مفهوم الحضارة.. مجموعة بشرية اجتماعية ثقافية ذات مقاييس وأبعاد كبيرة

عندما نتساءل ما معنى الحضارة؟ أو ما تعريفها؟ أو ما ماهيتها؟ فإننا سنجد أنفسنا أمام تساؤل من الصعوبة بمكان أن نجد له جواباً جامعاً مانعاً، ينعقد عليه الإجماع ويلقى القبول والرضى من قبل كل المؤرخين والباحثين والفلاسفة.

ومع ذلك لا بد لنا من أن نقدم بعض التعريفات التي وردت في بعض المعاجم ولدى بعض الباحثين، وذلك بمقدار ما يحتاج إليه البحث، دون الدخول في كل التفريعات والتفصيلات الجزئية، أملاً في الوصول إلى تكوين مادة أولية من شأنها أن تيسر سبل البحث في موضوع بحثنا.
فقد ورد في معجم لسـان العرب لابن منظور تفسيرٌ لغويٌ للحضارة قال فيه: (الحضر: خلاف البدو. والحاضر: خلاف البادي. والحضارة: الإقامة في الحضر.
قال القطامي: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا.
والحضر والحضرة والحاضرة: خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار، والبادية يمكن اشتقاق اسمها من بدا أي برز وظهر.
إذاً حضر وبدا تعني الحضور والظهور الملازم ذلك الموضع دون سواه: الحضر والبادية).
ومن هذا المعنى يمكننا أن ننتقل إلى تعريف ابن خلدون للحضارة، حيث أنه فرق في مقدمته بين العمران البدوي والعمران الحضري.

فالبداوة عند ابن خلدون أصل الحضارة، فالبدو إذاً أقدم من الحضر، لأنهم يقتصرون على الضروري في أحوالهم وهم عاجزون عما فوقه، والحضر يعتنون بحاجات الترف والكمال في حياتهم، وفي هذا يقول: (ولاشك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه. ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما، ولكن نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي سعيه إلى مقترحه منها) وإذا كانت البداوة، عند ابن خلدون أصل الحضارة، فإن الحضارة، عنده، نهاية للعمران. وهي بهذا المعنى تلتقي مع لفظة المدنية، وقد عرف جميل صليبا في معجمه الفلسفي المدني بقوله: (هو المنسوب إلى المدينة (Cite) أو إلى الناس الذين يعيشون في المدينة) وكذلك استخدم ول ديورانت في مؤلفه قصة الحضارة (المدنية والحضارة بمعنى واحد).

وقد عرف لالاند المدنية في موسوعته الفلسفية أنها (حالة مجتمعية مقابل الحالة الطبيعية، وهي تنجم عند ج ج روسو وسان جوست  عن عقد اجتماعي).

وعرفت الحضارة في الموسوعة الفلسفية بالمعنى اللاتيني بأنها (مشتقة من المواطنة) وهناك أيضاً من رأى أن الحضارة مرادفة للثقافة، فهناك إذاً اتفاق على إقامة نوع من التطابق أو التداخل بين الثقافة والحضارة، فالثقافة لغةً تشير إلى التمكن من العلوم والفنون والآداب التي تعكس المناشط والاهتمامات المميزة لشعب ما، أو لأمة من الأمم.

إلا أن هناك طائفة من الباحثين تطلق لفظة الثقافة على تنمية الذوق الرفيع، وبعضهم الآخر يطلقه على نتيجة هذه التنمية أي على مجموع عناصر الحياة وأشكالها، ومظاهرها، في مجتمع من المجتمعات.
وكذلك فإن بعضهم يطلقه على نتيجة هذا الاكتساب، أي على حالة التقدم والرقي التي وصل إليها المجتمع.

(وإذا كان بعض العلماء يطلق لفظ الثقافة على المظاهر المادية، ولفظ الحضارة على المظاهر العقلية والأدبية فإن بعضهم الآخر يذهب إلى عكس ذلك فيقرر أن لفظ الحضارة يدل على جملة المظاهر المادية، بينما تدل الثقافة على مجمل النشاطات العقلية والروحية). 
وإذا كانت الثقافة لدى بعض المفكرين أوسع من الحضارة، فإن البعض الآخر يرى أن الحضارة أوسع من الثقافة، لأن الحضارة عندهم هي الثقافة مضافاً إليها القوة التي بدونها تصبح الحضارة عبارة عن طور دفاعي عن الوجود الثقافي. ويؤكد أصحاب هذا الرأي على الفكرة التالية: 
(إن الحضارة تقوم على فكرة حضارية، ذات كيان متناقض، وغير متطابق في كل جهاته ونقاطه مانحة إياها الحياة، ويطلقون على هذه الفكرة الحضارية اسم (روح الشعب) أو (روح الأمة) والتي تطبع بطابعها المميز، ولا تنهض على هذه الفكرة الحضارية، من وجهة نظرهم، إلا حضارة واحدة.). 

وهذه الفكرة التي ترى أن الحضارة هي الثقافة مضافاً إليها القوة يعتبر الدكتور " يوسف سلامة " أحد القائلين بها، حيث أنه يوضح لنا هذه الفكرة بقوله: 
(الأمر الجوهري الذي يجب ملاحظته في كل فكرة حضارية هو أنها تتسم جميعاً بميلها القوي إلى الكلية والشمول والانتشار عن طريق الغزو الذي قد يتخذ صوراً مختلفة).

وهناك بالمقابل، من رأى أن الحضارة سابقة في الوجود على التاريخ، وذلك لأن الحضارة، برأيهم، هي حالة نفسية وعقلية يعيشها الإنسان قبل أن تتجسد واقعاً في التاريخ.

وقد عرف "حسين مؤنس" الحضارة بهذا المعنى بقوله إنها: (حالة عقلية ونفسية قبل أن تكون حالة واقعة أي الصور الحضارية ينبغي أن تكون حاضرة في الذهن قبل الحركة التاريخية، وبتعبير آخر: الحضارة سابقة على التاريخ) ثم يقدم حسين مؤنس للحضارة تعريفاً أكثر شمولاً بقوله: (الحضارة ـ في مفهومها العام ـ هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول لتلك الثمرة مقصوداً، أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.

وهذا المفهوم للحضارة مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ، لأن التاريخ هو الزمن، والثمرات التي ذكرناها تحتاج إلى زمن لكي تطلع، أي أنها جزء من التاريخ، أو نتاج جانبي للتاريخ وكما أن ثمر الزروع والأشجار لا يطلع إلا بفعل الزمن إذ لا يمكن أن تزرع وتحصد ثمرة ما، في نفس الوقت فإن ثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان).

وقد رأى بعضهم أنه ليس للحضارة من سبب أو علة واحدة، بل هي نتيجة لمجموعة من الظروف الكونية أو البيئية، فالإنسان هيئ جسمياً وعقلياً ليتطور ويصبح في مقدوره أن ينشئ الحضارة.
والحضارة سريعة العطب فكما تتضافر العوامل لتراكم المنجزات والمكتسبات، كذلك تتضافر لتبديدها، فالحضارة هي نتيجة تجارب الإنسان وخلاصة مكتسباته.
ومن خلال التعريفات السابقة لمعنى الحضارة نستنتج أن مصطلح الحضارة يتداخل مع مصطلحين آخرين هما الثقافة والمدنية.

والواقع وإن كان بعضهم قد وحد بين الحضارة والثقافة أو بين الحضارة والمدنية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن يتطابق مصطلح الحضارة مع كلا المصطلحين أو مع أحدهما بحيث أننا لا نستطيع أن نميز بينهما، وبالمقابل فإننا لا نستطيع أن نفصل بين هذه المصطلحات الثلاثة فصلاً تاماً، لأنها مرتبطة ببعضها أشد الارتباط، ولذلك نستطيع أن نقول: إن العلاقة بين هذه المصطلحات قائمة على أساس التداخل والتمايز في آن معاً ولإزالة شيء من الالتباس القائم بين هذه المصطلحات المتداخلة من جهة، والمتمايزة عن بعضها من جهة أخرى، قال بعض الباحثين: (إن الثقافة تشمل الجانب الروحي والفكري والمعنوي من نشاط الفرد والجماعة في حين أن الجانب المادي العملي يقع تحت عنوان المدنية ويتمثل بالحرف والمهن والزراعات والصناعات المختلفة والأدوات والتجهيزات التي يحتاج إليها فيها، وما يلزم للإنسان في معاشه وحله وترحاله وسائر مناشطه العملية والترويحية.

أما حضارة أمة من الأمم فهي تعني مجموع مكونات ثقافتها ومدنيتها، إن الثقافة تشكل روح الحضارة وعقلها وقلبها ووجدانها، بينما تشكل المدنية مادتها وجسمها وهيكلها. إذاً الثقافة ليست الحضارة، بل هي جزء منها، وليست المدنية، بل هي باعثتها والموجهة لها)  ونستطيع أن نخلص من هذا الشرح للعلاقة بين الحضارة والثقافة والمدنية إلى نتيجة مفادها أن لكل حضارة مكونين رئيسين هما: الثقافة والمدنية، فالثقافة تشمل الجانب الروحي والفكري وهي المكون (النظري) للحضارة، والذي يعطي للحضارة هويتها الذاتية وطابعها الخاص وسماتها المميزة، والتي تنفرد بها عن باقي الحضارات، أما المكون الثاني للحضارة فهو المدنية، أي المكون (المادي)، وهو يشمل الجانب العملي (التطبيقي) للحضارة، وهو بدوره نتاج للمكون الأول في تفاعله مع بيئته وفقاً لشروط معينة تحددها ثقافة كل أمة من الأمم، وهذان المكونان الرئيسان للحضارة هما مجال التلاقي بين الحضارات، فتأخذ الحضارة اللاحقة عن الحضارة السابقة.

والمحصلة النهائية هي حدوث عملية تراكمية، يتقدم فيها اللاحق على السابق، ولكن تبقى هذه المحصلة النهائية عبارة عن تراث إنساني مشترك تسهم فيه كل حضارة بنصيب يتفاوت كماً ونوعاً ويتسع الاتصال بين الحضارات يوماً بعد يوم وخصوصاً في عصرنا الراهن بعد قيام ثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات. وما كان الاتصال بين الحضارات ليتم لو لم تكن الظواهر الحضارية قابلة للتناقل والتداول بين الشعوب والأمم، وهذا ما أشار إليه لالاند حين عرف الحضارة بقوله: (إن حضارة ما هي مجموعة ظواهر اجتماعية مركبة، ذات طبيعة قابلة للتناقل، تتسم بسمة دينية، أخلاقية، جمالية فنية، تقنية أو علمية ومشتركة بين كل الأجزاء في مجتمع عريض أو في عدة مجتمعات مترابطة).

وإذا عدنا لأرنولد توينبي ولمفهومه عن الحضارة فسنرى أنه قد رأى أن مفهوم الحضارة بمعناها الخاص، مقتصر على وجهة نظر الإنسان عن الحياة، أما بوجه عام، فالحضارة هي مجموعة الأفكار والرؤى والقيم السائدة التي توجه الإنسان، والتي تترك بصماتها وتلقي بظلالها على المنظومة الذهنية وأساليب وطرق التفكير لدى الإنسان، وعلى الدولة والمجتمع، وهي سمة المجتمع بما يحتويه من أفكار ومبادئ وعادات وتراثيات وطبيعة الحياة من الجهة النظرية والفكرية والعملية الخ، فالحضارة هي ما يحتويه الإنسان من الثقافة.

ويتحدث توينبي عن معنى الحضارة بشكل أدق (إنني أعني بالحضارة أصغر وحدة في الدراسة التاريخية يصل المرء إليها عندما يحاول أن يفهم تاريخ وطنه)  ويقصد توينبي بأصغر وحدة في الدراسة التاريخية ليس الدولة أو القومية، وإنما هي الحضارة، لأنها هي برأيه الوحدة الأساسية لدراسة التاريخ، وهذا يعني أنه إذا أردنا أن نفهم على سبيل المثال تركيبة الولايات المتحدة الأمريكية كما هي عليه اليوم، فإننا لن نستطيع ذلك حتى ندرس تاريخ أوروبا ومن قبلها تاريخ الرومان واليونان، لأنه يرى أن العلاقة بين الحضارة الهلينية والحضارة الأوربية الحديثة، والولايات المتحدة الأمريكية جزء منها، تقوم على أساس علاقة(الأبوة والبنوة).

وإذا كان الحال كذلك فكيف يمكننا أن نفهم الحضارة الهيلينية ؟ يجيب توينبي عن هذا السؤال بقوله: (إن جوهر الهلينية ليس جغرافياً أو لغوياً، وإنما هو اجتماعي ثقافي. لقد كانت الهلينية طريقة مميزة من طرائق الحياة، تجسمت في منظمة عليا هي المدينة الدولة. وإن أي امرئ استطاع أن يتأقلم مع الحياة على النسق الذي تجري عليه داخل المدينة الدولة ليعد هلينياً، بغض النظر عن أصله ومنبته.)  إذاً الانتماء للحضارة عند توينبي أوسع من نطاق اللغة أو الجغرافيا أو الدولة أو حتى فكرة القومية، إنها تشمل كل من يعتنق ثقافة مجتمع حضارة ما بغض النظر عن جنسه أو لونه أو انتمائه الطبقي أو الأثني أو الديني، ولذلك نجده يقدم لنا المثال التالي موضحاً قصده لفكرة الانتماء الحضاري (إن الإسكندر الأول ملك مقدونيا والبدوي خان سايليز الإسكيتي الذي عاش في القرن الخامس ق. م والقائد الروماني تيتوس كونكتيوس فلامينوس والكاهن الأعلى اليهودي يوشع جاسون في القرن الثاني ق.م، إن هم إلا أمثلة بارزة لهولاء الهلينين بالتبني).

وبالمقارنة بين التعريفات المتعددة للفلاسفة والباحثين الذين اجتهدوا لإعطاء تعريف محدد لمصطلح الحضارة نجد أنهم قد قدموا تعريفات متشعبة ومختلفة كما أن تعريفاتهم لهذا المصطلح قد أتت في مؤلفاتهم في سياقات مختلفة، وهي غير واضحة المعالم ولا محددة الأبعاد، إذ أنهم حملوا هذا المصطلح سمات وصفية متعددة، وصل بعضها إلى حد التناقض مع البعض الآخر، وينطبق هذا الكلام على تعريفات "أرنولد توينبي" للحضارة، وقد أشار هو بنفسه إلى هذا التنوع بقوله: (يصعب أن نلحظ ذلك الهامش المبهم للدراسات التاريخية ضمن الأطر القومية أياً كانت هذه الأطر، وعلينا أن نتوسع أكثر في آفاقنا التاريخية، كي نتمكن من التفكير بشكل منطقي في أسس الحضارة الشاملة).

إذاً نحن لا نستطيع أن نجد تعريفاً واضحاً لتوينبي لمعنى الحضارة بحيث يكون هذا التعريف قطعي الدلالة لا يكتنفه غموض أو يعتريه لبس، ولا يحتاج منا أن نغرق في عملية التأويلات والاجتهادات. ولعل التعريف القائل إن الحضارة (هي مجموعة بشرية اجتماعية ثقافية ذات مقاييس وأبعاد كبيرة) هو أكثر تعريف يقترب من مفهوم توينبي للحضارة لأن توينبي قد اعتبر أن الحضارة هي الشكل الأكثر أصالة وواقعية للمجتمع البشري.