طبيعة حق الرجوع للمؤمِّن على الغير: تحليل وتفنيد
يتناول هذا النص إشكالية قانونية مهمة تتعلق بطبيعة حق الرجوع للمؤمِّن (شركة التأمين) على الغير المسؤول عن الضرر الذي أدى إلى دفع المؤمن للمبلغ المستحق للمؤمن له. يطرح النص رأيًا سائدًا ثم يقوم بتفنيده، مسلطًا الضوء على تعقيدات هذه المسألة في إطار القانون المدني.
الرأي القائل بأن أساس حق الرجوع هو الضرر:
ذهب رأي فقهي وقانوني إلى أن طبيعة حق الرجوع للمؤمن على الطرف الثالث، أي الغير الذي تسبب في الضرر، تكمن في الضرر الذي لحق بالمؤمن نفسه. ووفقًا لهذا التفسير، يُعد المبلغ الذي دفعه المؤمن للمؤمن له (المتضرر) بمثابة ضرر لحق بالمؤمن جراء الفعل الخاطئ للغير. وبالتالي، يحق للمؤمن الرجوع على هذا الغير استنادًا إلى أحكام المسؤولية التقصيرية.
للتوسع في هذا الرأي، يمكن القول إن الفكرة المحورية هنا هي أن المؤمن، بتحمله عبء التعويض، قد تكبد خسارة مالية مباشرة. هذه الخسارة تنشأ ليس عن التزامه التعاقدي فحسب، بل عن الفعل غير المشروع للغير الذي أخل بالواجب القانوني العام بعدم الإضرار بالآخرين. فلو لم يرتكب الغير خطأه، لما اضطر المؤمن لدفع مبلغ التأمين، وبالتالي فإن هذا الدفع يُنظر إليه كـ"ضرر ثانوي" أو "ضرر تبعي" نشأ عن الخطأ الأصلي للغير. ويستند أنصار هذا الرأي إلى قواعد المسؤولية التقصيرية التي تتيح للمتضرر المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء فعل خاطئ من الغير.
تفنيد الرأي السابق: الوفاء بالالتزام ليس ضررًا
على الرغم من وجاهة الرأي السابق في محاولة تبرير حق الرجوع، إلا أن النص يشير إلى أنه لم يصل إلى الهدف المنشود ولم يقدم أساسًا قانونيًا متينًا لطبيعة هذا الحق. يكمن الاعتراض الأساسي على هذا الرأي في أن وفاء المؤمن بالتزامه بدفع مبلغ التأمين لا يمكن اعتباره نوعًا من الضرر الموجب للتعويض.
لتوضيح هذا التفنيد، يجب التأكيد على أن التزام المؤمن بدفع مبلغ التأمين للمؤمن له هو التزام تعاقدي أصيل ينبع مباشرة من عقد التأمين. هذا العقد يمثل اتفاقًا بين طرفين، المؤمن والمؤمن له، يلتزم بموجبه الأول بدفع مبلغ مالي عند تحقق خطر معين مقابل أقساط يدفعها المؤمن له. وبناءً عليه، فإن قيام المؤمن بالوفاء بهذا الالتزام هو تطبيق طبيعي لأحكام العقد ونتيجة متوقعة لتشغيل منظومة التأمين.
إن اعتبار الوفاء بالالتزام التعاقدي ضررًا يستوجب التعويض يتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون المدني. فإذا كان كل وفاء بالتزام ينظر إليه كضرر، لتعطلت حركة المعاملات ولأصبح الالتزام عبئًا إضافيًا بدلاً من أن يكون أداة لتحقيق المصالح. إن الغرض من عقد التأمين هو نقل عبء الخطر من المؤمن له إلى المؤمن مقابل عوض معلوم، وعندما يتحقق الخطر، فإن دفع المؤمن هو تنفيذ لما اتفق عليه، وليس نتيجة لضرر أصابه.
بدائل لمفهوم الضرر كأساس لحق الرجوع:
إذا لم يكن الضرر هو الأساس المناسب لحق الرجوع، فما هو البديل؟ تتجه معظم التشريعات والفقه إلى تفسيرات أخرى أكثر اتساقًا مع طبيعة عقد التأمين وأحكام القانون المدني، ومن أبرزها:
- الحلول القانوني (Subrogation): هذا هو التفسير الأكثر شيوعًا وقبولًا. بموجب مبدأ الحلول القانوني، عندما يدفع المؤمن مبلغ التأمين للمؤمن له، يحل محله قانونًا في حقوقه ودعواه ضد الغير المسؤول عن الضرر. أي أن المؤمن ليس مطالِبًا بضرر لحقه هو، بل هو يمارس حق المؤمن له الأصلي في المطالبة بالتعويض من المتسبب في الضرر. هذا المبدأ يحقق العدالة بمنع إثراء المؤمن له بلا سبب (بتحصيله التعويض مرتين، مرة من المؤمن ومرة من الغير) ويضمن عدم إفلات المتسبب في الضرر من المسؤولية.
- دعوى الإثراء بلا سبب: قد يرى البعض أن المؤمن له إذا حصل على تعويض من المؤمن ومن الغير، فإنه يكون قد أثرى بلا سبب مشروع، ويمكن للمؤمن الرجوع عليه بدعوى الإثراء بلا سبب. ومع ذلك، هذا التفسير لا ينطبق مباشرة على حق المؤمن في الرجوع على الغير، بل ينطبق في العلاقة بين المؤمن والمؤمن له إذا لم يكن هناك حلول.
- دعوى المباشرة (Action directe): في بعض الأنظمة القانونية، قد يكون للمؤمن دعوى مباشرة ضد الغير المسؤول، ولكن هذا عادة ما يكون استثناءً وينص عليه القانون صراحةً، ولا يغير من أن الأصل هو الحلول.
بناءً على ما سبق، يتبين أن الرأي الذي يستند إلى فكرة الضرر الذي لحق بالمؤمن كأساس لحق الرجوع يتعارض مع طبيعة الالتزام التعاقدي. التفسير الأكثر دقة وقبولًا هو أن المؤمن يحل محل المؤمن له في حقوقه ضد الغير بموجب مبدأ الحلول القانوني، وهو ما يضمن تطبيقًا عادلاً وفعالًا لمبادئ المسؤولية والتأمين.