تناسخ الشعريات المسرحية.. الشعرية المسرحية الغربية والتأرجح بين الخضوع لسطلة الأب المؤسس أرسطو وبين الانفلات من هذه السلطة



ليس غريبا أن ينعت أرسطو بالأب المؤسس للشعرية المسرحية الغربية. فكتابه " فن الشعر" رسم الإطار النظري لها انطلاقا من مفهومي المحاكاة والتطهير اللذين يتحكمان في سيرورة إنتاج العمل المسرحي وتلقيه. وقد ظلت نظرية الأدب الغربية عموما تدور في فلك هذه الشعرية إلى حد يمكن القول معه إن " تاريخ نظرية النوع ... ليس سوى تاريخ للأرسطية في نظرية الأدب ". فبغض النظر عن الموقع الذي تبوأته الأرسطية عند الكلاسيكيين، فقد ظلت تلقي بظلالها على الإبداع والنظرية الغربيين، سواء من خلال التجارب التي جعلت منها خلفية أساسية، أو حتى من خلال تلك التي جعلت منها حقل مواجهة. فبريخت نفسه لم يحدد شعريته الملحمية بمبادئها المختلفة إلا انطلاقا من مقارنتها ومقابلتها مع مبادئ الشعرية الأرسطية.
إن هذا الوضع يجعلنا نؤكد أن تاريخ الشعرية المسرحية الغربية ظل يتأرجح بين الخضوع لسطلة الأب المؤسس أرسطو، وبين الانفلات من هذه السلطة، مما يدفعنا بالتالي إلى وصف صيرورة هذه الشعرية ب" تناسخ الشعريات المسرحية ". وما ينبغي تأكيده هنا هو أن الأمر لا يتعلق بالصيغة النظرية الصريحة وحسب، بل يطال ما يمكن أن نطلق عليه الصيغة الإبداعية للشعرية، أي تلك المنبثقة - ضمنيا - عن الممارسة الإبداعية نفسها، والتي جعلت من الميتامسرح دعامتها الأساسية.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هنا هو: ماذا نقصد ب" التناسخ الشعري" ؟. نعتقد أن الدلالة اللغوية لكلمة " تناسخ " تقدم لنا ما يساعد على فهم دلالتها الاصطلاحية. فإذا عدنا إلى الجذر " نسخ " في " لسان العرب " لابن منظور نجد " والأشياء تناسخ : تداول فيكون بعضها مكان بعض كالدول والملك؛ وفي الحديث : لم تكن نبوة إلا تناسخت أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة وتغاير أحوالها. والعرب تقول : نسخت الشمس الظل وانتسخته أزالته، والمعنى أذهبت الظل وحلت محله [...] والتناسخ في الفرائض والميراث : أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرن بعد القرن ".
يرتبط التناسخ، إذن، بدلالات منها : التداول والتحول والتغير وموت الفروع مع بقاء الأصل؛ وهذه الدلالة نفسها تتحكم في المعنى الإصطلاحي لمفهوم  " التناسخ الشعري".
فلو أخذنا مقولة " المحاكاة " التي تنهض عليها الشعرية الأرسطية وتأملنا صيرورتها في ضوء هذا التناسخ، لوجدنا أنها اتخذت صيغا مختلفة في الإبداع المسرحي الغربي : المحاكاة في إطار المحتمل Vraisemblable، المحاكاة في ضوء الحقيقي Véridique، المحاكاة الانعكاسية، المحاكاة الفوتوغرافية، المحاكاة الكاملة ... إلخ. وحتى عندما خضعت هذه المقولة لإعادة النظر، أو بالأحرى للقلب بحيث أصبح الفن هو الأصل أو النموذج والطبيعة هي النسخة - كما هو الشأن عند بيرانديلو - ظلت المحاكاة قائمة.
من ثم، يمكن القول إن " التناسخ الشعري " يدل على الثابت والمتحول في المسرح الغربي في آن واحد. وتكمن أهميته في الكشف عن الوجه الآخر لما سميناه سابقا بدينامية هذا المسرح، والمتمثلة هذه المرة في استحكام مبادئ شعرية أصلية في الإبداع المسرحي دون إلغاء انفتاح بنياته النوعية والنصية على التاريخ والثقافة والمجتمع، بشكل يضفي على تلك المبادئ الشعرية نفسها نوعا من النسبية والتحول والصيرورة والانفتاح على المحتمل واللامنتظر.
وللوقوف عن كثب على هذه الظاهرة، اخترنا - في هذا الفصل - تحليل نصوص ممثلة لها تعكس إبداعيا شعريات مختلفة تتصل، بشكل أو بآخر، بالشعرية الأصل. ويمكن أن نميز فيها بين توجهين كبيرين : أحدهما امتداد للأرسطية والثاني انقلاب عليها.


0 تعليقات:

إرسال تعليق