قضية انتحال الشعر الجاهلي عند طه حسين.. غياب استقراء كامل للنصوص الشعرية جعل أحكامه أقرب إلى الظن منها إلى اليقين



أما طه حسين فقد أثار ضجة كبيرة بعد صدور كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي ألب عليه العديد مـن الـدارسين، فضلا عن المحافظين، لأنهم رأوا فيه طعناً في الدين والعقيدة، وتتجلى بعض ملامح هذا الطعن في تعرضه لشخصيتي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وتأكيده أنهما لا يعدوان أن يكونا مجرد شخصيتين أسطوريتين، على الرغم من أنَّ القرآن الكريم قد أشار إليهما وتحدث عنهما يقول طه حسين: (للتوراة أنْ تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أنْ يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى).

ومن ملامح الطعن التي أخذوها عليه أيضاً، ما كان يراه طه حسين في شأن القراءات السبع، لأنه يرى أنَّ هذه القراءات ليست من الوحي في قليل ولا كثير وليس منكـرها كافـراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها.

وقد أعاد طه حسين النظر في كتابه هذا، وفصّل فيه القول في كتابه (في الأدب الجاهلي) وأكد أنَّ الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم اكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أنَّ ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي.

وقد تفاوتت آراء الدارسين بين من يرى أنَّ طه حسين قد تأثر بالمستشرق صموئيل مرجليوث وبين من يرى أنَّ عدة أشهر بين صدور بحث مرجليوث (أصول الشعر العربي) وصدور كتاب (في الشعر الجاهلي) لا تؤكد هذا التأثر لأنَّ تأليف طه حسين لهذا الكتاب قد مر بمراحل معينة لها أهميتها في الكشف عن طبيعة الصلة بين كتابه وبحث مرجليوث، فقد كان مشغولاً بتدريسه للطلاب في شكل محاضرات ظل يرددها على مسامعهم عاماً بعد عام، حتى إذا ما ثبت له صحة ما انتهى إليه من الآراء في هذا الشعر وروايته أذاعها بين الناس.

ومما لا ريب فيه إنَّ طه حسين كان يطلع بنهم على آراء المستشرقين إلى حد يعرب فيه عن ثنائه وإعجابه الشديد بهم، وفي معرض حديثه عن أحدهم يقول: إني شديد الإعجاب بالأستاذ (هوار) وبطائفة المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريح الأدب العربي.

وهذا يعني أنه يتأثر خطاهم ويستفيد من مناهجهم بعامة ومن مرجليوث بخاصة على الرغم من قصر الفترة بين نشر بحث مرجليـوث وصدور كتاب (في الشعر الجاهلي) لأنَّ هناك تطابقاً وتشابهاً بين تصوريهما، بل نستطيع القول إنَّ طه حسين فصَّل القول في النقطتين الجوهريتين اللتين تعرض لهما مرجليوث وهما:

- إن الأدب الجاهلي لا يصور حياة العرب الجاهلية الدينية والسياسية والاقتصادية ولذلك فإنه من أجل دراسة حياة العرب الجاهلية فإنه لا يرجع إلى الشعر لأنه لا يعبر عن هذه الحياة، ولذلك فهو ينكر أنْ يمثل هذا الأدب الحياة الجاهلية، ولذلك فإنه لا يسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير وإنما يسلك إليها طـريقا آخـر في نص لا سبيـل إلى الشك في صحته ..(هو) القرآن.

- إن الأدب الجاهلي لا يعبر عن لغة العرب الجاهلية واختلاف لهجاتها، ويستدل على ذلك بقراءة المعلقات ـ مثلا ـ التي هي في حقيقتها لشعـراء من قبائـل متعددة، ويرى أنها صورة للغة واحدة وليست ذات خصائص لهجية مختلفة، إذ يرى أنَّ كل شيء في هذه المطولات يدل على أنَّ اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما فنحن بين أثنين: إما أنْ نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أنْ نعترف بأنَّ هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل، وإنما حمل عليها بعد الإسلام حملا، ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى.

ولا نريد أنْ نكرر القول في الرد على هاتين النقطتين، فقد سبق أنْ تناولناهما في أثناء حديثنا عن المستشرقين بعامة، ومرجليوث بخاصة، ولكن من المفيد أن نؤكد أنَّ منهج طه حسين كان يفتقر إلى مقومين أساسيين وهما:

- فساد المقدمات التي أرسى في ضوئها تصوراته مما أثر في صحة النتائج.
ومما يدخل في هذا السياق تغيير طه حسين للنصوص التي يقتبسها من كتب القدامى لتعضيد وجهة نظره، فهو ينقل عن ابن سلام الجمحي رواية عن أبي عمرو بن العلاء مفادها (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا) وصوابه (ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا).

- افتقار منهجه إلى استقراء كامل للنصوص الشعرية مما جعل أحكامه أقرب إلى الظن منها إلى اليقين.

ويكرر طه حسين بعض آراء ابن سلام الجمحي ويضيف إليها أخريات، مما لا مبرر لإعادة الحديث عنه أو التفصيل فيه، و كأن طه حسين يتحدث عن أسباب النحل فيرجعها إلى أسباب سياسية ودينية أو يرجعها إلى الرواة أو إلى أثر القصص أو إلى الشعوبية.


0 تعليقات:

إرسال تعليق