تقدير أسلوب الاستفتاء التأسيسي.. السبيل إلى مزيد من الحكم المطلق أو إلى مزيد من الانتقاص من الحريات العامة باسم الديمقراطية والإرادة الشعبية المزعومة

لا شك أن الاستفتاء الدستوري التأسيسي يعد أكثر الوسائل ديمقراطيةً في وضع الدساتير، فهو أصدق الأساليب تعبيراً عن الرأي الحقيقي للشعب، وبالتالي يفضل على أسلوب الجمعية التأسيسية، لأن النواب في هذه الحالة قد يحلون إرادتهم محل إرادة الجماهير الشعبية، وقد لا يحسنون التعبير عن الإرادة الحقيقية للشعب.

غير أننا نعتقد أن الاستفتاء الذي يرى فيه بعض الساسة ورجال الفقه الدستوري إنْ صدقاً أو نفاقاً  أنه قمَّّة الديمقراطية، هو في حقيقة الأمر سلاح خطير ذو حدين.

ففي الدول المتقدمة التي تمارَس فيها الديمقراطية ممارسةً جادّة، وتتعدد فيها الأحزاب السياسية ذات الجذور الشعبية، وتتمتع فيها الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى بالقدر الكافي من الحرية، يعتبر الرجوع إلى الشعب لاستفتائه في أمر من الأمور تأكيداً لمفهوم الديمقراطية وإعمالاً لها.

أما في الدول المتخلفة، أو التي مازالت تفتقد الوعي السياسي لسببٍ أو لآخر كانتشار الأمية فيها، أو لعدم تمرُّسها على الحكم الديمقراطي، أو لحرمانها منه طويلاً، وحيث تحتكر الدولة فيها الصحافة وسائر وسائل الإعلام وتملك توجيهها كيفما تشاء، فإن الالتجاء إلى الاستفتاء في مثل هذه الدول كثيراً ما يكون هو السبيل إلى مزيد من الحكم المطلق أو إلى مزيد من الانتقاص من الحريات العامة باسم الديمقراطية والإرادة الشعبية المزعومة!!

والواقع أن غرابة نتائج الاستفتاءات التي تجري في دول العالم الثالث عموماً، تثير التساؤل عن جدوى هذه الاستفتاءات، وتدعو إلى الدهشة إذ كانت تربو في معظم الأحيان على نسبة 95 %.

ومن هنا، فإننا نعتقد أن وسيلة الاستفتاء الشعبي في هذه الدول لا تعتبر وسيلة معبِّرة بصدق عن رأي الشعب؛ فتاريخ الاستفتاء في هذه الدول يؤكّد أنه كان يطبَّق كمظهرٍ بلا جوهر لإضفاء نوعٍ من الشرعية الصوريَّة على موضوعه.

ولهذا يطلق بعض الفقهاء الفرنسيين على هذا النوع من الاستفتاءات اصطلاح Le Plébiscite Constituent أي «الاستفتاء السياسي» تمييزاً له عن «الاستفتاء التأسيسي» Le Referendum Constituent.

فالاستفتاء السياسي إذن يستخدم لاستفتاء الشعب في مسألة تتصل بوضع الدستور بصورة تجعل من المحتَّم على الشعب أن يُقرّ ما يُسْتَفتى فيه، فالسيادة الشعبية هنا لا تلعب دوراً إيجابياً، بل سلبياً، وهي لا تقرّر شيئاً، بل تقبل ما يُعرض عليها في ظروفٍ كثيراً ما يتعذَّر عليها فيها أن تتصرف على نحوٍ آخر، ولهذا يطلق عليه البعض اسم «التصديق الشعبي».

وعلى ذلك، فإن المعيار الحاسم للقول بأن دستوراً ما قد وضِعَ بأسلوب الاستفتاء الدستوري أو التأسيسي وليس بأسلوب التصديق الشعبي أو الاستفتاء السياسي، لا يعتمد على التسمية التي تعطيها له السلطة الحاكمة، إذ قد تعمد هذه السلطة إلى تجنّب استخدام اصطلاح الاستفتاء السياسي رغم انطباقه على مضمون الاستفتاء المراد اللجوء إليه.

كما أنه لا يعتمد أيضاً على الجهة أو الهيئة التي تولت وضع مشروع الدستور المطروح على التصويت الشعبي (هل هي جمعية تأسيسية منتخبة، أو لجنة حكومية، أو حتى الحاكم نفسه)، وإنما يعتمد بشكل أساسي على الظروف الواقعية التي جرت فيها عملية الاستفتاء.

فنقول إن هناك استفتاء دستوري أو تأسيسي إذا كانت إرادة الشعب حرة في الموافقة أو عدم الموافقة على مشروع الدستور المعروض عليه، ونكون أمام استفتاء سياسي أو تصديق شعبي إذا كانت إرادة الشعب مسلوبةً أو غير حرةٍ، بحيث يوضع الدستور في ظروف تُحتّم على الشعب الموافقة شبه التلقائية.

ولهذا، فإن الفقه الدستوري في غالبيته متفقٌ على أن الاستفتاء حتى يكون  بحقّ  الأسلوب الديمقراطي الأمثل لوضع الدساتير، فإنه من الضروري أن تتوافر له المقومات أو الضمانات التي تحقق له هذه الأفضلية على غيره من الأساليب المتبعة في وضع وإنشاء الدساتير، وهذه المقومات أو تلك الضمانات تتمثل في الآتي:

1- أن يجري الاستفتاء في مجتمع سياسي يكون فيه الأفراد على درجة مناسبة من الوعي والنضج السياسي تسمح لهم بتفهم شؤونهم العامة، والاشتراك الجدي في مباشرة السلطة التأسيسية، والمساهمة الفعَّالة والإيجابية في وضع قواعد نظام الحكم في الدولة.

فليس من المقبول استفتاء شعب أُمّي لا يعرف حتى القراءة والكتابة وهي مفاتيح العلم المعتادة بين الناس، إذ إن الاستفتاء هو طلب الفتوى، ولا يتصوَّر أن تُطلَب الفتوى من جاهلٍ لا علم له.

2- يجب أن يكون الاستفتاء مسبوقاً بمناقشات كافية لكل وجهات النظر من مختلف فئات الشعب وقطاعاته، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن لا يُطلب من الشعب المشاركة في عملية الاستفتاء إلا بعد انقضاء فترة كافية على إعلان مشروع الدستور المقترح على الرأي العام بواسطة أجهزة الإعلام المختلفة (كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والانترنت... الخ)، حتى تتاح الفرصة الكافية أمام المواطنين للإطلاع على مشروع الدستور المقترح للوقوف على ما ينطوي عليه من المزايا والعيوب.

3- يجب أن يُجرى الاستفتاء في جوً من الديمقراطية السليمة، بحيث يتمتع فيه المواطنون بالقدر الكافي من الحريات العامة، خاصةً حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وحرية الاجتماع.

وهذا يستلزم بطبيعة الحال إتاحة الفرصة أمام الجميع أفراداً وأحزاباً من الموالاة أو المعارضة للتعبير عن آرائهم بحرية تامة، بعيداً عن أجواء الخوف والقمع. ولذلك لا يجوز استبعاد الاتجاهات المعارضة أو اضطهادها أو حرمانها من حرية التعبير عن آرائها.

ولكي يستطيع الفرد أن يُكَوِّن رأياً مستنيراً يتعيَّن أن تكون وسائل الإعلام حرةً ومستقلة ومحايدة، حتى يستطيع أن يزن الأمور بناءً على حقائق، أمَّا وضع رقابة على وسائل الإعلام أو جعلها تكتسي طابع الإرشاد والتوجيه والإقناع برأي واحد دون سواه، فمن شأنه أن يحول دون الارتقاء بمستوى تفكير المواطنين، وتنمية الوعي السياسي لديهم، وزيادة قدرتهم على تحمّل المسؤولية، والاهتمام بالشؤون العامة.

4- وأخيراً، يجب لضمان نزاهة عملية الاستفتاء ذاتها، من حيث استعمال وسائل الدعاية والإعلام، وحرية وسرية التصويت، وأمانة فرز وحساب الأصوات المعبَّر عنها في الاستفتاء لمعرفة نتيجته النهائية، أن يجري الاستفتاء تحت إشراف ورقابة الهيئات القضائية في البلاد، أو على الأقل تحت إشراف جهات أو هيئات أخرى  محلية أو غير محلية، تكون مستقلة ومحايدة.
فمِمَّا لا شك فيه أن تزييف نتائج الاستفتاء يُفقده كلَّ قيمةٍ حقيقية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال