لقد شكل استقراء تجربة رواد المسرح العربي، وقراءة منطلقاتها ومساراتها ومعوقاتها، مظهرا أساسيا من مظاهر الميتامسرح التأصيلي العربي. فإلى جانب الدراسات والأبحاث التي أنجزها مؤرخون ودارسون للمسرح العربي، عكس الإبداع المسرحي نفسه، هذا الاهتمام بذاكرة هذا المسرح، وذلك من خلال أعمال درامية تعيد استحضار رموز مرحلة الريادة، وتحاول مسرحة تجربتهم بشكل يخضعها للتأمل والتحليل. ومن أبرز التوجهات التي سار فيها الخطاب الميتامسرحي في هذا السياق، التوجه التاريخي الوثائقي الذي كان من مجسديه المسرحي المصري نعمان عاشور من خلال مسرحيته الوثائقية " فجر المسرح المصري ".
لابأس من الإشارة أولا إلى أن المسرح الوثائقي Théâtre Documentaire هو نوع متميز من المسرح عرف لدى الغربيين باعتباره شكلا يقوم على تركيب وثائق وصياغتها في قالب درامي يجعل منها عملا مسرحيا متكاملا. لكن الخلفية التي تحكم هذه الممارسة المسرحية تكون، في الغالب، خلفية سياسية. لذا، نجد بافيس Pavis في معجمه المسرحي يعرفه قائلا: "هو مسرح لا يستعمل في نصه سوى وثائق ومصادر أصلية منتقاة و"مركبة" وفق الأطروحة السوسيو- سياسية للمسرحي". وهذا النوع من المسرح يعد نقيضا للمسرح الذي يعتمد بشكل كلي على المتخيل ولا يكون، بالضرورة، سياسيا.
إن نعمان عاشور يحول هذه الأطروحة السوسيو- سياسية إلى أطروحة فنية وثقافية، لكنه يحافظ على المكونين الأساسيين لهذا المسرح الوثائقي وهما: التوثيق والتمسرح. فمن خلال تركيب وثائق تعود في مجملها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر من ضمنها خطب ومذكرات ومقالات صحفية ونصوص تاريخية ومحاضرات وإعلانات وأغان، صاغ مسرحية تقوم بمسح شامل لتجربة الرواد الأوائل في المسرح العربي بمن فيهم : مارون النقاش، سليم النقاش، أبو خليل القباني، يعقوب صنوع، عبد الله النديم وإسكندر فرح. أما الوقائع المسرحية التي يغطيها النص فهي تقع ما بين سنتي (1847و1889) كما هو مثبت في الإرشادات المسرحية.
يفتح عنوان المسرحية نفسه أفقا ميتامسرحيا بارزا أمام القارئ يتمثل في إلقاء الضوء على المراحل الأولى للمسرح المصري، كما تدل على ذلك كلمة " فجر". لكن ما يثير الانتباه هو علاقة هذا العنوان بمحتويات النص. فموضوع المسرحية هو فجر المسرح العربي بشكل عام، وليس المسرح المصري فقط، مما يدفعنا إلى صياغة بعض التأويلات الأولية حول الأطروحة الثقافية المستحكمة في التوثيق المسرحي عند نعمان عاشور، ومنها حضور نزعة وطنية ضيقة ترى أن فجر المسرح المصري هو فجر المسرح العربي؛ وهو ما يضفي بعد الريادة على مصر في هذا الاتجاه. وقد يستفاد من جهة أخرى من كل ذلك المأزق الذي وقع فيه بعض رموز الجيل الثاني من المسرحيين العرب، والناتج عن تشرذم وعيهم الفكري من جراء ما وطنه المستعمر من تشرذم جغرافي في الوطن العربي. وقد لاحظنا امتدادات هذا المأزق في المد التنظيري للمسرح العربي سواء في المشرق أو المغرب.ليس في نيتنا الآن الدخول في تفاصيل هذه الإشكالية. لذا، نكتفي بالإشارة إلى المفارقة التي يثيرها عنوان المسرحية في علاقته بالنص، لأنها تعكس جانبا من المأزق الذي وضع فيه تأصيل المسرح في التربة العربية بعض الرموز من الجيل الثاني وعلى رأسهم نعمان عاشور، وهو مأزق التجاذب بين الوطني والقومي.
إذا تجاوزنا هذه الإشارة إلى النص نفسه، سنلاحظ أنه يقوم على المزاوجة بين الحكي والتشخيص، وذلك لتقديم صورة شاملة عن ظروف نشأة المسرح العربي وما أحاط بها من عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية في علاقتها بالمسارات الذاتية للرواد.
وعليه، يمكن التمييز في نص " فجر المسرح المصري " بين نوعين من الموضوعات الممسرحة : قضايا ذاتية متصلة بالمسار الشخصي لرواد المسرح العربي، وقضايا موضوعية تصب في مجتمع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمظاهره السياسية والاجتماعية والثقافية. تقدم هذه الموضوعات في النص ضمن رؤية شمولية تبرز علاقة الذاتي بالموضوعي، كما تؤكد على الارتباط الشديد بينهما.
ففيما يتعلق بالقضايا الذاتية الممسرحة، تقوم مسرحية " فجر المسرح المصري " بـ :
- جرد مباشر وغير مباشر للريبرتوار المسرحي لمختلف الرواد، مشيرة إلى تجاربهم في الاقتباس والتأليف، ومبرزة معرفتهم بالأنواع الدرامية، ومستعرضة لظروف عرض مسرحياتهم التي انطلقت من فضاءات البيوت والمقاهي قبل أن تبلغ مرحلة إنشاء المسارح.
- إبراز المنظور الخاص بكل واحد منهم إزاء فن المسرح ووظيفته وطريقة التعامل مع مختلف مكوناته.
- الكشف عن استراتيجيات العمل المتبعة لترسيخ المسرح، ومنها : إطلاع رجال الدولة على موضوع المسرحية قبل عرضها كما هو الشأن عند مارون النقاش، وإقامة خطاب مواز داعم للإبداع المسرحي من خلال مقالات صحفية تعريفية كما هو الأمر عند سليم النقاش، ومحاولة إيصال المسرح إلى قاعدة عريضة من الجمهور عوض الاقتصار على النخبة كما فعل يعقوب صنوع، ثم اللجوء إلى خطة تجعل المسرح يلتبس ويبطن بالعمل الخيري مع التحايل على السلطة عبر خطابات إطرائية سطحية يتم تضمينها في أعمال مسرحية تشحن بأبعاد فنية وتعليمية تسهل عبورها إلى الجمهور، كما فعل عبد الله النديم.
- استعراض الصعوبات المادية والمعنوية التي واجهت المسرحيين مع الكشف عن مصير مسارحهم التي آلت إما إلى الإغلاق أو الإحراق.
- ربـط تجربـة المسرحيين بمسار حياتهم الشخصية وبدور المرض والنفـي أو الموت أو المضايقات السلطوية في تخلي بعضهم عن المسرح، مع الإشارة إلى تفطن البعض الآخر إلى دور البعد العائلي في ضمان استمرارية التجربة، كما هو الش-أن عند مارون النقاش.
ومن خلال الوقوف على هذه القضايا، كانت المسرحية تلقي الضوء على السياقات العامة التي ارتهنت بها مسيرة المسرح العربي في بداياته، لذا نجدها تعرض لموضوعات أساسية منها :
- علاقة المسرح العربي بسؤال النهضة.
- علاقة المسرح بالبنية الثقافية السائدة، ولاسيما موقف السلطة ورجال الدين منه.
- طبيعة الجمهور العربي ومساهمته في تأصيل المسرح حيث نجد، مثلا، إسكندر فرح يوضح لأبي خليل القباني ميول الجمهور المصري قائلا :
" إسكندر فرح : الناس هنا تحب الطرب وتميل إلى الفكاهة.. روايتك والحمد لله كلها مطعمة بالموسيقى ولا ينقصها المرح الخفيف ".
- علاقة الخطاب المسرحي بالخطاب الإصلاحي العربي خلال القرن التاسع عشر، وصلة المسرحيين بدعاة الإصلاح ومنهم يعقوب صنوع الذي أفاد كثيرا من جمال الدين الأفغاني:
" صنوع : لكننا لابد أن نواصل السير مهما كانت العقبات .. إن الإمام الأفغاني ورجال الفهم والوعي .. من رأيهم أن نمشي بتؤدة وأن نحرص على أن نضمن مخطوطات رواياتنا ما يملأ النفوس حبا للحرية والكرامة".
- موقف الرأي العام المثقف من المسرح من خلال ما تعكسه الصحافة عن التجارب المعروضة.
من خلال تسليط الضوء على هذه التقاطعات بين بنية المسرح والبنى الثقافية والسياسية والاجتماعية، يلاحظ أن نعمان عاشور يتجاوز البعد التوثيقي المحايد ليعكس عبر تركيبة النص منظورا تاريخيا حول المسرح العربي؛ وهو منظور ينسجم مع ما رسمه محمد مسكين من محاور تتصل بهذا المنظور وهي: "المحورالأول : امتدادات الواقع وتجلياته في العملية المسرحية. المحور الثاني إدراج التصورات النقدية والتنظيرية ضمن الجهاز المفاهيمي العام السائد في فترة زمنية معينة مع إبراز العلاقة المؤسسة بينهما. المحور الثالث : إبراز الأبعاد الجمالية للعملية المسرحية من خلال توضيح ملامح تطور هاته الأبعاد وملامح ثباتها.
إن مسرحية " فجر المسرح المصري "، إذن، هي تأريخ ممسرح لمرحلة حاسمة في تاريخ المسرح العربي، وعملية تستهدف بالأساس فهم السياق العام الذي حكم هذه المرحلة لأخذ العبرة وصياغة مشروع تأصيلي يستفيد من تجربة الرواد.
وإذا كانت الموضوعات التي قمنا بجردها انطلاقا من النص تكشف اعتماد عملية التأريخ على استقراء الوثائق المتنوعة، فإن حضور هاجس التمسرح جعل نعمان عاشور يستقطب داخل خطابه المسرحي مقومين جماليين أساسيين هما : السرد والتشخيص.
فمما لاشك فيه أن الدراما الوثائقية تفترض بطبيعتها تمفصلا نصيا قائما على أساس جمالية الانفصال؛ وهو تمفصل تمليه عملية تركيب الوثائق المختلفة. لذا، فإن نعمان عاشور حرص على ترجمة هذه الجمالية سرديا وتشخيصيا، وذلك حتى تتحول عملية التأريخ إلى عملية مسرحية.
فمن زاوية السرد، لا يقدم النص حكاية متخيلة؛ وإنما يعتمد الحكي على لسان راو ينظم الوقائع حسب تسلسلها الزمني، ويحدد مكانها، ويتدخل لإعلان نهاية مرحلة رائد مسرحي وبداية أخرى، كما يقدم أحيانا بعض المعطيات التي تفيد في إضاءة الأحداث، وذلك على شكل تعليقات وأحكام. من ذلك، مثلا، تعليقه على رأي لنقولا النقاش يؤكد فيه أن المسرح مرآة تعكس عيوب الإنسان كي يتجنبها، حيث يقول :
" الراوي : فكأن المسرح عندنا عرف من البداية على أنه أداة للإصلاح عن طريق النقـد ".
ويلاحظ أيضا أن تدخلاته في المسرحية تكتسي طابع الاختزال والتكثيف، حيث يغطي سرده وقائع كثيرة ويحيط بمراحل مهمة تجعلنا إزاء تقنية التلخيص المعروفة في مجال السرد الروائي.
إن اعتماد نص نعمان عاشور على تقنية الراوي يتساوق مع الطابع الوثائقي الذي يميزه، ويساهم في تقطيعه بشكل يحوله إلى أداة دراماتورجية أساسية. ولعل هذا ما يظهر استحكام هاجس التمسرح حتى في استعمال تقنية سردية كهاته، لاسيما وأنه يقوم بالفصل بين المقاطع التشخيصية التي تعتمد الحوار المباشر بين الشخصيات. فتدخلات الراوي هاته يمكن التعامل معها باعتبارها إرشادات مسرحية تعلن عن الفواصل الزمنية والانتقالات الفضائية والحدثية، كما تشير إلى بعض علامات التمسرح في النص كالضربات الثلاث والموسيقى والأصوات والأغاني والتصفيق، وذلك في ارتباط بطبيعة الأحداث المشخصة.
ولإضفاء بعد جمالي على عملية التأريخ الممسرح وتخليص قارئ المسرحية من الطبيعة التراكمية للوثائق، يلجأ عاشور إلى المزاوجة بين السرد والتشخيص بشكل تناوبي يضمن أحدهما في الآخر ويخلق بينهما تداخلا كبيرا بشكل يشغل آلية التشويق ويدفع إلى انتظار المزيد من الوقائع المتصلة بفجر المسرح العربي.
من ثم، يمكن القول إن مسرحية " فجر المسرح المصري " أقامت خطابها الميتامسرحي على أساس وظيفة مركزية هي الوظيفة التأويلية. وقد جسدت ذلك من خلال كتابة مسرحية لتاريخ المسرح العربي. وإذا كانت هذه الكتابة التاريخية الممسرحة قد اعتمدت قالبا نوعيا هو الدراما الوثائقية، وجمالية نصية تقوم على المزاوجة بين السرد والتشخيص، فإن الإطار العام الذي يحكمها هو هاجس التأصيل. فنعمان عاشور كان يبحث لمسرحه عن سند تاريخي يقيم عليه دعائمه؛ فكان عليه أن يقرأ تجربة الرواد للكشف من خلالها عن الكيفية التي يتعين بها ترسيخ مسرح في التربة العربية.
التسميات
ميتامسرح