معضلة اللغة العربية في الترجمة.. الضعف الشديد في مختلف المجالات المعرفية والاستهانة بقواعد اللغة العربية وجماليات أساليبها



منطقياً يجب على المترجم أن يكون مؤهلاً وضليعاً باللغات التي تدخل في مجال عمله...
فهل تحتاج هذه الحقيقة إلى تأكيد أو برهان؟

نعم، إنها تحتاج إلى التأكيد في مجال الترجمة العربية الراهنة.
ذلك أنه حتى أمدٍ قريب كانت الترجمة العربية تتمّ غالباً دون تأهيل.

وفي معظم الحالات كانت المشكلة أشدَّ وضوحاً حين تكون اللغة العربية لغة الهدف، وذلك خلافاً لما يحدث في الحالات الطبيعية حيث يسهل على المترجم أن يترجم من اللغة الأجنبية إلى اللغة الوطنية لأن إتقانه اللغة الأم مسألة بديهية.

وباستثناء الترجمات التي يتولاها أدباء من ذوي الكفاءة باللغتين المرسلة والمستقبلة ظلت معظم الترجمات العربية الشائعة تعاني من ضعفٍ شديد في مختلف المجالات المعرفية.

وكان قراء الترجمات إلى العربية يشتكون بوجه خاص من ضعف لغة المترجمين واستهانتهم بقواعد اللغة العربية وجماليات أساليبها، وأحياناً ينفرون من أية استعمالات لغوية مستعارة حتى لو كانت شائعة على المستوى العالمي من مثل: يلعب دوراً play a role واللاعبون الكبار Grand players، وعبارات أخرى كثيرة كثيرة كان يشمئز منها أساتذة اللغة العربية، ثم أصبحت مألوفة في هذه الأيام بعد أن أخذت اللغات بمبدأ الاستعارة اللغوية ولاسيما حين يبلغ المصطلح درجة الانتشار العالمي.

بدأت بهذه المقدمة لكي أوضح أنني لست من المتشددين في مسألة الاستعارات اللغوية على المستوى العالمي، ومن الواضح أن جميع لغات العالم اليوم تتفاعل وتتكامل من خلال هذا التفاعل.

ولكن مشكلة المترجمين في المجال العربي لها وجه آخر يتمثل في الضعف اللغوي المستشري في الترجمات بسبب غياب أي تأهيل لغوي عربي لدى المترجمين.
وأكثرهم لا يكلفون أنفسهم مشقة تحسين معرفتهم باللغة الأم.

وهنا نتذكر مقولة كان يرددها الموسيقار والمترجم الأمريكي تيد روريم مفادها أن فن الترجمة يكمن في إتقان اللغة الأم بمستوى أعمق من معرفة اللغة الأجنبية.
وبالطبع هذا الحكم ينطبق على الترجمة من وإلى الأزواج اللغوية المختلفة.

ومن المؤسف جداً أن تعليم اللغات الأجنبية في البلاد العربية أخذ يوغل يومياً في التركيز على اللغة الأجنبية قبل العربية، كما أن المدارس الأجنبية التي يشتد الإقبال عليها أخذت تدرّس اللغة العربية للأجيال الناشئة بطريقة هجينة تكاد توحي للمتعلم أن اللغة الأصلية هي الأجنبية وليست اللغة العربية سوى مكمّلة للغة الأجنبية، ربما على سبيل رفع العتب والتحايل على القوانين والتعليمات الرسمية المتعلقة بتدريس اللغة الأم.

ولكن حتى هذه القوانين، أخذت تسترخي في بلاد عربية كثيرة ولاسيما في معظم منطقة الخليج العربي.
وفي هذه الحالة لا نتوقع تحسناً في مستوى الترجمة من العربية وإليها، بل قد لا نحتاج إلى الترجمة.

وهكذا يتضح أن مستقبل الترجمة العربية قاتم جداً لأن أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات العربية ترفض أيضاً تخصيص مقررٍ لتدريس اللغة العربية، ولا ندري هل مدرّس الترجمة في هذه الأقسام مؤهل لإعطاء لغته الوطنية الاهتمام الكافي، ومعظمهم طبعاً من متخرجي الجامعات الأجنبية.

وهناك استثناءات عائدة طبعاً إلى وعي الأسرة بضرورة الاهتمام باللغة العربية في مراحل التعليم المبكرة.
وقد يقول قائل إن معظم الناشرين العرب لديهم مصحح لغوي.  ولكن كما ذكرنا سابقاً ليس كل من يحمل الإجازة في اللغة العربية يمكن أن يتصدى لمسألة المراجعة.

ولذلك نجد كثيرين –وكاتب هذه السطور منهم- حين يبعث مخطوطاً ينبه إلى ضرورة عدم عرضها على المصحح اللغوي لأن تجاربنا تدل على أن المصحح اللغوي يكون في العادة مدرساً للغة العربية (ويا ليتهم يتقنونها بعد أن تدنى مستوى التعليم)، ومعظمهم لا يطالعون سوى الكتب المقررة التي تكون عادة متخلفة عن المصطلحات والاستعمالات اللغوية المستجدة لأن اللغات المصاحبة للاكتشافات العلمية والعلاقات الدولية متجددة باستمرار، وفي كثير من الأحيان يكون موضوع المخطوط المطروح للطباعة غريباً عن ثقافة المصحح فتؤدي تدخلاته إلى تشويه الكتاب المعدّ للطباعة.

وبالمناسبة نشير إلى أن دور النشر المحترمة في العالم لا تسمح بنشر أي كتاب إلا بعد مراجعته على يد متخصص قدير ليس في اللغة فقط بل في المجال المعرفي المقصود في المشروع المترجم.

يضاف إلى كل ما تقدم أن لغات العالم المعاصر تحتاج دائماً إلى تغذية تناسب التطورات العلمية والتجارية والعلاقات الدولية ذات المفردات المتغيرة باستمرار.

ولا يجوز للمترجم ولا للمصحح اللغوي الإغضاء عن هذه التغيرات التي تطالعنا يومياً.
ثم إن الدلالات اللغوية وإيحاءاتها تخضع للتطورات الناجمة عن حركة العولمة إلى جانب التطورات الطبيعية التي تحكم لغة المجتمع الذي تتطور احتياجاته ومفاهيمه تحت وطأة التطورات الطبيعية للعلاقات الاجتماعية.

وهنا يحسن أن نتذكر الحكاية الطريفة التي حدثت للرئيس الأمريكي جيمي كارتر.
إذ حين أتيحت له زيارة بولونيا في أواخر ولايته اصطحب معه المترجم البولوني العامل في البيت الأبيض، وكان المترجم المسنّ من البولونيين الذين هربوا مبكراً من الحقبة الشيوعية.

وفي خطاب للرئيس كارتر على جمع حاشد في العاصمة البولونية لاحظ الرئيس ومرافقوه أن الجمهور كان يصفق ويضحك مع أن الرئيس كارتر هو من أكثر الناس جدية ووقاراً.

وبعد الانتهاء من الخطبة حقق المسؤولون في الموضوع وتبيّن لهم أن المترجم البولوني الذي غاب عن بولونيا أربعين سنة لم يكن على اتصال بتطورات لغة وطنه، فكانت عباراته مضحكة.

وعند عودة الرئيس أنهى عمل المترجم فوراً وعزله، ولكن الصحافة الأمريكية لأسباب سياسية وربما إنسانية، احتجت على عملية طرده إلى درجة أن الرئيس اضطر إلى إعادته إلى وظيفته (ربما ليدرس البولونية من جديد!!).

وتقودنا حكاية كارتر إلى مسألة أخرى شديدة الأهمية وهي الحساسية اللغوية التي بغيرها لا تنجح الترجمات ذات المستوى الفني الرفيع.

ويظهر ذلك جلياً في ترجمة الشعر وهناك مناقشات عويصة وطريفة حول هذا الموضوع تبرهن على الصحة النسبية للمقولة الإيطالية الدارجة: المترجم خائن.

ثم إن الدراسات الأنثوية Feminine Studies فتحت النار مجدداً بقيادة سوزان باسنت التي رفعت من شأن الترجمة ودعت إلى اعتبارها مساقاً علمياً بديلاً للأدب المقارن.

ومهما يكن من أمر ننادي مع ميخائيل نعيمة: "فلنترجم"؛ ولكن نضيف إليها الدعاء: ارحموا الترجمة وارحموا اللغة العربية وامنحوها من الاهتمام بعض ما تمنحونه للإنكليزية والفرنسية وإلا فلِمَ الترجمة إلى العربية؟  ذلك الشاب العربي الذي يتقن الانكليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية لا يحتاج إلى اللغة العربية لقراءة الترجمات من اللغات الأخرى.