ملامح من شخصية الشاعر حسان بن ثابت.. قعود عن المشاركة في الغزوات وحروب المسلمين بسبب عاهته الجسدية



من صفات حسّان الخِلْقِيَة التي ذكرها مؤرخو سيرته: أنه كانت له ناصية يسدلها  بين عينيه، وكان  يُخَضِّبُ شاربه وعَنْفَقَتَهُ بالحنَّاء، وحين سأله ابنه عبد الرحمن لم يفعل هذا؟ أجابه: لأكون كأني أسد والِغ في دم.

ومن عاهاته الجسدية أنه كان مقطوع الأكحل* (وكانت هذه العاهة المستديمة من أسباب قعوده عن المدافعة بالسيف، فجعلوا منه مثلا في الجُبن وانعدام الشجاعة. حتى قيل: أجبن من حسّان) (1) على حد تعبير  الأستـاذ خليل شرف الدين.

وقد وردت كثير من الروايات حول اتصاف حسّان بهذه الصفة، واستدلوا على ذلك بخبر مَرْوي عن صَفِيَّة عمة الرسول (ص).

وقد أورد "ابن حجر" هذه الرواية عن ابن اسحاق في المغازي، قال: حدثني يحي بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: (كانت صفية بنت عبد المطلب في حِصْن حسّان بن ثابت قالت: وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمرّ بنا رجل يهودي فجعل يطوف بالحصن، فقالت له صفية: إن هذا اليهودي لا آمَنُهُ أَن يدل على عوراتنا، فانزِل إليه واقتُلْه، فقال: يغفِر الله لك يا ابنة عبد المطلب، لقد عرفتِ ما أنا بصاحب هـذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، أخذت عمودا ونزلت من الحصن حتى قتلت اليهودي. فقالت: يا حسّان انزل فاسْلِبْه، فقال: ما لي بسلبه من حاجة) (2).

ومن المحدَثين الذين أسهبوا في الدفاع عن حسّان بن ثابت، وساقوا أدلة وبراهين كثيرة، وحاولوا تبرير صفة الجبن في الشاعر في ضوء علم النفس الحديث الأستاذ "خليل شرف الدين" الذي يقول: (وجبن حسّان كان -كما سنرى - فِرْيَةً لا أساس لها من الصحة ، من الظلم  أن يستمر حيث  الجبن  صفة لازمة  من لوازم  حسّان  يأخذها  المتأخِّر عن المتقدِّم على أنها  حقيقة لا مِراء فيها  ولا اصطناع...)(3).
كما يرى: أن ما رُوِي عنه لا يعدو  أن يكون  تلفيقا من الرواة، وافتراء عليه  منهم، ويوجز  الأستاذ أهم أسباب الشك في صحة التهمة ويُبيِّنها كالآتي:

1- قعود حسّان عن المشاركة في الغزوات وحروب المسلمين، ليس بسبب الجبن لأن الإسلام لا يجيز الجبن في الرجال، ولا يعترف به، ولكنَّه يستثني العُميان و العُرج والمرضى .
 لقوله (تعالى): (لَيْسَ عَلَى الاَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ نُعَذِّبْهُ عَذَابًا اَلِيمًا) (4).

2- كان لحسّان خصوم ألدَّاءُ في الجاهلية و الإسلام يهجونه ويهجوهم بأقذع الصفات لكنهم لم يُعيِّرُوه قطُّ بجبنه وتقاعسه.

3- كما يرى أن رواية "صفية" عمة الرسول (ص) وقتلها ذلك اليهودي، وامتناع حسّان عن ذلك لجبنه، أنها رواية ضعيفة ومقطوعة  السَّند ومشكوك في صحَّتها، ويورد  في ذلك  تعليقا "للسهيلي" في كتابه: (الروض الأنف) الذي يرى (أن الحديث  منقطع  الإسناد)(5) وقد تأكد لي ذلك بعد اطلاعي على سلسلة الأحاديث المروية في هذا الشأن فلم أعثر على هذه الرواية إطلاقا.

ويكفي حسّان بن ثابت شرفا أنَّ النبي (ص) كان يأتمنه على نسائه في غيابه، فعن عبد الله بن الزبيرقال: (لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الإطم الذي فيه نساء  النبي (ص) إطم* حسّان)(6)

وأَكْتَفِي بما سُقْت من شواهدَ على أن حسّان بن ثابت بريء من هذه التهمة التي لازمته، وأشير إلى جوانب مضيئة في سيرته أغفلها خصومه وتناسُوها، وأبرزوا هذه الصِّفة دون سواها، عن قصد للنَّيْل من شخصية هذا الشاعر الفذِّ. ومهما قيل عن جبن حسّان، فإن للرجل صفاتٍ وشمائلَ بديلـة، شأنـه شأن كلِّ الرجال، فالكمـال لله (تعالى) وقد كان حسّان كريم العنصر طيب الأُرومة، نبيل النفس، وفيا، جوادا، سريع الخاطر. ويكفي حسّان بن ثابت شرفا، ما روى أبو داود عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن هشام بن عروة عن عائشـة -رضي الله عنها-، (أن النبي (ص) كان يضع لحسّان المنبر في المسجد يقوم عليه يهجو الذين كانوا يهجون النبي(ص))(7).

ورَوَى سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وآخرون، قال أبو عبيدة: (فضل حسّان بن ثابت  على الشعراء  بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي(ص) في أيام النبوة، وشاعر اليَمَن كلِّها في الإسلام)(8).

*- الأكحل: عرق وسط الذراع
(1)- خليل شرف الدين: الموسوعة الأدبية الميسرة- دار ومكتبة الهلال -بيروت- ص19
(2)- ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة-  2/8
(3)- خليل شرف الدين: الموسوعة الأدبية الميسرة - ص37
(4)- سورة: الفتح، الآية :17
(5)- المرجع السابق نفسه- ص 38- 40
* الإطم: الحصن.
(6)- رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير.
(7)-  ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 1/8
(8)- المرجع السابق نفسه: 1/8


المواضيع الأكثر قراءة