تحريف دور المدرسة وتحويلها إلى بضاعة للمتاجرة بها.. سياق اقتصادي جديد



ستتعرض الشروط التي أتاحت إضفاء الطابع الجماهيري على التعليم الثانوي، وبدرجة اقل على التعليم العالي، الانقلاب بفعل الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في منتصف السبعينات.

وفي مرحلة أولى ظهرت آثار تلك الأزمة على مستوى الميزانية.
وهكذا جرى  كبح  عنيف لنمو النفقات العمومية، التي بات التعليم يتبوأ منها موقعا راجحا.
وحل التقشف بالبلدان التي استدانت دولها خلال سنوات «الوفرة».

وهكذا شهدت نفقات التعليم ببلجيكا هبوطا سريعا من نسبة 7% من الناتج الداخلي الإجمالي إلى ما يفوق 5% بقليل في أواخر سنوات الثمانينات.

غير أن المحاور الكبرى لسياسات التعليم لم ُتقوض فورا لأن الأوساط المؤسسية والاقتصادية كانت ما تزال تأمل قصر مدة الأزمة وعودة النمو الاقتصادي القوي والمستديم لمرحلة «الثلاثين سنة المجيدة» بعد إجراء إعادة الهيكلة الضرورية.

وقد وجب انتظار أواخر سنوات الثمانينات لتتبخر تلك الآمال ويدرك قادة البلدان الرأسمالية تمام الإدراك البيئة الاقتصادية الجديدة وما  تفرض من مهام جديدة على التعليم.

ما هي إذا مميزات تلك البيئة؟
- أول عنصر يستدعي التأكيد مرتبط بالتجديد التكنولوجي.
إذ أن تراكم المعارف يحث على تسارع مستمر لوثيرة التحولات التقنية.

وتستولي الصناعة والخدمات، في تسابقها نحو التنافسية على تلك الاختراعات للحصول على أرباح إنتاجية أو لأجل غزو أسواق جديدة.

وُتفاقم الحرب التكنولوجية بدورها حدةَ الصراعات التنافسية، مما يؤدي إلى  تزايد حالات الإفلاس وإعادة الهيكلة وترشيد النفقات وإغلاق المصانع وترحيل وحدات الإنتاج.

 أما سرعة سيرورة العولمة التي يدفع بها، هي أيضا، تطور تكنولوجيا وسائل الاتصال، فهي لا تقوم سوى بزيادة حدة الصراع الضاري بين المنشآت وبين القطاعات وبين القارات.

وبالمقابل، يدفع احتدام الصراعات التنافسية رجال الصناعة  إلى تسريع  تطوير التكنولوجيا الجديدة وإدخالها في الإنتاج وفي الأسواق الجماهيرية  marchés de masse.

لقد احتاجت الطائرة إلى  25 سنة كي تغزو 25% من سوقها، واحتاج التلفون 35 سنة والتلفزة 26 سنة.
أما الحاسوب الشخصي فقد غزا ربع سوقه الكامن خلال 15 سنة، وقام التلفون المحمول  بذلك خلال 13 سنة، وإنترنت خلال 7 سنوات فقط.

وهكذا غدا المحيط الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي أكثر تقلبا وأكثر تحولا وأكثر فوضى على نحو غير مسبوق على الإطلاق. ان أفق التوقع الاقتصادي يضيق باستمرار.

- ثانيا: تتعلق ثاني الميزات الأساسية للاقتصاد «الجديد» بتطور سوق العمل. ينعكس  التقلب الاقتصادي، أول ما ينعكس، من خلال هشاشة التشغيل.

ففي فرنسا تطال مناصب العمل الهش حاليا أكثر من 70% من الشباب في بداية حياتهم العملية.
وخلال الفترة الممتدة من سنة 1994 وسنة 1995 وحدها، تضاعف تقريبا عدد العقود محدودة الأمد واصبح العمال مضطرين لتغيير منصب العمل والـُمشغل بل حتى المهنة، بصورة منتظمة.

وليست فرص العمل غير قارة وحسب، بل إن طبيعتها تتغير أيضا. و يقال ويعاد تكرار: إن «الاقتصاد الجديد» يستلزم تناميا مذهلا لأعداد الإعلاميين والمهندسين والاختصاصيين في صيانة الآلات المعلوماتية وفي تدبير الشبكات.

وهذا هو الوجه المعروف أكثر، لأنه اكثر تداولا في الكلام  عن تطور سوق العمل باستمرار.
ومع ذلك لا يتعلق الأمر سوى بقمة جبل الجليد.

إذ لا تجري الإشارة  إلا لماما إلى الجانب الآخر لذلك التطور المتجلي في التنامي الأكثر انفجارا لمناصب العمل ذات مستوى متدن من التأهيل.

قبل 10 عشر سنوات، سبق أن بين تقريرFAST II حول فرص العمل بأنه توجد على رأس المهن ذات اكبر معدل نمو مهن التنظيف وبعدها  مساعدو- الممرضين والباعة وأمناء الصناديق  ومهنة النادل.

أما منصب العمل الوحيد المتضمن للتكنولوجيا، منصب الميكانيكي، فيأتي في الدرجة العشرين وهي الأخيرة.

بينت دراسة مستقبلية  أنجزتها وزارة العمل الأمريكية مؤخرا، حول فترة 1998 إلى 2008، أن ذلك الميل سوف يتعزز في السنوات المقبلة.

أكيد أن وظائف المهندسين والمهن المرتبطة بتقنيات الإعلام والاتصال سوف تشهد تناميا أكثر ارتفاعا بالنسبة المئوية. لكن ليس عدديا.

وهكذا ففي 30 فرصة عمل التي توقعت بشأنها تلك الدراسة اكبر نمو اسمي (أي بالعدد المطلق لفرص العمل )، جرى إحصاء 16 منصب عمل من النوع الذي يتلقى المعنيون « تكوينا في مدة قصيرة» في « مكان العمل».

ومنها بلا ترتيب، الباعة والحراس والمساعدون الصحيون وعمال الصيانة ومضيفات الاستقبال وسائقو الشاحنات أو كذلك «العمال الذين يقومون بشحن الموزع الآلي للمشروبات والأغذية» (من المتوقع خلق 250.000 فرصة عمل في ذلك القطاع وحده).

ومن20 مليون فرصة عمل جديدة متوقعة بالولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الممتدة من عام 2001 إلى عام 2008 توجد  7,2 مليون فرصة عمل من ذلك النوع، مقابل 4,2 مليون «bachelors» فرصة عمل ذات «ذات تكوين عال في مدة قصيرة».

كما ستبرز الثنائية في مجال المداخيل.
وهكذا ستكون 35% من فرص العمل الجديدة من الأنواع التي تدخل اليوم في ُربعية المداخيل العالية (25% من الأفراد الأكثر غنى).

ولكن 39% من فرص عمل أخرى  ستكون في عداد ُربعية المداخيل المتدنية (25% الأكثر فقرا).
وتنتمي  14% و11% فقط من فرص العمل إلى ُربعيتي المداخيل الوسيطة، أي بالتوالي الطبقة العاملة التقليدية والطبقات المتوسطة.
وبعبارة أخرى، بينما تتقدم الأطراف  يتجوف الوسط.

- ثالثا: تتمثل الميزة الثالثة للمحيط الاقتصادي- الناتجة بدورها عن احتدام الصراعات التنافسية وعن عشوائية النمو الاقتصادي، في تملص الدولة من الالتزام بالخدمات العمومية.

وتضغط الأوساط الاقتصادية على الحاكمين لاجل خفض الضغط الضريبي - على أرباح المقاولات وعلى مداخيل الرساميل، ولكن أيضا على مداخيل العمال لان ذلك يزيد من هامش مناورتها الخاصة في التفاوض حول الأجور.

وتقول المائدة المستديرة للصناعيين الأوربيين إنه ينبغي «توظيف المبالغ المالية العمومية المحدودة جدا حافزا لدعم نشاط القطاع الخاص وحفزه».

وستواجه السلطات السياسية صعوبة كبيرة  حتى لو أرادت مقاومة تلك الضغوط - وتلك حالة نادرة –، لأن العولمة الاقتصادية تجعل سيرورة «نزع  الضريبة التنافسي» فعالة بشكل مرعب.

يشكل عدم استقرار التحولات الاقتصادية وتعذر توقعها، وإضفاء الثنائية على المؤهلات المطلوبة في سوق العمل، وتكرر ازمة المالية العمومية، العوامل الثلاثة المحددة،إبتداء من ملتقى سنوات 80-90، لمراجعة جوهرية للسياسات التعليم.


المواضيع الأكثر قراءة