الحبيب بورقيبة والتعبير عن رقيّ النخبة الثقافية التونسية الحاملة لتراث النهضة والإصلاح والمغتنية بمكاسب التأليف السلس بين الثقافتين العربية والفرنسية



نختم سلسلة التعليقات عن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته، بالتطرق لمقوم هام من مقومات شخصيته: مقوم نادر، بل شبه منعدم، ليس لدى الحكام العاديين فقط بل حتى لدى الزعماء التاريخيين شرقا وغربا سواء في الزمن الغابر أم المعاصر. مقوم نادر هو الذي حدا بنا، قبل حوالي عامين ونصف العام، إلى القول هنا إن اللبنانيين، مثلا، قد أهدروا فرصة التوافق على إسناد رئاسة الدولة لرجل من أهل الفكر والثقافة، وبذلك فقد 'أضاعوا ميشال إده وأي فتى أضاعوا'.

لقد كان بورقيبة نموذجا ممتازا عن رقيّ النخبة الثقافية التونسية الحاملة لتراث النهضة والإصلاح والمغتنية بمكاسب التأليف السلس بين الثقافتين العربية والفرنسية. لم تكن دراسته في السوربون وإجازته في الحقوق والعلوم السياسية تدشينا لسيرة مهنية فردية (حيث لم يكد يمارس مهنة المحاماة) بل كانت مفتاحا لمسار نضالي متماه مع مصير البلاد، حيث انهمك انهماكا جارفا منذ عودته إلى تونس أواخر العشرينيات في النشاط في الصحف الوطنية ذات اللسان الفرنسي، مثل 'صوت التونسي' و'الراية التونسية'، قبل أن يتولى رئاسة تحرير جريدة 'العمل التونسي' التي أنشأها مع ثلة من رفاقه.

لكن بورقيبة اكتشف، منتصف الثلاثينيات، أن الكتابة في الصحافة (على أهميتها) لا تحقق ما يحققه 'الاتصال المباشر' بالشعب. فدأب منذئذ على ذرع البلاد بلوغا إلى أنأى القرى. كان خطيبا ألمعيا يلقي جميع خطبه، وهي بالآلاف، ارتجالا على طريقة النجوم من الأساتذة الجامعيين الذين تكتظ المدرجات رغبة في سماع محاضراتهم الآسرة (وليس بغريب أن يكون أفضل الكتّاب منزلة في قلب بورقيبة هو الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي كانت تتزاحم الجموع على محاضراته من داخل الجامعة وخارجها). ومن مزاياه أنه كان يخاطب الشعب بما يفهم، أي بالعامية (لم يكن يستخدم الفصحى إلا في المناسبات)، لكن مع حرص ثابت على رقي المضمون، حيث كان كثير الاستشهاد بالقرآن والحديث ووقائع التاريخ، كما كان يستشهد بمونتسكيو، وروسو وفولتير. بل إن حتى البسطاء من التونسيين صاروا يعرفون قولة أوغست كونت المثبتة تحت تمثاله في ساحة السوربون، 'الحياة من أجل الآخرين'، من كثرة ما كان بورقيبة يرددها ويؤكد على أثرها الإلهامي في توجيهه إلى نهج الكفاح الوطني (ولا عجب أيضا أنه كان يعدّ كونت، مع ديكارت وكلود برنار ونابليون، أعظم شخصيات التاريخ).

كان كثير الارتياد للمسرح سواء في تونس أم في باريس. ورغم عمق ثقافته الفرنسية، لم يكن يزعم أنه يتذوق الموسيقى الغربية. بل كان مولعا بالموسيقى العربية الأصيلة. وأذكر أني سمعته يوما يمتدح موهبة أم كلثوم. كما كان يحب الشعر العربي ويطرب لسماعه. وقد بلغ من إعجابه بالمتنبي أنه فكر في أن يأمر بأن ينقش على مدخل مقبرة آل بورقيبة بيت أبي الطيب: 'قد كنت تدرأ كل خطب نازل، حتى أتى الخطب الذي لا يدرأ'. وكان يقدّر طه حسين، حيث بكّر باستضافته في تونس منذ عام 1957 (بعد حوالي عام من الاستقلال). كان، بشهادة كل من عرفوه، كثير القراءة في السياسة والتاريخ والفكر (وقد سئل مرة فتبين أن الكتاب الذي كان يطالعه آنذاك هو 'حياة يسوع' لأرنست رينان). وعندما وهنت صحته صار يستمع إلى من يقرأ له كل يوم مثلما كان يفعل طه حسين. بل إن الباحث الأمريكي تشارلز اف. غالغر كتب أواخر الخمسينيات أن الحديث الإذاعي الذي كان يخاطب به بورقيبة التونسيين، كل ليلة خميس، في مختلف الشؤون وخاصة في أحبها إليه، أي السياسة الدولية، ربما يكون مستوحى من 'حديث الأربعاء' الشهير لطه حسين.

كان بورقيبة معجبا بالشاعر الفرنسي ألفريد دو فينيي (وخاصة بقصيدته 'موت الذئب' التي كان يحفظها عن ظهر قلب لما فيها من تمجيد للإقبال على المصير بكل شجاعة، ولتحمّل الألم 'دون بكاء أو تأوه'). كما كان معجبا بشاعر فرنسا وأديبها الفذ فيكتور هيغو. حتى أنه لما اعتقل أول مرة عام 1938 ومثل أمام القاضي الفرنسي مقيدا بالأصفاد، وقف شامخا عزيزا ثم أنشد متمثلا من قصيدة 'فصل الخطاب' (التي كتبها فكتور هيغو من منفاه عام 1852) بأبيات ماضية كالنصل تعلن في إباء وشمم أن على الحر الكريم واجب الثبات على الحق، أيّا كان عدد أنصار الحق: ألفا كاملة، أم مجرد مائة. وإذا ظل من القابضين على جمر الحق عشرة فقط 'فسأكون عاشرهم'. أما إذا لم يبق منهم إلا واحد... 'فاعلم أنني هو'.

مالك التريكي


0 تعليقات:

إرسال تعليق