تحليل نص فلسفي: المدينة والسعادة.. السعادة تدبير للفرد أم للمدينة؟ العدة المنهجية للتدليل على صدق نظرية في الاجتماع



وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه. وكل واحد من كل واحد بهذه الحال.

فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال الذي لأجله جعلت الفطرة الطبيعية إلا باجتماعات كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد ببعض ما يحتاج إليه في قوامه، فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال.

ولهذا أكثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة في الأرض فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية فمنها الكاملة ومنها الغير الكاملة، والكاملة ثلاث: عظمى ووسطى وصغرى.

فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة.
والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة.
والصغرى اجتماع أهل المدينة في جزء من مسكن أمة.

وغير الكاملة: اجتماع أهل القرية واجتماع أهل المحلة ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل، وأصغرها المنزل.
والمحلة والقرية وهما جميعا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلة والقرية وهما جميعا لأهل المدينة، إلا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلة للمدينة على أنها جزؤها، والسكة جزء المحلة، والمنزل جزء السكة، والمدينة جزء مسكن أمة، والأمة جزء جملة أهل المعمورة.

فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال أولا بالمدينة لا بالاجتماع  الذي هو أنقص منها، ولما كان شأن الخير في الحقيقة، يكون ينال الخير باختيار والإرادة، وكذلك الشرور إنما تكون بالإرادة والاختيار. أمكن أن تجعل المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور، فلذلك كل مدينة يمكن أن ينال بها السعادة. فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل. والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة.  وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة.

والمدينة الفاضلة تشبه البن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه، وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مرتبها من ذلك الرئيس... وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيآت، وفيها إنسان هو رئيس وآخر يقرب مراتبها من الرئيس.. ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى أخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في آخر المراتب ويكونون هم الأسفلين«

صاحب النص:
أبو نصر الفارابي

مرجع النص:
كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة على الصفحات 117-119 = 105 من الكتاب المدرسي، السنة الثانية، آداب عصرية.

قراءة في العنوان:
كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" هو كتب لأبي نصر الفارابي كتبه في فترة النضج الفكري والسياسي، والمقصود هو سن مجموعة من التشريعات: الآراء أو العقائد التي إذا تم الاعتقاد في صحتها والعمل بها كنا في مأمن من العيش في اجتماع غير فاضل.

وقد ساق في الفصول الأولى منه معتقدات تخص الأول (الله)، وقد عرض أفكاره كما كان المتكلون يعرضونها.
ثم انتقل إلى علم الطبيعة الأرسطي وقدم معالم نظريته في الفيض، وكيف يصدر عن الأول سائر الموجودات وفق ترتيب محكم، حيث انشأ نظاما هرميا للكون بناء على النموذج الكوني، وعلى النموذج العضوي للجسم البشري، وبعد ذلك عرض لنظريته في السياسة والاجتماع.

موقع النــص:
درس السعادة، ضمن محور: السعادة تدبير للفرد أم للمدينة؟.

مقصد النص:
البرهنة على ضرورة الاجتماع مزاياه وكماله بالمقارنة مع أنواع الاجتماعات غير الكاملة.
فقد قسم الفارابي الاجتماعات إلى كاملة وغير كاملة.

أما الاجتماعات الكاملة فهي على ثلاثة أقسام:
عظمى في كل المعمورة.
ووسطى في جزء من المعمورة.
ثم صغرى في مدينة وهي أصغر جزء يتحقق به الاجتماع الفاضل.

ومن أجل تفكيك بنية النص قد نلجأ إلى المنهج الذي ساقه ميشيل طوزي فنرسم جدولا من ثلاثة أعمدة: نخصص الأول لما يقوله صاحب النص دونما تحريف، بغية تفكيك بنيته الأساسية.

أما العمود الثاني فنخصصه لشروحاتنا والإضافات التي نأتي بها شريطة عدم تحريفها عن مدارها، والتي يمكن تسجيلها باختصار، (...) وكذا لحجج الأطروحة التي يدافع عنها، وفي هذا المثال هنا للفارابي تلك العدة المنهجية للتدليل على صدق نظرية في الاجتماع.
أما العمود الثالث فمخصص لأسئلتنا، إما التي تحتاج إلى مزيد من المناقشة؟ وإما تلك التي نسائل من خلالها فكر الفيلسوف.