صيرورة الشعرية المسرحية الغربية من حيث انبثاقها من صيرورة الإبداع المسرحي.. الثقافة الغربية وتفاعل الأشكال الجمالية بالمضامين الإيديولوجية



لقد وقفنا، من خلال هذا الفصل، على صيرورة الشعرية المسرحية الغربية من حيث انبثاقها من صيرورة الإبداع المسرحي نفسه، مستحضرين - بطبيعة الحال - التصور العام والمرن الذي يتعامل مع مفهوم " الشعرية " " بوصفها مجالا للتفكير النظري ومساءلة حصيلة النصوص المتحققة، لم تقف عند حدود الصنع الأدبي وتجليات اللغة داخله، وإنما وسعت الاهتمام والتفكير ليشمل تحديد بوطيقا مجموعة من الشعراء أو استخلاص شعرية  كاتب معين أو استخراج نظرية عامة للأشكال الأدبية في فترة من الفترات".
وانسجاما مع هذا التصور، تم التركيز على مختلف التوسلات الميتامسرحية التي اعتمدها المسرحيون الغربيون قصد بلورة شعريات ذاتية أو عامة من خلال إبداعاتهم.
لقد اعتمدت الإبداعات التي قمنا بتحليلها بنيات نصية متنوعة منها : المضاعفة المسرحية التي اتخذت شكل حلم داخل مسرحية عند كالدرون، وشكل مسرحية داخل مسرحية عند تشيخوف وبيرانديلو، ثم التجويف الأدبي الذي يسمح للنص بخلق مراياه الخاصة كما هو الشأن عند شكسبير؛ هذا بالإضافة إلى اعتماد استراتيجية التناص كما فعل تشيخوف ويونسكو، وإن كان الأول استعمله بكيفية جزئية لخدمة البنية الحكائية للنص، في حين اعتمده الثاني ضمن تصور جمالي شمولي أساسه المحاكاة الساخرة.
وانسجاما مع هذا التنوع في الإجراءات الميتامسرحية، عملت الأعمال المسرحية التي حللناها على الاتجاه نحو اختيارات نوعية أصيلة ومميزة تلائم خصوصيات التوجه "الشعري" لكل كاتب. فكالدرون اختار " الكوميديا "على الطريقة الإسبانية، وشكسبير لجأ إلى الدراما الكروتسكية. وتم المزج - لدى البعض - بين التراجيدي والكوميدي، ليس بطريقة التراجيكوميديا كنوع معروف، وإنما بطرق جد مختلفة جعلتنا نقف على ثلاثة مظاهر منها يبتعد بعضها عن بعض، لدى كل من تشيخوف وبيرانديلو ويونسكو. علاوة على هذا، حاول بريشت خلق نوع درامي جديد يمزج بين التخييل والتنظير ويقوم على "الإيهام بالمسرح".
وإذا كان المسرح - شأنه شأن الأدب - " يتواجد على تخوم الأجناس التعبيرية والخطابية ويتغذى من التفاعل مع النصوص الأخرى ومن مخزونات الذاكرة واللاوعي، ومن المكونات المادية المتناسلة التي غيرت، جذريا، علاقة الفرد بمحيطه، وبالطبيعة وبالذات الخاصة "، فإن الشعريات التي بلورتها النصوص المدروسة - سواء تلك التي ظلت وفية لأرسطو أو التي تمردت عليه - ارتبطت في وعي أصحابها بمواقف ورؤيات للعالم يتخذ بعضها بعدا ذاتيا محضا، ويتجاوب بعضها الآخر مع روح العصر الذي يعيش فيه المبدع.
فكالدرون ممثل العصر الباروكي بامتياز، يتقاطع بشكل كبير مع شكسبير ممثل العصر الإليزابيتي، وذلك من حيث استنادهما معا على رؤية فلسفية ودينية متشابهة تقوم على مزيج من الأفلاطونية التي تنظر إلى العالم الواقعي باعتباره عالم أشباح وأوهام وأحلام، والإيمان الديني الذي يستحضر صورة متعالية للإلاه الذي يتحكم في " مسرح العالم الكبير". وبالمقابل، ينطلق كل من تشيخوف وبيرانديلو وبريشت ويونسكو من منطلق واحد هو الواقع باعتباره مجموعة أحداث وأفعال نابعة من الإنسان الموجود داخل شرط زمني محدد.
إلا أن التعامل مع هذا الواقع اختلف من مبدع إلى آخر. فتشيخوف اختار منظورا واقعيا يقوم على مفهوم " المحاكاة الكاملة "، وبيرانديلو عكس، من منطلق نسبي، صورة واقع مليء بالمفارقات، وبريشت جعل منه بؤرة للتناقضات الاجتماعية وألح على محاكاته بكيفية تجعله مكشوفا وتساعد على تغييره. أما يونسكو، فإن رؤيته الإنسانية الشمولية دفعته إلى إدانة واقع الشرور القائم في عمق الإنسان قبل أن تصبح الصراعات السياسية والاجتماعية تجليا له.
يستخلص من كل هذا، أن تناسخ الشعريات في المسرح الغربي لم يكن ترجمة لهواجس جمالية أو تقلبات في الحساسيات الفنية لدى كتاب المسرح الغربيين وحسب، وإنما هو استجابة إبداعية عميقة لما تمور به ذات المبدع في تفاعلها مع محيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي.
وعليه، يمكننا أن نعتبر أن الميتامسرح إحدى أهم النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطل من خلالها على واقع المسرح الغربي، وبالتالي على واقع الثقافة الغربية عموما، باعتبارها ثقافة تتفاعل فيها الأشكال الجمالية بالمضامين الإيديولوجية بشكل كبير.


المواضيع الأكثر قراءة