دور العرف الدستوري في البلاد ذات الدساتير المدونة.. الحياة السياسية الواقعية للدولة تُظهر ما في الدستور من ثغرات وتكشف عما يشوبه من عيوب، وتملي على الهيئات الحاكمة ضرورة سد الثغرات وإصلاح العيوب

إنَّ الدول التي لا يكون لها دستور مكتوب أو مدوَّن (وهي التي تسمى دول الدساتير العرفية، ومثالها التقليدي انجلترا) تعتمد في تحديد القواعد المتعلقة بالتنظيم السياسي للدولة على العادات والأعراف والتقاليد والسوابق التاريخية التي اكتسبت مع مرور الزمن القوة الدستورية الملزمة، وذلك نتيجةً لاستمرار سير السلطات العامة على هداها في مباشرة وظائفها، ومن ثمَّ لا نكون في حاجة إلى بحث دور العرف باعتباره مصدراً للقواعد الدستورية في مثل هذه الدول، لأن هذا الدور أمرٌ مسلَّم به، ولم ينكره أحدٌ كائناً مَن كان.

أما حيث يكون للدولة دستور مكتوب أو مدوَّن، فإن أهمية العرف تتضاءل إذا ما قورنت بالدور الذي يلعبه العرف في البلاد ذات الدساتير غير المدوَّنة، غير أن ذلك لا يعني بتاتاً غياب دور وأهمية العرف في مثل هذه الدول ذات الدساتير المدوَّنة.

وتعليل ذلك أن الدستور المكتوب مهما بلغت درجة العناية بصياغته، ومهما بُذل من جهدٍ في إعداده، فلا يمكن عند التطبيق أن يكون شاملاً لجميع القواعد المتعلقة بنظام الحكم وسير السلطات العامة في الدولة، ولابد أن ينكشف في العمل قصور الدستور عن استيعاب الحلول الملائمة لجميع المشاكل، وأن تظهر مشاكل جديدة لم تكن في ذهن واضعي الدستور.

فالحياة السياسية الواقعية للدولة تُظهر ما في الدستور من ثغرات وتكشف عما يشوبه من عيوب، وتملي على الهيئات الحاكمة ضرورة سد الثغرات وإصلاح العيوب، وإيجاد الحلول الملائمة لما يتولّد من مشاكل لم تكن متوقعة وقت وضع الدستور.

وبذلك تتأكّد ضرورة العرف، وأن وجود دستور مكتوب في دولة من الدول لا يحول دون تولّد قواعد جديدة لا تستند إلى النصوص المدوَّنة ولكنها تنشأ من العادات والتقاليد.

ولاشك في أن ذلك يبدو أكثر وضوحاً، ويحتل العرف أهمية أكبر، كلما كان الدستور المكتوب مقتضباً في نصوصه، وموجزاً في أحكامه، وبقدر طول عمر الدستور، تظهر مشاكل جديدة لا تجد حلاً لها في أحكام الدستور، فيتضخم دور العرف تبعاً لذلك.

وهكذا، يمكن القول بأن العرف لا يعدّ مصدراً من مصادر النظام الدستوري في بلاد الدساتير العرفية فحسب، بل وفي بلاد الدساتير المكتوبة أيضاً.

فالنظام الدستوري لا يستمد مصادره من القواعد المكتوبة فقط، بل يستمدها أيضاً من القواعد العرفية، وهذه القواعد الأخيرة قد يكون لها إما دوراً مفسِّراً لما قد يشوب نصوص الدستور من غموض، أو مكمِّلاً للنقص الذي اعترى بعض نصوصه، أو حتى معدِّلاً  في نظر البعض  لبعض الأحكام والنصوص الواردة في الدستور.

وبناء عليه، يقسِّم رجال الفقه الدستوري "العرف الدستوري" إلى ثلاثة أنواع رئيسية هي: العرف المفسِّر، والعرف المكمِّل، والعرف المعدِّل.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال