دراسة تحليل قصيدة (بدأ الإسلام غريباً ) بنيوياً للشاعر الأردني حيدر محمود



النص:
(1)
بدأ الإسلام غريباً
... وغريباً سيعود
طوبى للأطهار، والأحرار
وللشرفاء
طوبى للفقراء إلى الله
وطوبى ... للشهداء
فليتقاسم وحل الأرض
سماسرة الأرض

(2)
بدأ الإسلام غريباً ...
وغريباً كان (أبو الزهراء)
ويتيماً... وفقيراً... ووحيداً في ليل الصحراء
وأراد الله، فطأطأ هامته العالم
واهتز الكون
وديست تحت الأقدام العريانة
تيجان العظماء...
وأمام (حبيبات) التمر اليابسة انهارت
أصنام الشرك
وخرت أركان السفهاء

(3)
وصحت من غفلتها الدنيا
فإذا بمحمد البدوي، الأمي
على صهوتها ...
الفارس، والمنقذ، والهادي...
وإذا بالعرب المنسيين على خارطة الأرض
يرددون لهذي الأرض
هويتها...
ويعيدون صياغة كل تضاريس الأرجاء

(4)
كنّا ... من حول رسول الله
سيوفاً، لا تخشى إلا الله
وشموساً تطلع في الليل
لتهدى الظمآنين
إلى أنوار الله ...
.... كنّا قرآن الحق، المتحرك، والفاعل
في الأرض ، وفي الإنسان
كنّا خير الحكماء ....( )

الدراسة والتحليل:
ينقسم النص إلى أربعة مقاطع، يضم المقطعان الأول والثاني نسق حال الإسلام، ويتضمن النسق الثاني في المقطعين الثالث والرابع، نسق حال العرب وأوضاعهم المنسية وهو موضوع القصيدة.

وقد بدأ المقطعان الأول والثاني بعنوان القصيدة للدلالة التي يريدها الشاعر المتمثلة في غربة الإسلام الذي كان جلياً في عهد الرسول – صلى لله عليه وسلم- وهما يمثلان ظاهرياً جزءاً من النسيج العام للقصيدة على الرغم من التقائهما في المعنى العام للنص الأصلي .
وتحدد مفهوم الخطاب منذ البيت الأول : بدأ الإسلام غريباً  ، فالقارئ للأدب العربي لا يحتاج إلى كبير عناء ليدرك أن المخاطب الذي يتمظهر في حال الأمة العربية.

ونلاحظ حضور ثنائية ضدية في القصيدة (الحرية /الغربة) ويبدو هذا الحضور قوياً على الخصوص في الامتداد الرمزي المحوري لهذه الثنائية: فالأبيات تتضمن عناصر ومؤشرات لهاتين الثنائية، فالإسلام منبع الحرية.

والقصيدة تدور في فلك الثنائية بين الغربة والحرية، فالغربة متمثلة في دور الإسلام عندما أصبح ضعيفا لا يكاد يسمع صوته،  والحرية  متمثلة في الدور التي تقوم به الأمة العربية في ضياع  هيبتها وأصبحت مثل الغربب لا تملك الحرية التي يطلبها شعبها، وأصبحت حبيسة الأوغاد والأحقاد.

وإذا ما قارنا النسقين نجد أن النسق الأول يحتل مساحة أكبر من النسق الثاني الخاص بالحالة العربية. ويعود ذلك إلى رغبة الشاعر في تهميش دور العرب، ليبقى المجال مفتوحاً أمام الغريب البديل، ونستشف ذلك من القاموس الطاغي على الأبيات: بدأ الإسلام غريباً... وغريباً سيعود، طوبى للأطهار، والأحرار وللشرفاء وللفقراء إلى الله وللشهداء... وأصبح حال الأمة العربية تحت الأقدام العريانة....

فقي المقطع الأول كانت غربة الإسلام المعاصرة – التي حاصرت الإنسان المسلم حتى في وطنه العربي بسبب سيطرة القوى العظمى على أرضية ومقدراته – موضوعا شعريا توجه بالشاعر حيدر محمود إلى استدعاء بواكير الدعوة الإسلامية، وذلك للتعاضد التاريخي بين الغر بتين في لمس معاناة واحدة مشتركة، وهي قلة عدد المناصرين للإسلام الذي اضطر بأهله إلى التغرب عن الأوطان والصبر على مشاق البعد  تماماً، كما عانى الإسلام في بداياته، وذلك انطلاقاً من عنوان القصيدة الذي كرره في مقطع آخر.

وهذا النص يبدو واضحاً ففي بدايات القصيدة نجد تداخل النص الديني مع السياق الشعري الذي اختزل الشاعر حادثة الهجرة النبوية واستهلها بالقول المأثور عن الرسول– صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء ...) فكان لذلك تأثير على الفكرة المطروحة من قبل الشاعر في رسمه لصور الأحداث العربية وأسهم في تشكيل بنائها الفني.

كما أن تكرار مصطلح (طوبى) التي تفسر بالجنة وبشجرة عظيمة فيها، تجلت فيه روح الشاعر / روا ي الحديث المحرض والثائر والداعية، الذي قصد منه استباق حدث ما بعد الغربة لقلة الأعوان وأنصار الحق، بالنهاية السعيدة والاستبشار بالقادم، فدالة (طوبى) تمنح الدافعية للعمل، ولا سيما أنها تختص بفئة من الناس، تميزوا عن غيرهم بأنهم (الأطهار-الأحرار-الشرفاء- الفقراء-إلى الله –الشهداء).

ثم إن للكلمة (طوبى) قيمة على مستوى الإيقاع في تهيئة الجو الموسيقي المناسب للقصيدة، وكذلك على مستوى البناء الفني الذي يسهم في تلاحمها ويجعلها وثيقة الصلة والارتباط بمعناه العام، ويعد التكرار من أهم الأساليب التي تؤدي وظيفة تعبيرية وإيحائية في النص، إذ إن التكرار يوحي بسيطرة فكرة العنصر المكرر على فكرة الشاعر، أو على شعوره.

ثم نجد الشاعر في المقطع الثاني من القصيدة يوظف طاقة البنية الحكائية والسردية داخل نصه الشعري ، بما تحمل من مواصفات فنية وبنائية تنمو من خلال وقع الحكاية واعتماد السرد في التركيب الكلي، وهذا مما يكسب هذه القصيدة لغة محكية يقترب فيها الشاعر من الحدث القصصي، كما رسم الشاعر محمود حيدر في داخلها شيئا من مشاهد الهجرة النبوية المباركة على صاحبها أفصل الصلاة والتسليم.

كما استثمر الشاعر الإشارة الدينية (بدأ الإسلام غريبا) مرة أخرى، ففعل السرد (بدأ) هو الحدث، والشاعر بهذا (يحقق بطريقة مباشرة وجود النص مع غياب واضح لذاته)، ويجعل من بؤرة النص مرتكزا قائما على الغربة، باقتران الغربتين غربة الإسلام وغربة "أبي الزهراء".

وانتقاء الشاعر لقب الرسول صلى الله عليه وسلم "أبو الزهراء" من البدائل الأخرى، دون مناداته باسمه مباشرة بـمحمد أو مناداته بأبي القاسم و"أبو الزهراء" اختيار موفق من الشاعر، لما له من أبعاد دلالية واسعة الآفاق والمعنى، وهو في القصيدة يبتعد عن دلالته الحقيقية ، ويتوافق مع المعنى الجزئي لدالة ( طوبى) الدال على الاستبشار، ومع المعنى الكلي الضمني للحديث الشريف، بأنه سيأتي بعد الغربة الثانية انتصار وتمكين للمسلمين، فاستدعاء لقب "أبو زهراء" يعطي بارقة أمل، وشعورا بمستقبل زاهر وواعد متعلق بالحدث.

وتأتي الإرادة العليا "أراد الله " لتقفز بحدث النص، بما يتناسب مع الحقيقية التاريخية بعد الغربة والجهاد المنفرد إلى وقوع العالم كله أسير لهذه الدعوة، مطأطئا لإرادتها.

وتضافرت اللغة الشعرية باستدعاء الفعل المبنى للمجهول "ديست" بحذف الفاعل وتصغير الدال "حبيبات" للتأكيد على فعل الإيمان 0بل إن بالشاعر يقيم هنا بين قوتين بـ (الأقدام العريانة) و(حبيبات التمر اليابسة) الدالة على التوكل والزهد، وما يستدعي ذلك من الإشادة المبطنة بإقدامهم وبطولاتهم وصدق عزيمتهم.

وفي المقطع الثالث يتغير خطاب الشاعر حيدر في المتن الحكائي للقصيدة، وتنقلب صياغة السرد فيه، وذلك ليتوافق مع دور الراوي وموقعه في الحدث، الذي كان منعزلا عنه بداية، ممثلا لدور الراوي العليم، وساردا للحدث من الخارج عبر الفعل الماضي كان /هو للمفرد الغائب، ليتحول دوره إلى: كنا / نحن لجماعة المتكلمين ، مشاركا له ومتغنيا بأمجاد أمته.

وفي هذا الموقع يفعل الراوي أدواته السردية، لتأليف حكاية شعرية ذات طابع مسرحي. تتفاعل فيها مكونات السرد، تفاعلا حيويا لافتا بأسلوب ينقل اللغة من الحيز الشعري القولي إلى مرحلة ثانية من مراحل تكوين الصورة الشعرية.

وفي المقطع الأخير نجد الخطاب يتغير فجأة في القصيدة وتنقلب صياغة السرد فيه ليتوافق مع دور الراوي وموقعه في الحدث، فقد عبر بالفعل الماضي (كنّا) بصيغة الجمع بدلاً من المفرد الغائب ليكون مشاركاً ومتغنياً بأمجاد أمته، ويكون التعبير أكثر دلالة وقوة.

كما نجد الشاعر كأنه يستحضر معاني النصر من قوله تعالى في سورة محمد: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وهذا إيمان من المسلم بأن النصر لا يأتي إلا من عند الله تعالى، ومتى انتصر الإنسان على نفسه  وجاهدها واكتفى بما منحه الله واتبع منهج رسوله الكريم – عليه الصلاة والسلام - جاءه النصر والفرج من الله. يتماهى الراوي مع مرويه، باقتران الـ(هو/ كان)، بالذات / كنا، ليظهر مدى الارتباط النفسي العميق بماض، يتمنى كثير من الغرباء العودة إليه.

وتحول فعل الحكاية من (كان) إلى (كنا)، دلالة قوية على اتحاد الذات مع أمجاد الأجداد.
فلم يقل الشاعر (كانوا من حول رسول الله) بل (كنا) ليقع الفعل على دالة (خير) التي تتكرر في القصيدة خمس مرات ومضافة ومتقرنة بمركزية القيادة وأفضليتها في جميع المهن، التي تمد السلطة بالسيطرة على العالم وتمنحه محورية الحكم عليه فــ(كنا خير الحكماء– العلماء -  الزراع - الصناع - السادة – القادة – الفرسان) (ولهذا انتصرت، وانتشرت/ كلمات الرحمن).

لقد تميزت القصيدة بتحولات وبازدواج الخطاب الشعري، وإيجاد فاصل سردي، بقطع المتن الحكائي عن الحدث السابق ، بحضور ضمير الجماعة (كنا) مما منح النص روح الحركة الدائبة، المتوافقة مع المضمون الشعري، فالاستعانة بضمير الجماعة أدت الدور الوظيفي في القصيدة، بطمأنة ذات الراوي المشارك، والذي يمثل أحد المروى لهم بأن النصر قادم لا محالة، لكن ذلك مرتهن بالفضاء المكاني (حول رسول الله)، وما يستوجبه ذلك من الملازمة واستمرار اتباع  هداه، (ولعل استمرار أفعال السرد في المضي نحو استكمال صيرورة الحكاية يحيل على توكيد الفضاء).

وهذه الأفعال السردية مثل: (لا تخشى - تطلع - تهدي) تمضي بدفع الأحداث قدما، وتتبعها التشكيلات البصرية بين الجمل الشعرية (سيوفا– شموسا – قرآن الحق) لتعضيد تلك الرؤية، لخلق النموذج والمثال في كل أمور الحياة.

وارتكاز الشاعر  على السيرة النبوية في هذه القصيدة إنما هي محاولة من الشاعر لتجسيد موقفه تجاه واقع عصره، ومحاولته للعودة للموروث الديني إنما هي إحالات ليتطلع منها القيم الإنسانية المتمثلة في الحق والكرامة عندما تمثل بقدوة البشر محمد – عليه الصلاة والسلام - وبصفة عامة فإن الحكاية الشعرية جعلت من السيرة النبوية موضوعا لها، مع تفضيل الاعتماد على استعمال الرمز على سرد الحقيقية، وطغيان الدلالات النفسية.

وفي الختام نجد الشاعر يثير الشاعر سؤالاً يتعلق بإصراره على خرق القيم لمجتمعه العربي الإسلامي، مع سبق إصرار على التعبير الصريح عن هذا الخرق، وعلى التحدي والجرأة.

كما يحتفل الشاعر بالإسلام ليس بريئاً ولا اعتباطياً بل له دلالات نجد معناها ومدلولها واضحاً في القصيدة، مما يجعل العرب كائناً حياً يلعب دوره البارز في حياة الشاعر وتفكيره، وتتحول لديه إلى رمز لأشياء أخرى.

وقد وفق الشاعر في اختياره  للموضوع لدلالة أخرى يفرضها سياق النص كاملاً عن طريقة التصوير، والتركيب اللغوي  لندرك أن الاختيار لم يكن اعتباطياً، بل فيه من التحدي للعروبة الشيء الكثير، فهو يتجاهل العديد من الحكام العرب الذي أصبحت الأمة منسية في زمانهم.


0 تعليقات:

إرسال تعليق