التأمين الإلزامي على العربات في تونس: تحديات التحديد القضائي للمسؤولية وتقدير التعويض وأثرها على التوازن المالي لشركات التأمين

التأمين الإلزامي على العربات البرية: تحديات تحديد المسؤولية وتقدير التعويض في القانون التونسي

يُعدّ التأمين الإلزامي على العربات البرية ذات المحرك ركيزة أساسية في الأنظمة القانونية الحديثة لحماية الغير من الأضرار التي قد تلحق بهم جراء حوادث المرور. فالمشرع التونسي، شأنه شأن العديد من التشريعات حول العالم، أرسى هذا القانون بهدف إلزام كل شخص طبيعي أو معنوي قد تقع على عاتقه المسؤولية المدنية عن أضرار جسدية أو مادية تلحق بالغير، أن يكون محاطًا بتغطية تأمينية تضمن هذه المسؤولية. هذا الإلزام يهدف بالدرجة الأولى إلى توفير شبكة أمان للمتضررين، وضمان حصولهم على تعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، بغض النظر عن الملاءة المالية للمتسبب في الضرر.


الفجوات التشريعية وتأثيرها على عمل القضاء والتوازن المالي لشركات التأمين

على الرغم من أهمية هذا التشريع، يشير النص إلى وجود فجوات هامة لم يتطرق إليها القانون المنظم للتأمين الإلزامي، مما خلق تحديات كبيرة في التطبيق العملي. أبرز هذه الفجوات تتمثل في:

  1. كيفية تحديد المسؤولية المدنية للمؤمن له: لم يضع القانون آليات واضحة ومعايير محددة لتحديد مدى مسؤولية المتسبب في الحادث (المؤمن له).
  2. كيفية تقدير التعويض عن الأضرار المادية والجسدية: فاقم هذه المشكلة نص الفصل الرابع من الأمر التطبيقي الذي أوجب أن يكون التأمين "بدون تحديد المقدار"، مما يعني عدم وجود سقف للتعويضات.

هذه الثغرات أدت إلى تفويض اجتهاد مطلق لرجال القضاء في كل ما يتعلق بتحديد المسؤولية وتقدير التعويضات. هذا التفويض، وإن كان يعكس ثقة في القضاء، إلا أنه كان بدون رقابة فعالة من محكمة التعقيب، طالما أن القرارات القضائية كانت معللة بصورة واضحة وكافية.

لقد ساهم هذا التوجه القضائي في إرساء نظام للتعويض يكاد يكون آليًا، ومقترنًا بتعويضات ذات قيمة مرتفعة ومتزايدة عامًا بعد عام. هذا الارتفاع المستمر في قيمة التعويضات، دون إمكانية لضبطها أو كبحها، أدى إلى تفاقم العجز المالي لفرع تأمين السيارات. السبب الجوهري لهذا العجز يكمن في غياب المعادلة بين معاليم أقساط التأمين الإلزامي، التي تحددها السلطات الحكومية، ونظام التعويض الذي يوكَل لاجتهاد القضاء. بعبارة أخرى، هناك اختلال بين الإيرادات الثابتة لشركات التأمين (من الأقساط) والنفقات المتزايدة وغير المنضبطة (من التعويضات).


تطور نظام تحديد المسؤولية في التشريع التونسي: من المسؤولية الذاتية إلى المسؤولية الموضوعية

تطور مفهوم تحديد المسؤولية في فقه القضاء التونسي بمرور الوقت، متأثرًا بالتيارات الفكرية والفقهية العالمية:

1. المسؤولية عن الفعل الشخصي (الذاتية)

في بداية إرساء قانون التأمين الإلزامي للسيارات، اعتمد فقه القضاء التونسي على مبدأ المسؤولية عن الفعل الشخصي لتحديد مسؤولية المتسبب في الحادث. هذا المبدأ يستند إلى نظرية الخطأ الشخصي، التي لا يمكن إثباتها إلا بتوفر عنصرين أساسيين:

  • السلوك الخاطئ من المتسبب فيه (Le comportement fautif du responsable): ويعني الانحراف عن السلوك الطبيعي أو المألوف.
  • نسبة هذا الخطأ للمتسبب فيه (L’imputabilité de ce comportement au responsable): أي أن يكون المتسبب قادرًا على التمييز، وليس قاصرًا أو معتوهًا.

كان تقدير السلوك الخاطئ هنا تقديرًا ذاتيًا (appréciation subjective)، يتم بمقارنة سلوك المتسبب بسلوك مرجعي غير خاطئ، أو بسلوك "رب الأسرة الصالح" (Le Bon père de famille - Bonus paterfamilias). هذا المفهوم الأخير، الذي عرفه الفقهاء بأنه الرجل أو المرأة الراشد العادي النزيه، وليس البطل أو القديس أو الأبله أو المعتوه، كان معيارًا لقياس الانحراف عن السلوك المقبول.

في هذه المرحلة، كانت المسؤولية تُسمى بالمسؤولية الذاتية أو الشخصية، وأقرها الفصلان 1382 و 1383 من المجلة المدنية الفرنسية والفصل 83 من مجلة العقود والالتزامات التونسية. وبناءً عليه، كان الخطأ هو الأساس الوحيد والحصري لتحديد المسؤولية، مما يعني أن المتضرر لا يمكنه المطالبة بالتعويض إلا إذا أثبت وجود خطأ في جانب المتسبب. عبء إثبات هذا الخطأ كان يقع على عاتق مدعي الضرر، مع إمكانية دحض المتسبب للمسؤولية بإثبات عدم وجود أي خطأ في جانبه.


2. المسؤولية عن فعل الأشياء (الموضوعية)

نتيجة للتيارات الفكرية والفقهية، تحول فقه القضاء التونسي نحو تبني نظرية المسؤولية عن فعل الأشياء، بالرجوع إلى الفصل 96 من مجلة العقود والالتزامات التونسية (المتشابه مع الفقرة الأولى من الفصل 1384 من المجلة المدنية الفرنسية). هذه النظرية، التي أصبحت تعرف بالمسؤولية الموضوعية، أو مسؤولية المخاطر/الضمان، أسست لمفهول جديد:

  • المسؤولية مفترضة في جانب حارس الشيء المتسبب في الحادث. لم يعد بإمكان حارس الشيء (سائق العربة في هذه الحالة) التنصل من المسؤولية بإثبات عدم وجود خطأ في جانبه.
  • أصبح السبيل الوحيد للتخلص من هذه المسؤولية هو إثبات انقطاع العلاقة السببية بين الشيء المحروس والضرر. هذا الانقطاع يمكن أن يحدث بسبب:
    • سبب خارجي له مميزات القوة القاهرة أو الأمر الطارئ.
    • فعل الغير (le fait d’un tiers).
    • فعل المتضرر نفسه.

مقارنة بين التوجه الفرنسي والتونسي في المسؤولية عن فعل الأشياء

هنا، يبرز النص اختلافًا مهمًا بين فقه القضاء الفرنسي والتونسي:

  • فقه القضاء الفرنسي: اعتمد مبدأ الإعفاء الجزئي من المسؤولية (exonération partielle de la responsabilité) عندما يساهم خطأ المتضرر، أو فعل الغير، أو القوة القاهرة بجزء في حصول الضرر. هذا التوجه يعتبر متوازنًا وصائبًا، حيث يوزع المسؤولية بشكل عادل.
  • فقه القضاء التونسي: رغم اعتماده على الفصل 96، اشترط لدحض المسؤولية الملقاة على حافظ الشيء إثبات أمرين متلازمين:
  1. أنه فعل كل ما يلزم لتفادي وقوع الحادث.
  2. أن الضرر نشأ بسبب أمر طارئ أو قوة قاهرة أو بسبب من لحقه.

ورغم أن هذا الشرط يبدو جميلًا من الناحية النظرية، إلا أن فقه القضاء التونسي كان صارمًا للغاية في التطبيق العملي للشرط الأول ("فعل كل ما يلزم لتفادي وقوع الحادث"). فمهما كانت الظروف أو محاولات السائق لتفادي الحادث، اعتبرت المحكمة أنه لم يفعل كل ما يلزم طالما أن الحادث قد وقع بالفعل. وهذا جعل الشرط تعجيزيًا، أو بمثابة إقرار لمسؤولية شبه مطلقة دون إمكانية إعفاء حقيقي.

نتيجة لهذا التوجه، أصبحت مؤسسات التأمين ملزمة بالدفع في جميع الحالات تقريبًا، بغض النظر عن درجة خطأ المتضرر ومساهمته في حصول الضرر. وبما أن المسؤولية عن فعل الأشياء المعتمدة من قبل فقه القضاء التونسي لم تكن تقبل التجزئة (على أساس أن الحراسة لا تتجزأ وأن أساس المسؤولية هو الضمان)، أصبح التعويض يكاد يكون آليًا وكاملًا، دون أي نقصان. هذا الأمر كبل شركات التأمين وأثر سلبًا على توازنها المالي.


القانون الجديد لعام 2005: محاولة لإعادة التوازن وتوضيح المفاهيم

جاء القانون الجديد الصادر بتاريخ 15 أغسطس 2005، والذي طالما انتظرته مؤسسات التأمين، كـقانون خاص ومستقل (Autonome Loi spécifique) يهدف إلى معالجة هذه التحديات. وقد أرسى هذا القانون نظامين متلازمين:

  1. التعويض على مبدأ الخطر: وذلك بالنسبة لفئات معينة مثل المترجلين والركاب وسائقي الدراجات العادية. بالنسبة لهؤلاء، لا يمكن معارضتهم بأي خطأ في جانبهم، باستثناء حالة تعمدهم إلحاق الضرر بأنفسهم أو ارتكابهم خطأ فادحًا لا يمكن تبريره. هذا يعني أن حقهم في التعويض يكاد يكون مطلقًا بمجرد وقوع الضرر.
  2. التعويض على مبدأ الخطأ الشخصي: وذلك بالنسبة للسائقين. ولكن هذا الرجوع لم يعد للقانون العام كما كان سابقًا، بل أصبح بالرجوع إلى جدول خاص بتحديد المسؤوليات. هذا الجدول يعتمد على أغلب حالات الأخطاء المرورية ويحدد نسبة مسؤولية كل طرف فيها. وهذا يتيح لشركات التأمين إمكانية الرجوع فيما بينها وفق نسبة مسؤولية الطرف المقابل، مما يمثل تحسنًا كبيرًا في ضبط التعويضات وتوزيع المسؤولية بشكل أكثر عدالة.

إقرار الحق في التعويض: توسع في التغطية وتقليص للاستثناءات

بصفة عامة، أتى القانون الجديد بأفكار وتصورات مغايرة ومكملة للنظام السابق. فقد أرسى المشرع مبدأ إقرار الحق في التعويض لكل شخص تضرر بدنيًا نتيجة حادث مرور، مع استثناء السائق في حدود مسؤوليته. كما توسع في مضمون التغطية ليشمل أطرافًا كانت محرومة من الضمان في السابق، وقلص بعض حالات الاستثناء، موفرًا بذلك حرصًا أكبر على التعويض لمتضرري حوادث المرور.

ومع ذلك، يشدد النص على أنه مهما بلغت درجة تفهم المشرع لوضعية المتضرر وتعاطفه معه، ومهما كانت مرونة صياغة القانون الجديد لتعميم التعويض، لا يمكن لأي عقد تأمين أن يوفر ضمانًا كاملًا ومطلقًا دون شروط ودون حدود معينة. هناك دائمًا حالات ووضعيات لا تتناسب مع الاستعمال العادي للعربة، أو تخل بما تم الاتفاق عليه في عقد التأمين بين المؤمن له والمؤمن. في مثل هذه الحالات، يحق للمؤمن المطالبة بالإعفاء من الضمان نتيجة لعدم التزام المؤمن له بالشروط المتفق عليها. هذا يؤكد على أن عقد التأمين، حتى لو كان إلزاميًا، يبقى خاضعًا لمبادئ العقود والتزامات الأطراف لضمان استمراريته وعدالته.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال