قانون التأمين الإلزامي.. اعتماد على مبدأ المسؤولية عن الفعل الشخصي لتحديد مسؤولية المتسبب في الحادث استنادا إلى نظرية الخطأ الشخصي



أرسى المشرع التونسي قانون التأمين الإلزامي منذ سنة 1960 و ذلك من خلال القانون عدد 21 المؤرخ في 30 نوفمبر 1960 و كذلك الأمر التطبيقي عدد 80 المؤرخ في 30 جانفي 1961، حيث ألزم كل شخص مادي أو معنوي يمكن أن تلقى على عاتقه المسؤولية المدنية من جراء أضرار جسدية أو مادية ألحقت للغير بواسطة عربة برية ذات محرك أن يكون محاطا بتأمين يضمن تلك المسؤولية.

غير أن هذا القانون لم يتطرق إلى عنصرين هامين حسب اعتقادنا و هما:
- كيفية تحديد المسؤولية المدنية للمؤمن له.

- و كذلك كيفية تقدير التعويض عن الأضرار المادية و الجسدية، خاصة وأن الفصل الرابع من الأمر التطبيقي المذكور أوجب أن يكون التأمين بدون تحديد المقدار.

مما أوكل لرجال القضاء الاجتهاد المطلق سواء فيما يتعلق بتحديد المسؤولية أو تقدير التعويض دون رقابة لمحكمة التعقيب عليهم إذ ما تم تعليل قراراتهم بصورة واضحة و كافية.

و ساهم هذا التمشي في إرساء تعويض يكاد يكون آلي مقترن بتعويضات هامة و في ارتفاع متزايد من سنة إلى أخرى دون إمكانية لضبطها أو كبحها مما أدى إلى تفاقم العجز المالي لفرع تأمين السيارات بسبب غياب المعادلة بين معاليم أقساط التأمين الإلزامي المحددة من قبل السلط الحكومية من جهة  و نظام التعويض الموكل لاجتهاد القضاء من جهة أخرى.

و لن أتحدث في هذا المجال عن نظام التعويض الذي سيكون محور المداخلة الثانية و لكنني سأسرد بعجالة تطور نظام تحديد المسؤولية في التشريع التونسي و انعكاساته على نتائج فرع التأمين الإلزامي لما لهذا الموضوع من أهمية اعتبارا لاختلاف القوانين المنظمة له لا في البلدان العربية فحسب و لكن حتى في البلدان الغربية.
 
لقد اعتمد فقه القضاء التونسي منذ إرساء قانون التأمين الإلزامي للسيارات على مبدأ المسؤولية عن الفعل الشخصي لتحديد مسؤولية المتسبب في الحادث وذلك بالاستناد إلى نظرية الخطأ الشخصي الذي لا يمكن إثباته إلا بتوفر عنصرين اثنين وهما:
السلوك الخاطئ من المتسبب فيه  Le comportement fautif du responsable
و نسبة هذا الخطأ للمتسبب فيه L’imputabilité de ce comportement au responsable
و نعني بذلك قدرة هذا الشخص المتسبب في الحادث على التمييز أي أن لا يكون قاصرا أو معتوها.

و من هنا انحصر تقدير أو تقييم السلوك الشخصي بالسلوك الخاطئ بالمقارنة مع سلوك مرجعي غير خاطئ أو سلوك رب الأسرة الصالح.

Le Bon père de famille --- Bonus paterfamilias
الذي عرفه الفقهاء بالرجل أو المرأة الراشد العادي غير البطل و غير القديس وكذلك غير الأبله وغير المعتوه ولكن الرجل النزيه كما يفترض أن يكون عليه كل مواطن صالح.

السلوك الخاطئ وقع تقديره إذا تقديرا ذاتيا appréciation subjective  ومن ثمة وقع تسمية المسؤولية المنجزة عنه بالمسؤولية الذاتية La responsabilité subjective أي في ذات شخص المتسبب فيه أو بالمسؤولية الشخصية وهو ما أقره الفصلان 1382 و 1383 من المجلة المدنية الفرنسية و الفصل 83 من مجلة العقود والالتزامات التونسية.

و في هذه الحالة يكون الخطأ هو الأساس الوحيد و الحصري لتحديد المسؤولية أي أن المتضرر لا يمكن له المطالبة بالتعويض إلا إذا ما أثبت وجود خطأ أو سلوك خاطئ في جانب من تسبب فيه و هذا أمر ضروري لا بد من توفره لقيام المسؤولية على هذا الأساس.

و عبئ إثبات وجود هذا الخطأ محمول بالضرورة على مدعي الضرر غير أنه يبقى بإمكان المتسبب في الضرر دحض هذه المسؤولية بإثباته عدم وجود أي خطأ أو سلوك خاطئ في جانبه.

ثم نتيجة للتيارات الفكرية و الفقهية و التي لم يكن بمعزل عنها، اعتمد فقه القضاء التونسي نظرية المسؤولية عن فعل الأشياء بالرجوع للفصل 96 من مجلة العقود والالتزامات التونسية الذي يتشابه إجمالا مع الفقرة الأولى من الفصل 1384 من المجلة المدنية الفرنسية خاصة بعد تكريس فقه القضاء الفرنسي لهذه النظرية، أو ما إصطلح على تسميته بالمسؤولية الموضوعية وأساسها المخاطر أو الضمان كما يحلو للبعض تسميته، حيث أصبحت المسؤولية مفترضة في جانب حارس الشيء المتسبب في الحادث الذي لا يمكنه مستقبلا التفصّي من المسؤولية بإثبات عدم وجود خطأ في جانبه ولكن بإثبات أن العلاقة السببية بين الشيء المحروس والضرر انقطعت سواء:
- بسبب خارجي له مميزات القوة القاهرة أو الأمر الطارئ.
- أو بفعل الغير le fait d’un tiers.
- أو بفعل المتضرر نفسه.

و مما دأب عليه فقه القضاء الفرنسي هو إعتماد الإعفاء الجزئي من المسؤولية exonération partielle de la responsabilité عندما يكون خطأ المتضرر أو فعل الغير أو القوة القاهرة قد ساهم بجزء ما في حصول الضرر، وهذا في رأينا توجه متوازن وصائب والأخذ بغيره يفرز نتائج تبعث على الاستغراب والحيرة إذ كيف يمكن للمتسبب في ضرر ما على أساس الخطأ الشخصي أن يحتفظ بإمكانية إثارة خطأ المتضرر ويتمتع بتجزئة المسؤولية، في حين يبقى حارس الشيء المتسبب في الحادث متحملا لكامل المسؤولية حتى ولو لم يرتكب أي خطأ بل على العكس قد يكون المتضرر هو الذي ساهم بالقسط الأوفر في حصول ذلك الضرر.

غير أن فقه القضاء التونسي باعتماده على مقتضيات الفصل 96 من مجلة العقود والالتزامات لتكريس المسؤولية عن فعل الأشياء اشترط لدحض المسؤولية الملقاة على حافظ الشيء إثبات أمرين اثنين:
- أولا أنه فعل كل ما يلزم لتفادي وقوع الحادث.
- ثانيا أن الضرر نشأ بسبب أمر طارئ أو قوة قاهرة أو بسبب من لحقه.
فإذا ما أثبت توفر هذين الشرطين أمكن له التفصّي من قرينه المسؤولية المحمولة على عاتقه.
وهذا أمر جميل من الناحية النظرية.

غير أن فقه القضاء التونسي زيادة على كونه اشترط تلازم هذين الأمرين لإعفاء حافظ الشيء من المسؤولية كان من الناحية التطبيقية في غاية الصرامة بخصوص الشرط الأول و القاضي "بأن يثبت المتسبب في الحادث أنه فعل كل ما يلزم لتفادي وقوع الحادث" فمهما كانت الظروف المحيطة بالحادث و المحاولات التي قام بها سائق العربة لتفادي حصول الحادث فإن المحكمة لا تكترث بذلك معتبرة أنه لم يفعل كل ما يلزم لتفادي الحادث بما أن الحادث حصل فعلا، و لم يقم المتسبب فيه بكل ما يلزم لتفاديه.

و بالتالي أصبح هذا الشرط أمرا تعجيزيا أو إقرارا لمسؤولية دون إمكانية الإعفاء وهو ما لم يقره أي قانون عام بخصوص المسؤولية عن فعل الأشياء.

لقد كبل هذا التوجه مؤسسات التأمين التي أصبحت ملزمة بالأداء في جميع الحالات تقريبا و ذلك مهما كانت درجة خطأ المتضرر و مساهمته في حصول الضرر، سائقا كان أو مترجلا علما و أن المسؤولية عن فعل الأشياء المعتمدة من قبل فقه القضاء التونسي لم تكن تقبل التجزئة على اعتبار أن الحفظ أو الحراسة لا تتجزأ و أن هذه المسؤولية أساسها الضمان.
وبالتالي أصبح التعويض يكاد يكون أليا و بصفة كاملة لا نقصان فيه.

وجاء القانون الجديد الصادر بتاريخ 15/08/2005 والذي طالما انتظرته مؤسسات التأمين ليكون قانونا خاصا مستقلا Autonome Loi spécifique أقر نظامين متلازمين يؤسس الأول التعويض على مبدأ الخطر و ذلك بالنسبة للمترجلين و الركاب و سواق الدرجات العادية حيث لا يمكن معارضة هؤلاء الأشخاص بأي خطأ في جانبهم باستثناء الحالة التي يتعمدون فيها إلحاق الضرر بأنفسهم أو الخطأ الفادح الذي لا يمكن تبريره.

ويؤسس الثاني التعويض بالنسبة للسواق على مبدأ الخطأ الشخصي و ذلك بالرجوع لا للقانون العام كما كان في السابق و لكن بالرجوع لجدول خاص بتحديد المسؤوليات يعتمد على أغلب الحالات الأخطاء المرورية مع تحديد نسبة مسؤولية كل طرف فيها، مما يمكن رجوع شركات التأمين فيما بينها وفق نسبة مسؤولية الطرف المقابل.
 
لقد أتى القانون الجديد بأفكار وتصورات جديدة مغايرة أو موضحة أو متممة للنظام السابق المتعلق بنفس الموضوع، أرسى من خلالها المشرع مبدأ إقرار الحق في التعويض لفائدة كل شخص تضرر بدنيا نتيجة حادث مرور باستثناء السائق في حدود مسؤوليته وتوسع في مضمون التغطية ليشمل أطرافا كانت محرومة من الضمان في السابق وقلص بعض حالات الاستثناء موفرا بذلك حرصا أكثر للتعويض لمتضرري حوادث المرور.

 غير أنه مهما كانت درجة تفهم المشرع لوضعية المتضرر وتعاطفه معه، ومهما كانت درجة المرونة التي صيغ بها القانون الجديد قصد تعميم التعويض على أغلب متضرري حوادث المرور لا يمكن لأي عقد تأمين مهما كان نوعه أن يوفر ضمانا كاملا ومطلقا دون شروط ودون حدود معينة يتحتم توفرها لتمكين المتضرر من الضمان المنشود.

كما أن بعض الحالات وبعض الوضعيات التي لا تتناسب مع الاستعمال العادي للعربة أو التي تخل بما وقع الاتفاق عليه صلب عقد التأمين بين المؤمن له والمؤمن تعطي هذا الأخير حق المطالبة بالإعفاء من الضمان نتيجة عدم التزام المؤمن له بما وقع الاتفاق عليه صلب العقد المذكور.


المواضيع الأكثر قراءة