الازدهار التكنولوجي والثورة المعرفية وغياب الوازع الأخلاقي.. حكام العالم الجدد والبحث عن القدوة والمثل الأعلى



التخبط الذي يضرب بأجنحته العمياء أطراف العالم، ويؤرق الجيل الجديد التائه بلا دليل، يقود إلى البحث عن قدوة ما يمكن الاتكاء عليها، والطمأنينة إليها ولو قليلاً، فالعالم يعيش اليوم قمة ازدهاره التكنولوجي، وثورته المعرفية، وكلّ وسائل الترفيه، متزامنة مع موجة العنف الدموي، والفقر، والجوع، وتقلبات الطبيعة القاسية، بحيث باتت الأيدي تجأر إلى السماء داعية لتدخل من ربّ العالمين لإيقاف الظلم، وتلوث الحياة، وسيل القهر الهادر، والدم المستباح بعد فقدان الأمل بحلول البشر..!
وما يعنيني هنا الجيل العربي الجديد تحديداً، فإذا كانت الأجيال التي سبقته مثخنة بخيباتها بعد سلسلة من الأمل الخادع بالعروبة، والشيوعية، والأحزاب الدينية، والرموز الوطنية، بحيث أنها لم تستفق بعد من تلك الصدمات، فإنّ أبناء التسعينيات والألفية الثالثة من العرب ورثوا فراغاً هائلاً، بحيث أن عيونهم قد تفتحت على انكسارات لا تحصى لآبائهم وأمهاتهم والجيل الذي سبقهم، ووجدوا أمامهم احتلالاً جديداً مباشراً للعراق، وغير مباشر لدول أخرى عديدة، مع تفاقم قضية فلسطين، وازدياد السواد وضيق الأفق بدل المستقبل المشرق، كما وجدوا أيضا دعوات لتقسيم العالم إلى فسطاط للإيمان وفسطاط للكفر، إضافة إلى سيل هادر مما تبثه التقنيات الجديدة، التي ظهرت في هذه الفترة، وهي الانترنت، والموبايل، والساتلايت بكل غثّ وسمين، ولم يجدوا أمامهم أدلاء يقودونهم نحو الخلاص أو تجنب مخاطرها، والكم الهائل من الترفيه المبتذل، والتركيز على تأجيج الرغبات الجسدية، والثقافة الغنائية الهابطة، مع خيارات أخرى مضادة لسلسلة من الشيوخ أو مفتي الفضائيات، والدعاة الجدد الذين أصبحوا نجوماً بكل ما يضخونه من وعظ آني يعتمد غالبا على عنصري الترغيب والترهيب، وجعل الإيمان مسألة قابلة للحساب، عبر كسب الحسنات بالملايين، من قراءة نصوص أو أدعية معينة، أو إرسال مواد تثير القشعريرة عن العذاب في القبر وتفاصيل النار..!
وهكذا انقسم الشباب اليوم بين هذين التيارين الخطيرين، في ظل غياب دور حقيقي للمثقفين، بل أي بديل ثقافي أو ديني آخر، أما القسم الثالث من هذا الجيل فقد وقع فريسة القلق الوجودي، وبالتالي عدم الإيمان بشيء، وهكذا انتشرت موجة التمرد والبحث عن رمز ما، ولم يجدوا أمامهم إلا الرجوع إلى بقايا الأفكار الماركسية، ونقد الفكر الديني للاتكاء عليه مجددا، أما بشأن الرموز فقد وجد البعض في تشي غيفارا نبياً يجلونه، وبعضهم اتخذ من بعض الشعراء المعروفين رموزاً يطوفون حولها تبجيلا، على أساس أنهم ربما يملكون شيئاً من الحقيقة التي تضيء العتمة لهم..!
أقول كل ذلك تأملاً في واقع ما يدور حولنا، واعتماداً على نقاشاتي المباشرة مع عدد كبير من أبناء هذا الجيل، الذين يفصحون بشكل أو بآخر عما يدور في خلدهم، وانشغالاتهم، وحيرتهم المضاعفة قياساً لنا نحن أبناء الأجيال السابقة لهم، الذين على الأقل مررنا بفترات من الأمل العظيم والنكوص ثم الأمل وهكذا، لكن الجيل الجديد لم يجد غير الخواء أمامه، وما يزال ينتظر أن يهبط عليه معلم قدوة يوقظه من تخبطه، ويقوده إلى برّ الأمان، سواء كان قائداً أو مفكراً أو مشروعاً عظيماً يستحق الالتفاف حوله، ومن الواضح أن الانتظار قد طال، وأن الفجوة تتسع في السفينة وربما تغرق بمن فيها، ولهذا تجد ميلاً نحو النكوص إلى الإقليمية والعشائرية والمناطقية والطائفية والمذهبية والشوفينية كنوع من الشرنقات الحافظة، أو إلى نجوم في الغناء أو الرقص أو الإعلام أو التمثيل أو كرة القدم كرموز وصلوا النجاح ويستحقون أن يتم تقليدهم، في حين أن أغلب هؤلاء النجوم من التائهين أيضاً الذين بحاجة إلى طمأنينة يستندون إليها، وهكذا تكون الحال أن أعمى يقود عميانا في طريق مظلم أيضاً فتأملوا النتيجة..!
وبعد فإني لا أملك غير التفاؤل وبثّ الأمل بأنّ بصيصاً من النور سيشع ذات فجر قريب مبدداً العتمة والليل الطويل، فقد علمتنا تقلبات الدهور، وأحداث الأمم البائدة بأنه كلما ازداد سواد الظلمة كثافة حتى وصل إلى آخر درجاته يسطع الضوء ويهل على الكون فجر جديد، ولكن أبناء الضياء هم وحدهم من يغتبطون للنور، ويسرون لقدومه، فلنكن منهم إذا وليبادر كلّ واحد مناً إلى أن يشعل على الأقل لمن حوله ولو شمعة...!
يحيى القيسي
كاتب من الاردن