الشاعر حسّان بن ثابت في الإسلام.. شاعر الرسول (ص) وَقَفَ شِعرَهُ على المنافحة عنه ومُصاولَةِ أعدائه وأعداء المسلمين



لم يمكث حسّان طويلا عند المناذرة فعاد إلى الغساسنة و أدركه الإسلام وهو في المدينة بعد هجرة الرسول(ص) إليها، ولم يذكر مؤرخو السيرة النبوية تاريخ إسلامه، كما أن تراجم الصحابة لم تُشِرْ إلى حضوره بيعتي (العقبة الأولى والثانية).

غير أن المُتَتَبِّعَ لأحداث التاريخ  الإسلامي، وبخاصة هجرة الرسول (ص) إلى المدينة و اعتناق الأنصار للإسلام لا يغيب عنه أن إسلام حسّان كان مع السابقين من الخزرج الذين سمعوا من قومهم عقب عودتهم من بيعة العقبة الأولى.

وكان مـن نتائج الدين الجديد، الذي دخل ربوع المدينة أن أشاع القيم الإنسانية الخالدة، فآخى بين المهاجرين و الأنصار، وآخى بين الأوس و الخزرج، فجعلهم فصيلا واحدا متآلفا بعد أن كانوا في الجاهلية في خصومة متصلة، و حروب دائمة لا ينطفئ أَوَارُهَا.

وقد أغاظت هذه الوحدة الجديدة بين هذين الحيين من يثرب جيرانهم اليهود الذي كانوا يكيدون لهم، لِيفرِّقوا صفوفهم ويزرعوا بينهم بذور الفتنة والفرقة، وذلك نتيجة  إحساس اليهود بالخطر المحدق جرَّاء وحدة الأنصار، وانصهارهم تحت لواء الدين الجديد.

وجاء الإسلام ليحل الأمة محـل القبيلة، فيوسع أفق الإنسان و يأخذ بيده ليتجاوز تطلعه ونظرته محيطه الضيق المتمثِّل في عشيرته وقبيلته، ويدعوه إلى الأخوة على أساس التقوى, وينبذ الفرقة و التشرذم, فأصبح الأوس والخزرج أنصارا للدعوة الإسلامية, وإخوانا فيما بينهم يتآزرون ويتناصرون, استجابة لقوله (تعالى): (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جمَيِعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا, وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللهَِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعـْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْـــوَانًا...) (1).

وكان ظهور الإسلام وانتشاره في المدينة بداية عهد جديد في حياة شاعرنا, فقد انْتَدَبَهُ الرسول (ص) ليدافع عن دعوته, واختاره بأن يكون شاعره المبجَّل , يذود عن الإسلام بلسانه الصَّارم, وَيَرُدُّ على المشركين أكاذيبهم وهجاءهم.

وكان حسّان جديرا بالمَهَمة التي تولاها, واستحقَّ - دون إخوانه الآخرين أمثال : كعب بن مالك و قيس بن الخطيم و عبد الله بن رواحة- لقب شاعر الرسول (ص), فتصدَّى لشعراء المشركين الذين كانوا يقذَعُون الرسول (ص) بهجائهم أمثال: عبد الله بن الزبعرى و أبي سفيــان ابن الحارث بن عبد المطلب وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص قبل إسلامهم.

وقد استأذن حسَّان بن ثابت الرسول (ص) في هجاء المشركين والرد عليهم فأذن له الرسول (ص) بذلك فقال حسَّان: (... وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَّنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ، فقال رسول الله (ص): (لاَ تَعْجَلْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَأَنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يُلخصَ لَكَ نَسَبِي (فَأَتَاهُ حَسَّانُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ لَخَصَ لِي نَسَبَكَ. وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكّ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ) (2).

وقد يسأل سائل ,وحق له أن يسأل عن سر اختيار الرسول (ص) حسّان دون سواه ليكون شاعره ولسانه, و في الأنصار أمثال : كعب بن مالك و عبد الله بن رواحة, ومن المُحَقَّقِ أن اختيار الرسول (ص) لم يكن عفوا و اعتباطا ,ولم تَخِبْ فَراسة النبي (ص) في شاعره, فقد استطاع حسّان أن يبلغ من نفوس مشركي قريش ومن شعرائهم ما لم يبلغه سواه من شعراء المسلمين.

وكان النبي (ص) على كراهيته لشعر الهجاء, وما يثير في النفوس من سخائهم و حزازات مضطرا في ذلك إلى سلوك هذا السبيل.

ومنذ أن أصبح حسّان شاعر الرسول (ص) وَقَفَ شِعرَهُ على المنافحة عنه , ومُصاولَةِ أعدائه وأعداء المسلمين, وذِكْرِ غزوات الرسول ووقائعه, ومفاخرةِ شعراء الوفود و رثاء الشهداء, فكان شعره في تلك الحقبة سجِلاًّ تاريخيا لجميع الأحداث التي توالت على المسلمين, وغلب منذ ذلك الحين الطابع الإسلامي على جُلِّ أغراضه, و قد نال حسّان الحظوة و المكانة المرموقة والإعجاب من المسلمين, (ولَعَلَّ هذه المكانة كانت سببا في كثرة ما أُضِيف إليه من الشعر) (1).

وبما أن شاعرنا قد عاش الجاهلية والإسلام, فهو شاعر مُخَضْرَمٌ أي أدرك الجاهلية والإسلام. جاء في كتاب (العمدة) "لابن رشيق القيرواني" في باب الشعر والشعراء: (طبقات الشعراء أربع: جاهلي قديم ومخضرم (وهو الذي أدرك الجاهلية و الإسلام) و إسلامي ومُحْدَث)(2).

(قال "أبو الحسن الأخفش": يقال: ماء مخضرم إذا تناهى في الكثرة و السعة فمنه سمي الرجل الذي شهد الجاهلية و الإسلام مخضرما, كأنه استوفى الأمرين, ويقال: أذن مخضرمة: إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام. أما "علي بن الحسين" فقد حكى: شاعر محضرم – بحاء غير معجمة- مأخوذة من الحضرمة ,وهي الخلط ,لأنه خلط الجاهلية بالإسلام)(3).

و الخضرمة لا تكون بين الجاهلية والإسلام ولكنها تكون بين الفترتين مطلقا, فيقال: مخضرمو الدولتين: الأموية و العباسية إلخ...
ولبيان منزلة حسّان بن ثابت الأدبية عند مؤرخي الأدب نذكر ما ذكره "جرجي زيدان" في مقدمته (لتاريخ آداب العربية) وفي معرض حديثه عن طبقات الشعراء في الجاهلية, حيث صَنَّفَ شاعرنا (حسّان بن ثابت) ضمن أصحاب المُّذَهَّبَات مع: عبد الله بن رواحة ومالك بن العجلان وقيس بن الخطيم و أحيحة بن الجلاح وأبي قيس بن الأسلت و عمرو بن امرئ القيس, بعدما ذكر أصحاب المعلقات وأصحاب المجمهرات وأصحاب المُنتقيات.كما عدّه من شعراء الطبقة الثانية مع الخنساء والحطيئة و الشنفرى وتأبط شرا والنابغة الجدعي وعبد الله بن رواحة وغيرهم...(1)

العقبة: موضع بين منى ومكة, ومنها ترمى جمرة العقبة وفيها لقي الرسول(ص) رهطا من الخزرج وكان ذلك في السنة الحادية عشر من البعثة. وقد عرض الرسول (ص) دعوته على هؤلاء النفر, ولما كان العام المقبل وافي الموسم من الأنصار إثيى عشرة رجلا فلقوه بالعقبة. وهي العقبة الأولى - ابن هشام - السيرة النبوية - طبع دار الجيل - بيروت- د.ت- ص 56-72.

البيعة الثانية: بعد أن انصرف الأنصار إلى المدينة بعث الرسول (ص) مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين, وذلك بعد مرور سنة على البيعة الأولى, وفيها التقى إثنا عشر نقيبا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس.
 - سورة: آل عمران, الآية: 103(1).
(2)- رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها
(1)- د. إحسّان النص: حسّان بن ثابت حياته وشعره - ص 102.
(2)- ابن رشيق : العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده- 1/102.
(3) - المرجع السابق نفسه : 1/102.
(1)- جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية -دار مكتبة الحياة- بيروت- ط2- 1978- ص 1/73-75 و كذا 1/148-150- بتصرف.


0 تعليقات:

إرسال تعليق