أولية الشعر العربي.. استخدام اللغة بكيفية معينة لتجلب القوى الغامضة التي تحقق الأفعال التي يروم الساحر تحقيقها

حاول الإنسان، في أول نشأته، السيطرة على موارد الطبيعة واستغلالها لصالح احتياجاته، وقد تمكن من اكتشاف الأداة التي أخذت تنمو وتتطور باستخدامها في العمل ثم استدعى التطور وسائل جديدة للتعبير والاتصال تتجاوز بكثير الإشارات البدائية القليلة التي يعرفها الحيوان، وهو لم يتطلب تلك الوسائل، بل ساعد على نموها أيضا... لقد ظهرت اللغة إلى الوجود مع ظهور الأدوات، وليست اللغة أداة للتعبير بقدر ما هي وسيلة للاتصال.

وإذا كانت عناية الإنسان بزخرفة الوعاء الذي يأكل فيه، أو السهم الذي يستخدمه في القتال، قد جاءت متأخرة فلقد استخدم اللغة أول الأمر لمجرد التوصيل والمنفعة، ولم يكن يهدف منها تأدية دلالات جمالية معينة.

ومن الجدير بالإشارة أنْ نؤكد فرقاً جوهرياً بين الأدوات التي يستخدمها الإنسان سواء أكانت لغاية نفعية أم جمالية وبين اللغة، في أنَّ اللغة تختزن سياقاً تاريخياً واجتماعياً أكثر من أية أداة فنية أخرى، فهي الأداة الوحيدة التي تلتحم بصورة مباشرة متينة بالتطور التاريخي لتكوين الإنسان عضوياً، وذهنياً، كما أنها الأداة الوحيدة التي يواكب نضجها تكوين المجتمعات البشرية ويحدد شروط بقائها.

واقترنت نشأة الشعر منذ أقدم العصور برحلة العمل الجماعي، سواء أكان في رحلة للصيد، أم لجني الثمار، أو بتأدية عمل لا يمكن أن يؤديه فرد واحد.

إن العمل الجماعي يوحد الأفراد ويقلل من تعبها ويقرب من تحقيق هدفها، وقد قاد هذا إلى التحام حركة الفرد بحركة زميله فكانت قوة إنجاز عملي، لذلك كانت أغنيات البدائيين نداءات، وكان إيقاعهم تنظيماً لحركات الأداء العملي.

و تولد من العمل الجماعي محاولات إيقاعية تنتظم بها الكلمات بطريقة معينة لأنَّ هذه الحركات الإيقاعية تساعد العمل، وتنسق الجهد، وتربط الفرد بفئة اجتماعية . وكل انقطاع في الإيقاع إنما هو ممجوج، لأنه يحدث خللا في عمليات الحياة والعمل وهكذا نجد الإيقاع متمثلاً في الفنون، بوصفه تكراراً لعنصر ثابت، وبوصفه تناسباً وتناظراً.

وجاءت مرحلة حاول فيها الإنسان التعبير عن فرديته، ولكنها حركة في إطار حركة الجماعة، وتتمثـل هـذه المحاولة في شخصية الساحر الذي يزعم أنه يمتلك خصائص لا يمتلكها سواه، وتتجلى أبرز ملامح السحر في استخدام اللغة بكيفية معينة لتجلب القوى الغامضة التي تحقق الأفعال التي يروم الساحر تحقيقها.

ويؤدي الساحر وظيفة العراف والفنان والشاعر، فهو يعمد إلى خلق النبوءة والكشف عنها، ويستخدم اللغة بكيفية معينة تتجاوز التوصيل المقصود لذاته.

وبقيت آثار الوظيفة السحرية مرافقة للشعر في مراحل لاحقة، ويتجلى ذلك في أثر المدح والهجاء في الإنسان، ولقد كان المدح والهجاء يلعبان دوراً خطيراً في حياة العرب منذ مراحل سحيقة والى يومنا هذا، وهذا يدل على أنَّ ثمة صلة وثيقة بين الشعر والسحر، سواء أكانت هذه الصلة في مراحل نشأة الشعر، أم في الكيفية التي يتضمنها الشعر من التأثير في الناس لدرجة تشبه أثر السحر.

ولذلك فليس غريباً أنْ نجد من يؤكد أنَّ الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السحرة في التأثير في مشاعر الناس وكانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثراً خطيراً في نفس سامعه.

ويؤكد بروكلمان أنَّ الهجاء قبل أنْ يتحول إلى شعر السخرية والاستهزاء كان في يد الشاعر سحراً يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير شعري. ومن ثم كان الشاعر إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، يلبس زياً خاصاً شبيهاً بزي الكاهن.

ولم يكن الرثاء بعيداً عن أجواء السحر، بل لعله يتنفس في أجواء السحر أكثر من الهجاء، لأنَّ الغاية من المرثية انْ تطفئ غضب المقتول، وتنهاه أن يرجع إلى الحياة فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين.

وقد أسهمت المرأة في النواح والبكاء مع طقوس ترافق ذلك، ويقال إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن والنعال والجلود وكن يصنعن ذلك على القبر وفي مجالس القبيلة والمواسم العظام، ولعل في حلق رؤوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين... وما يشهد بأن هذا الرثاء إنما تطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن في لحده.

ومثل هذا ما ينقله ابن طباطبا العلوي من أمثلة لسنن العرب المستعملة بينها، التي لا تفهم معانيها إلا سماعاً، كإمساك العرب عن بكاء قتلاها حتى تطلب بثأرها، فإذا أدركته بكت حينئذ قتلاها.

إنَّ هذه التقاليد التي رافقت أداء الهجاء أو المرثية إنما تدل على تداخل السحر بالأسطورة بالشعر، ولذلك ليس غريباً أن تجد من يؤكد أنَّ الشعراء إنما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل، ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيأة خاصة، يلبسون فيه أردية خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.

ويذهب عدد من الباحثين إلى تأكيد أنَّ السجع هو الشكل التعبيري الذي تطور عنه الشعر، فالسجع فيما يرى ـ بروكلمان ـ قد ترقى إلى بحر الرجز المتألف من تكرار سببين ووتد يسهل على السمع ويبلغ أثره في النفس.

وبعض علماء العروض ينكرون عد الرجز من الشعر، وفي الواقع يبدو أنَّ الرجز في الجاهلية كان يلبي حاجة الارتجال فحسب، ولم يستخدمه بعض الشعراء في منافسة الأوزان العروضية الكاملة الا في زمن الأمويين، ومن الرجز نشأ بناء أبحر العروض على مصراعين وقافية في الثاني، أما الأوزان العروضية فلا ريب أنَّ بناءها تم بتأثير فن غنائي وإنْ كان بدائيا.

ومن الجدير بالذكر أنَّ أدونيس يقسم السجع إلى أنماط متعددة: الأول يكون فيه الجزآن متوازنين متعادلين لا يزيد أحدهما عن الآخر، مع اتفاق الفواصل على حرف بعينه، والثاني: تكون فيه ألفاظ الأجزاء المزدوجة مسجوعة، فيكون الكلام كله سجعاً، والثالث تكون فيه الأجزاء متعادلة، وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج، إذا لم تكن من جنس واحد.

ولم يكن المستشرقون هم الذين انفردوا بالاعتقاد بأنَّ أوزان الشعر العربي قد تطورت من السجع إلى الرجز، بل ذهب بعض الباحثين العرب إلى متابعة هذه التصورات وتأكيدها مع مزيد من التفصيل، إذ يتابع محمـد عثمان علي آراء الطاهر أحمد مكي في أنَّ القصيدة الجاهلية بدأت بشيوع العرافة واتخاذ العرافين والمحكمين الكلام المسجوع، ثم السجع الموزون وسيلة للتعبير عن تنبؤاتهم وأحكامهم، ومن السجع الموزون إلى الرجز ومن الرجز إلى الشعر، وإذا كان السجع أداة الكهان فإنَّ الرجز قد أصبح غناء الحداة حراس القوافل، ثم تطـور هذا الـرجز فاستعمل في أغراض من الشعر مختلفة.

والحق انَّ هذه التصورات للمستشرقين والعرب إنما هي فروض ظنية، لأننا لا نملك دليلا يؤكد أنَّ العربي قد بدأ بالسجع أولاً، ثم بالسجع الموزون ثانياً، أو أنَّ الرجز قد تطور عن السجع الموزون، ومن ثم تفرعت عنه البحور الشعرية، فقد يكون ما حصل خلاف ذلك، إذ يذهب أحد الباحثين إلى القول بأن بعض القدماء والمحدثين قد زعموا أنَّ الرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولد من السجع، مرتبطا بالحداء ووقع أخفاف الإبل في أثناء سيرها وسراها في الصحراء، وقد تولدت منه الأوزان الأخرى غير أنَّ هذا مجرد فرض.

وكل ما يمكن أنْ يقال هو أنَّ الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعاً في الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعني قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال