العملية التربوية بين إكراهات المهنة ومتطلبات الرسالة



إن ما أثار انتباهي في كثيرا من اللقاءات التربوية والكتابات التربوية ، الإهتمام بالجانب التقني الهني للعملية التربوية ، وإغفال الجانب الهام في العملية التربوية ، وهو جانب القدوه الحسنة ، أو قل لغة الفعل التي تنطق بها الجوارح كلها ، وهي لغة بليغة جدا تنفذ إلى أعماق القلوب ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها . فترى الكثيرمن المربين يولي اهتماما بليغا لتحسين طريقة تلقينه ما كلف بتدريسه للمستهدفين، حتى يحصل على علامات التقدير من لدن المراقب الذي يزوره ، وحتى لايعاب عليه أسلوبه في التلقنين ، كأن مهمته تمثل الطرق المقترحة من طرف الباحثين في مجال التربية والتعليم ، بقطع النظر عن نجاعتها وملاءمتها لطبيعة المادة المسندة إليه وأهدافها؛ وحاجة المتعلم منها دينا ودنيا ؛ بل يكفي أن يرضى بذلك من استحن الطريقة وراى فيها الخلاص أو قيل له ذلك . فلربما قال مالا يعتقد ه وفعل خلاف ما يقوله ، وينسى المرء أن فعله أبلغ من قوله ، وأوقع في نفس مستهدفه وأن تباين القول مع الفعل أمر خطير وكارثة عظمى ، وما وصل إليه حال هذه الأمة إلى ما وصل إليه من ضعف وهوان إلا بكثرة قولها وقلة فعلها .
يقول الباري جل علاه في محكم كتابه ، مستنكرا مخالفة الفعل للقول :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف2/3
وفي كتاب الزهد لابن السري ج2/ص439
867 حدثنا قبيصة عن سفيان عن اسماعيل عن الشعبي قال أشرف قوم من أهل الجنة على قوم في النار فقالوا ما أدخلكم النار فما دخلنا الجنة إلا بتعليمكم وتأديبكم فقالوا إنا كنا نأمركم بالشيء ولا نأتيه 362
وفي الاستذكار لابن عبد البر:
ج8/ص587
قال مالك وبلغني أن القاسم بن محمد كان يقول أدركت الناس وما يعجبون بالقول
قال مالك يريد بذلك العمل إنما ينظر إلى عمله ولا ينظر إلى قوله
قال أبو عمر روينا عن الحسن أنه قال إذا سمعت من الرجل كلاما حسنا ، فرويدا به فإن وافق قوله فعله فذلك وإلا فإنما يذري على نفسه
وقال المأمون نحن إلى أن نوعظ بالأعمال أحوج منا إلى أن نوعظ بالأقوال
قال أبو عمر يكفي من هذا كله قول الله {تعالى يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} الصف 3
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
وروى بن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل ورواه بن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره وقال الضحاك عن بن عباس أنه جاءه رجل فقال يا بن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال أبلغت ذلك قال أرجو قال إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل قال وما هن قال قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم أحكمت هذه قال لا قال فالحرف الثاني قال قوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون أحكمت هذه قال لا قال فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب عليه السلام وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الأصلاح أحكمت هذه الآية قال لا قال فابدأ بنفسك رواه بن مردويه في تفسيره وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقوله إخبارا عن شعيب وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما أستطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
الآيات 2 45 46
تفسير ابن كثير ج1/ص87
فهذه المادة في حاجة إلى من يترجمها إلى سلوك عملي ، يرى قبل أن يسمع ، فالحديث عن الإخلاص والصدق والأمانة والعفة والإخاء والتكافل والتسامح والرحمة والصبر والتحمل وما إلى ذلك من خصال حميدة وقيم نبيلة ،
إن لم تجسد في تصرفات المربي لاتنعكس على المربى بمجرد القول مهما زين ونمق واستخدمت وسائل الإثارة والتشويق ، فهي مادة عملية ، حظ النظر فيها قليل ، وليس مقصودا لذاته .
المجتمع في حاجة إلى أفراد تكسو قلوبهم الرحمة والمودة والتكافل والعفة بمفهومها الشامل ، عفة البطن وعفة اللسان وعفة العين وعفة اليد وعفة الفرج .
كما هو في حاجة إلى علماء أكفاء في كافة المجالات ، ليتخلص من تبعية الغرب والإتكال عليه ، وليتعامل معه كند ، لا كمستجدي . كما هو الحال . ولا تتحقق هذه الكفايات إلا إذا ظهرت الكفايات حلة أنيقة على المربي نفسه ولا يفيد استنساخ النظريات التربوية من الغرب أو الشرق ومحاولة إلباسها لبوس الإسلام وتقديمها على أنها حقائق ومسلمات .
ومما يثير العجب والإستغراب أن شريحة واسعة من المربين الذين ابتليت بهم هذه المادة ، لا صلة لهم بها إلا بقدر ما يجنون من ثمارها في نهاية كل شهر .
بل تجدهم على نقيض ما يدرسون يتحدثون عن المحرمات ولا يتورعون عنها ، ويتحدثون عن الفضيلة ولا يتحلون بزينتها . والأعراب بالباب .
ولا يفهم من كلامي هذا أني أقلل من قيمة تطوير الأساليب التربوية وأخذ الجيد من الغير ،والتمرن على التقنيات التواصلية الحديثة والتفوق فيها ، بل الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، ولكن ينبغي أن يشمل التطوير أيضا السلوك لدى المربي- ،وأن يخضع ما لدىالغير من الخير إلى منهج دين ويلبسه لبون لبوس عقيدته وشريعته ، فهم لا يقدمون لك المعلومة مجانية ، برورا منهم ورحمة ، بل يقدمون معها كما هائلا من المعتقدات الفاسدة والقيم الهابطة ، مغلفة بغلاف براق ، اسمه التحرر والتقدم ، والتجديد والحداثة والتحضر، - حتى يكون أنموذجا يحتذى ، والله ولي التوفيق وهو سبحلنه من وراء القصد.
أبو الدرداء محمد الخمليشي


المواضيع الأكثر قراءة