دراسة وتحليل قصيدة ما أكذب الشعر للشاعر محمد الجبلي



الليل مكتئب في قلب مكتئب
والقلب في شغل عن ذلك الطرب
أوتار معبد ما عادت تهيم بنا
ولم تعد متعتي في مرتع الأدب
قد أشغل القلب عما يستلذ به
من التغني أو التطواف في الكتب
فبي من الهم معنى لا يصوره
صدق الشعور ولا وشي من الكذب
وبي من الهم والأحزان ما عجزت
عنه القوافي وأعيا منطق العرب
ما أكذب الشعر ما أخزى تشدقه
الحزن ليس كلاما لف بالوصب
فليس لي أمل ليؤنس الروح أو
خيط أطارده من طيف مغترب
فلست أرجو وصالا كي يعللني
ولست مرتقبا نيلا لمرتقب
يا صوتها لم تزل في الليل أغنية
تشدو وأصداؤها في القلب كاللهب
وليس في الدار أفراح وقد رقصت
ألحان رقتها تجد في طلبي
هدية العيد ما زالت مغلفة
وعطرها لم يزل في عقدها الذهبي
الليل مكتئب في قلب مكتئب
والقلب في شغل عن ذلك الطرب

يبدأ الشاعر الكلاسيكي عادة بوصف الليل الذي بات ثقيلا مُكتئبا فهما شخصان يتشاركان الهم والحزن, وهذا تناص ضمني مع امرؤ القيس الذي رأى الليل ثقيلا يتمطى من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشاعر يكشف هنا عن تأثره بالشعر القديم وولعه بالشعر الكلاسيكي لما في أسلوبه مِن تشابه مع الشعر القديم وصوره وأخيلته، مع اعترافنا بأن الشاعر مُجدد أيضا فهو جعل الليل رجلا مُكتئبا له ملامح الحزن.

 وكلمة مكتئب كلمة لم نعرفها في الشعر القديم مع أنها تحمل معاني الحزن والهم وكل مشاعر الأسى التي يحملها الشاعر القديم في قلبه.
وقد كان لتكرار كلمة مكتئب وقعهُ في نفوسنا, فشعرنا بصدق مشاعر الشاعر, وعدم قدرته على مجابهةِ هذا الحُزن الذي هيمنَ عليه.
أوتار معبد ما عادت تهيم بنا = ولم تعد متعتي في مرتع الأدب.

هنا التفات بلاغي فقد انتقل الشاعر من ضمير الجماعة (تهيم بنا) إلى ضمير المتكلم (لم تعد متعتي) وهذه بلاغة جميلة توضح مدى تقلب روح الشاعر التي لم تعرف الاستقرار.

فهو ينتقل من حال ٍإلى حال فقد كانت متعة روحه بين واحات الأدب والأوتار.
وأرى أن الشاعر وُفق في أسلوب الالتفات هنا جدا لأن المعنى يفضح حال الشاعر الإنسان الذي تغير حاله وتبدلت نفسه.

ومِن جماليات هذا البيت الموسيقى الداخلية بين أجراس حروف الكلمات:
 (معبد، عادت، تعد، متعتي، مرتع) فتكرار جرس العين يوحي بعمق معاناة الشاعر كعمق مخرج حرف العين (الحلق) الذي يخرج بعد ضيق في المخرج كما هي حال الشاعر الذي يضيق ذرعا بالحزن الذي يُكابده.

قد أشغل القلب عما يستلذ به -- من التغني أو التطواف في الكتب
بدأ السر يُكشف رويدا وريدا فإن هناك ما يشغل القلب عن المتعة والراحة أو حتى عن القراءة الحرة التي كان يحبها الشاعر وكلمة التطواف جاءت معبرة جدا عن تعلق الشاعر بالقراءة الحرة ـ الاطلاع ـ فقد كانت موجزة جدا تحمل معاني كثيرة فالقراءة أشبه بالرحلة التي تنتقل عبرها من كتاب إلى كتاب آخر وحملت الكلمة معنى القراءة بشغف فإن الإنسان لا يطوف إلا رغبة، وحملت معنى الثقافة المتنوعة فإن التطواف والتجوال يكون بين علوم متنوعة والشاعر هنا يُلمح لنا عن سعة ثقافته ضمنيا فهو فخر ضمني رمزي.
نُلاحظ هنا تكرار حرف التاء في (يستلذ، تغني، تطواف، الكتب).

فبي من الهم معنى لا يصوره -- صدق الشعور ولا وشي من الكذب
لقد بلغ هذا الهم مبلغا عظيما فلم يعدْ ينفع معه حتى تعبير الشاعر الصادق عنه لأن الكلمات لا تسعفهُ ولا تستطيع أن تعبرَ عن كل ما به مِن مشاعر الحزن والأسى ولا حتى التجمل كذبا.
كل تلك الأساليب عجزت عن وصف وتصوير مشاعره.
الطباق بين الكذب والصدق بديع اختصر المعنى فيه الشاعر.

وبي من الهم والأحزان ما عجزت -- عنه القوافي وأعيا منطق العرب
حتى القوافي التي يتقنها الشاعر لم تُجدي نفعا في التعبير عن مشاعره ولم تبح عن ما به!
لقد أعيا حزنه منطق العرب!! أي حزن هذا استشرى في روح شاعرنا حتى أن كل العرب لا تُطيق ولا تقدر على معرفته أيضا والحديث عنه.
ونحنُ نعرف أن العرب أمة فصاحة وبيان وحِكمة.

ولكلمة العرب هنا دلالة عميقة فشاعرنا لم يختر كلمة الشعراء أو كلمة الأدباء أو كلمة أخرى ولكنه اختار كلمة العرب لأنه هو ذالك الرجل العربي الذي يفتخر بعروبته ضمنيا ويرى فيهم صفات المروءة والشجاعة فهو مَن يفخر بعروبته وإن ْ كان ضمنيا ولم يُصرح ولكنه يصل إلى فكرنا عبر هذا الوصف الرائع.
ما أكذب الشعر ما أخزى تشدقه -- الحزن ليس كلاما لف بالوصب

أسلوب تعجب يوحي لنا أن الشعر لغة كاذبة أمام طوفان الحزن في نفسه.
كيف لا يرى الشاعر الشعر بهذه الصورة لأنه يرى حُزنه فوق أي لغة تعبيرية.
بل هو يراه مجرد وسيلة تشدق إنْ أتى بجوار حزنه محاولا أن يعبر عنه.

هو يرى الحزن ليس كلاما أو مفردات تُرص بجوارِ بعضها بعضا، بل هو شعور عميق مُرهق للنفس, يؤلم الروح، لا يجدي نفعا معه شيء. فالمفردات التي تدل على الوصب ـ التعب ـ لا تدل على ما به.
وتأتي كلمة لُفَ لتعبر عن مدى المعاناة التي يلقاها شاعرنا فيرى كل ما حوله تكلفا وتصنعا لا يُحقق صدق شعوره.

فليس لي أمل ليؤنسَ الروح أو -- خيط أطارده من طيف مغترب
هذا البيت هو لُب القصيدة ـ في النقد لحظة التغني عند الشاعر ـ لأنه يكشف لنا عن سبب معاناته أخيرا بعد أن أسهب في وصفها وتصويرها لنا.

فليس هناك أمل بمِن يُريده وهو أنيس الروح الوحيد الذي كان سببا في أنسه وإدخال السرور لقلبه ومبعث بهجته,
لم يعد هناك لو خيط رفيع قصير يستطيع أن يمسك به لعله يصل إلى طيف المغترب.
وكلمة مُغترب توحي بأن مَن يبحث عنه غريب بعيد عنه مع أنه كان له!!

فالغربة لا تأتي إلا بعد الألفة مع الشخص والمودة والصحبة الجميلة وإلا لما أحس بها.
فالإنسان الذي يفتقده كان معه يحيا في كنفه بحب ومودة ولكن لأمر ما أضحت الغربة هي حالهما.

إذن الغربة عن الرفيق أو الحبيب هي سبب معاناة الشاعر وسبب همومه.
هذا البيت يوضح مدى دفاع الشاعر عن حبه وقدرته على الجهاد لأجله (مطاردة) ولكن هناك حائلا عظيما يحول بينه وبين الوصال!!!!
فلست أرجو وصالا كي يعللني -- ولست مرتقبا نيلا لمرتقب

لم يعد يرجو منه وصلا ـ دلالة على اليأس من المغترب لسبب ما  لم يكشفه لنا الشاعر ـ حتى يؤنسني فإن الأنس يكون بالوصل ولكنه غير ممكن مستحيل يئس منه الشاعر ولن يكون هناك نوال له وهو الهدف البعيد جدا عنه على الرغم مِن قربه لروحه وتعلقه به.!!
مفارقات مؤلمة.

أتى بصيغيتين من جذر واحد ( مُرتقِب ـ مُرتقــَــب ) وفي هذا تلاعب لفظي خَدَم المعنى بلا شك وجذب المتلقي للبيت.
فالمرتقِب هو اسم الفاعل ـ الشاعر ـ والمُرتــََقـــَــب هو اسم المفعول وهو الرفيق الذي يبحث عنه ويترقب حضوره ويرنو بوصله.

يا صوتها لم تزل في الليل أغنية -- تشدو وأصداؤها في القلب كاللهب
 ثم يذكر الشاعر لنا في آخر الأبيات أن هذا الرفيق الذي يغترب عنه ما هو إلا الحبيبة التي لم يعد يجدها فهو يُصرح بها في آخر الأبيات ويذكر لنا صفاتها التي يفتقدها فهي التي تملك الصوت الساحر الذي يخلب لبه ويؤنس مسمعه، ويُشبه صوتها بالأغنية التي تترنم هي بها له، وأصداء وأنغام هذه الأغنية تتردد مازالت في قلبه وتشعله كاللهب. وأين هي لتطفأ هذا اللهب وهي المغتربة عنه، بعيدة عنه، لا يمكن أن يكون بينهما وصلا أو طريقا للنوال .!!

وليس في الدار أفراح وقد رقصت -- ألحان رقتها تجد في طلبي
يُكمل لنا صفات محبوبته فهي التي كانت تنشر الحب والبهجة والحياة والحيوية والسعادة في أرجاء المنزل كأن في الدار أعراسا مِن شدة الفرحة التي يحيا بها معها.

وهي التي تتصف بالرقة الشديدة وهذه الرقة سببا لتعلقه بها وانشغال فكره بها فهو يُحب هذه الصفة بها.
 ومما لا شك أن أهم سمات الأنثى الرقة فهو أجاد أن يُعبر لنا عن صفات محبوبته بما ينبغي أن تتصف به المرأة العربية وشبه هذه الرقة بالألحان التي تتغنى بها امرأته فتبث في المنزل أنغام السعادة والبهجة والفرحة.

من جماليات هذا البيت تكرار الوزن الصرفي لجمع القلة في قوله (أفراح ـ ألحان) فهما على وزن أفعال مما جعل الموسيقى الداخلية تكون قوية كما الألحان في صوت محبوبته. جمالية بين المعنى والموسيقى الداخلية رائعة.
هدية العيد ما زالت مغلفة -- وعطرها لم يزل في عقدها الذهبي

هدية العيد في ظل عدم وجود حبيبته مازالت مغلفة ـ كناية عن عدم فرحته وانتظاره لها ووفائه ـ وعطرها معلق بعقدها الذهبي ـ كناية أنه معها بعيدا عن الشاعر ـ وهو هنا يصور لنا عن تعلقه بها وبما كانت تضعه من عطور أو تتركه له هدايا يفرح بها معها.

القافية هي الباء المتحركة ـ قافية مطلقة ـ وهي قافية فيها قلقلة كما روح الشاعر القلقة، حيثُ يُطلق آهاتَ حزنهُ عبر القافية المطلقة التي يمتد معها النَفَس.
هدى عبد العزيز