارات وخيبات، فضلا عن تأثير أسلوب تيارالوعي وتقنيات الرواية الجديدة التي عززت الانقلاب إلى الداخل وجعلت الراوي (يغني غناء مباشرا ومسموعا لأنه يصف حالة عقله وعواطفه وانفعالاته إزاء العالم والأشياء) ويمكن إجمال تلك الغنائية في:

- حضور الراوي/القاص (مؤدي الكلام) فيها حضورا طاغيا فالأشياء تأتينا عبر مصفاته الخاصة وعبر علاقة التأمل الجمالي التي تربطه بالعالم، فينقلها لنا في وجودها الخارجي الموضوعي ويلونها بعاطفته، فتتحول تماما وتدخل في سياق مجازي فهي اشراقة الذات ولحظة اكتشاف.

- إنها لا تطمح إلى تمثيل الواقع الإنساني في شموليته، بل تعمل على تكثيفه في رؤية القاص له بوساطة استخدام المجاز والإيقاع.

- إن الغنائية مع هيمنة تقنيات تيار الوعي أصبحت جزءا من القص، حيث يمتزج صوت الراوي (القاص) بصوت شخصياته ويتداخلان على نحو يؤدي إلى صعوبة الفصل بينهما.

كما يناور القاص بالحدث وشدة توتره عن طريق استعمال وسائل غنائية نميزها في القصة القصيرة جدا بما يلي:
- ترتيب حدث لتوكيد تأثيره في (حركة في حدث خارجي)، تقابلها (حركة في الحياة الداخلية)، ونلاحظ هذا في قصة (القرين) لجمال نوري.
- حدث طقوسي غير واقعي كما في قصة (عزلة أنكيدو) لهيثم بهنام بردى.
- مشاركة القارئ في تحقيق الكشف (هدف القصة).
- استعمال الرموز لتجسيد الموضوعات وتصويرها.
- استغلال الإيحائية.

إن تحقيق الغنائية في القصة القصيرة عند سوزان لوهافر يتم بوساطة دمج عناصر إضافية في القاعدة المحاكية، وهي عناصر متوقعة في الشعر على نحو متميز وتظهر أحيانا في السرد النثري وهي:
1- انحراف محدد عن التسلسل التاريخي.
2- استغلال مصادر شفوية نقية مثل النغمة والصورة.
3- التركيز على الوعي المتزايد وليس على الحذف المتكامل.
4- درجة عالية من الإيحائية والشدة العاطفية المنجزة بأقل الوسائل.

وتتحقق هذه في القصة القصيرة جدا كذلك بوساطة التقاطع مع التسلسل التاريخي أو النمو الحدثي، وانحيازها إلى كل ما يمنحها هذه الغنائية، فضلا عن توجهها نحو درامية القصة، وفي كلا الحالين (تتشكل عبر آليات مختلفة، وأهداف مغايرة، فيصبح لها معنى مختلف وتحتاج إلى تناول مختلف).

إن التكثيف في الرؤية والحدث والشحنة العاطفية قد يوقع القصة القصيرة جدا في دائرة المتاهة بسبب أقترابها من القصيدة إذ إن (مجال الشاعر أقرب إلى الجمالية المحضة).

لحظتها يجب الإحتراز من (خطورة هذه الغنائية إذا طفت على سطح الأحداث أو طغت على مشابهة الواقع وأصبحت هدفا في ذاتها كما هو الحال في الشعر) لأنها تقع على هامش السرد –حسب جون جيرلاش- فمن السهل أن تتداخل مع قصيدة النثر رغم الفارق بينهما، فالقصة تدعونا لكي نبني ونتصور تفصيلات غير واردة فيها، تفصيلات تتعلق بالسببية والترابط بين الأحداث ودوافع الشخصيات.

أما القصيدة فتعمل في مملكة الشاعر.
إنها تكشف عن افتتان باللغة (عبر التوريات، القوافي، الطباق، المجاز المفرط، الاهتمام الفائق بالأداء والأسلوب الشعري) وكل هذا يتصادم مع تقدم القصة أو تبلور المعنى في النص.

ولأننا نعدم هذه الفوارق الواضحة اليوم بسبب التداخلات النوعية والكتابة عبرها فإننا نواجه واقعا أدبيا جديدا يعارض (الأشكال الموجودة والمنظمة سلفا (...) فيتقدمون –أي الكتاب- في كتاباتهم الشعرية والنثرية تحت عنوان النص Text ويشمل الشعر والنثر وتشير الكلمة إلى الموقف البسيط للواصف والمراقب الذي لم يتخلص فقط من هيمنة الكتاب الأوائل، وإنما يحافظ منذ بداية نصه حتى نهايته على دوره بوصفه مقرر واقع متشكل ومتسائل وغير واثق).

وعندما نقول إن حضور الصيغة الغنائية في القصة القصيرة جدا هو الغالب فإن ذلك يعني أنها لا تخلو من الصيغ الدرامية التي من أهم سماتها (العناية الأكبر بوحدة الحدث وتلاحمه والحرص على التكثيف والتوتر على حساب العناية بالشخصية التي يتراجع دورها في القصة القصيرة ويهيمن الموضوع على اهتمام الكاتب) وإذا حاولنا تفكيك المصطلح (قصة قصيرة جدا) في ضوء نظرية النوع فإننا سنكون أمام مفارقة تنطوي على انتماء المفردة الأولى (قصة) إلى شكل ملحمي بحكم التسمية والمفردتين التاليتين (قصيرة جدا) إلى شكل يحمل معنى الشعر والإحساس بالدراما ويشير من طرف خفي إلى مجموعة من التقنيات التي تتوافق مع التوفر المحتوم من تكثيف وحدة وصفاء، ولكنها عناصر غير متوفرة للصيغة التي تنتمي إليها، إنما تتوفر في الصيغتين الغنائية والدرامية.

فتتعرض القصة القصيرة إذن لتداخل نصي شديد فبقدر ما تمنح القصيدة للقصة القصيرة جدا ستأخذ من القصة القصيرة وبذلك تتخلى عن صرامتها وتتجه نحو الشعر لتحكمها ضرورة التطور وعدم الثبات دون أي خلل يمس القصصية أو يمحو ملامحها الجمالية لتبقى (تعبر عن الذات وعن الداخل من منظور خاص وفي صور ورموز خاصة وصميمة الصلة بشخصية القاص وإحساسه) لأن الفارق في هذا التداخل يكمن في (تحديد العلاقة بين التعبير بالصورة والتعبير بالحدث، فالقصيدة تنحو إلى استثمار جميع المستويات اللغوية لتنفتح فيها روح التصوير والتكثيف والترميز ابتداء من الصوت المنغم إلى التكوين الكلي للنص، أما فنون السرد فهي تنتقل بمركز الثقل من تلك البؤرة الايقونية إلى بؤرة الحركة الماثلة في الأحداث الداخلية والخارجية).

ونخلص من هذا إلى أن القصة القصيرة جدا تشتغل بشاعرية السرد التي (تغيب الحدث في نسق حكائي ذاتي سرعان ما يمتزج في سرد شعري يفلح أحيانا كثيرة في الإفصاح عن دلالات الخطاب القصصي).

ويتجه كل ما قلناه بشكل أكثر فاعلية في الفصل الثاني (العناصر)، والفصل الثالث (التقانات)، إذ يظهر بوضوح التعاون الغنائي والدرامي المتكفل بخلق قصة تتمتع بعاطفة مركزية أساسها التكثيف والدهشة والدفق الداخلي للغة الشعرية.


المواضيع الأكثر قراءة