المذهب المثالي في التربية.. إحاطة الطفل بالمثل العليا والاهتمام بالرياضة البدنية لا من أجل الجسم وإنما من أجل العقل



"المذهب المثالي" من مذاهب التربية الغربية فهو - في حقيقته - صدى لفلسفة أفلاطون، وتعبير عن نظريته المسماة بـ "المثل"، ومؤدى هذه النظرية أن ثمة عالمين اثنين: عالماً حسياً يتألف من "الأجسام"، وعالماً معقولاً يتألف من المجردات التي هي "المُثُل".

وبناء على ذلك قال الغربيون: إن الإنسان يعيش في عالمين: عالم مادي متغيّر، وعالم روحاني خالد، وهذا الأخير هو عالم المثل العليا التي تشكل الهدف الأسمى للتربية والحياة.

وهكذا رأى الغربيون في الإنسان جانبيْن: جانباً روحياً سامياً، وجانباً جسدياً تحكمه النوازع الدنيا والشهوات، وهذان الجانبان كالخطين المتوازيين يتجاوران ولا يلتقيان، ويتناقضان ولا يتكاملان، وهو ما أدى إلى قيام سلطتين في بلاد الغرب: سلطة روحية تشرف عليها الكنيسة، وسلطة زمنية قوامها حكم الواقع مفصولاً عن الدين، وترتّب على ذلك الاعتقاد بأن الإنسان أوْلى بالدرس من العالم الخارجي، وأن العلوم الإنسانية أهم من العلوم الطبيعية.

على أنّ دراسة الغربيين للإنسان - سواء قُدِّمت أم أُخّرت - في ظل عقيدتهم القائمة على فصل الدين عن الحياة لا تأتـي بخير، لأن المقدمات الخاطئة لا تقود إلى نتائج صحيحة؛ ولذا لم تستطع الدراسات الغربية في مجال النفس والتربية والاجتماع الرقي إلى مستوى العلم، وإن سُمّيت باسم العلم، وهو ما يؤكده إخفاق الغربيين في وقف التدهور السلوكي الذي يُنذر المجتمعات الغربية بأوخم العواقب.

والنظرة المثالية الغربية بما ترتب عليها من فصل بين الدين والحياة خاطئة ومدمرة، وهي - كما يقول (علي عزت بيجوفيتش) رئيس جمهورية البوسنة والهرسك في كتابه المعروف: (الإسلام بين الشرق والغرب) - هي المسؤولة عن إخفاق الأيديولوجيات الكبرى في العالم؛ فهذه النظرة هي التي شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة، وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، والصواب أنها "وحدة ثنائية القطب، تضم القضيتين المتصادمتين في العقل الغربي ألا وهما: الروح والمادة، السماوي والأرضي، الإنساني والحيواني، الدين والدنيا.

وهذان المتناقضان يوجدان معاً وجود تفاعل وتزاوج وتكامل.. كما تتفاعل ذرات الأوكسجين مع ذرات الإيدروجين لتنتج الماء الذي يشرب منه الإنسان والحيوان والنبات".

وقد نبّه بيجوفيتش على أن طبيعة العقل الأوروبي (أحادي النظرة) كانت سبباً في عجزه عن فهم حقيقة الإسلام؛ ولذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين متعارضين؛ فقد أنكره الماديون منهم بوصفه اتجاهاً يمينياً أي دين غيبيات، بينما أنكره المتدينون لأنهم رأوا فيه اتجاهاً يسارياً أي حركة اجتماعية سياسية.

ولا تغني عن المذهب المثالي دعـواه أنه إنما يريد - من خلال التربية - أن يحيط الطفل بالمثل العليا؛ لأنه لا يدري ما المثل العليا على وجه التحديد.

يقول سير برسي نن: "نستطيع أن نحكم بأنه لا يمكن أن يكون هناك غرض عام للتربية ما دام هذا الغرض يحقق مُثُلاً عليا؛ لأن هذه المثل تتعدد بتعدد الأفراد".

وهذا الاتجاه العقلي للفلسفة المثالية قد وضع العقل -بلا شك- في مرتبة ذات أهمية كبرى، بحيث لا يكون العقل شيئا آخر غير الروح مادام يشارك في طبيعة المطلق.

وبالرغم من وجود الجسم والبيئة الاجتماعية والطبيعية إلا أنهما في النهاية يدخلان في دائرة العقل ويذوبان داخله.

ولذلك فالطبيعة الإنسانية لا ينظر إليها على أنها جسم منفصل يستجيب لدوافع بيئية، ولكنه جوهر لا يتأثر بعامته إذا تأثر جزؤه.

ولهذا تنادي هذه النظرية بتربية الإنسان من جميع جوانبه حتى يصبح كلا مستقيما، ولكن يبقى العقل هو صاحب الاهتمام الأكبر في مناهج هذه النظرية.

إن الواقع بالنسبة للمثالي هو عالم العقل، والواقعية شيء خيالي أو روحي وليس ماديا، ويعتقد المثاليون أن الطبيعة تعتمد على العقل الشامل لله.

وبناء على هذه النظرة، فالتعلم ليس ابتكارا وإبداعا- ولكنه تحقيق الفكرة المطلقة بالنسبة للحقيقة والخير والمثل التي وضعت سلفا.

وليست قيمة الأفكار مبنية على ما لها من أهمية في حياة التلاميذ أو ضرورة في إنجاز مشروعاتهم، أو في ترقية حياتهم، بل إن قيمة الأفكار في ذاتها، حيث إنها تصور الواقع الممثل للحقائق اللانهائية، ومن أجل ذلك فالأفكار جديرة بالتعلم. وهي تستحق أن يكون تعلمها هدفا في حد ذاته.

والمثالية –عموما- وثيقة الصلة بالدين. وتؤمن هذه النظرية بأهمية الحق والخير والجمال.
ويهتم المثاليون بالرياضة البدنية، لا من أجل الجسم، فهم لا يهتمون بالمادة، وإنما من أجل العقل.

إن أصحاب هذا الاتجاه يهتمون بالمثل العليا بالدرجة الأولى.. فهم ينظمون تجارب الجنس البشري ويركزونها ليقدموها لقمة سائغة إلى الطفل.

وهذه الخبرة بحسب مروجي النظرية هذه هي نوعين منها ما يختص بالبيئة الطبيعية ومنها ما يختص بالإنسان أي العلوم والإنسانيات.

وتعتبر المثالية من أقدم الفلسفات في الثقافة الغربية، التي ارتبط ظهورها ارتباطا وثيقا بزعيمها المفكر اليوناني أفلاطون، وهي كما عرفها لالاند: "الاتجاه الفلسفي الذي يرجع كل وجود إلى الفكر بالمعنى الأعم لهذه الكلمة".

بمعنى آخر هي المذهب الذي يقول أن الأشياء الواقعية ليست شيئا آخر غير أفكارنا، وهي الفكرة التي نجدها عند أفلاطون في المثل العليا، إذ يرى أن أنفسنا كانت تسبح في هذا العالم، أين عرفت أسماء الأشياء بصورتها التامة، الكاملة، قبل نزولها إلى الأرض، وولوجها في الجسد أنساها أسماء الأشياء، فأصبحت تحاكي ما رأته وتعلمته في المثل العليا أو العالم الحقيقي، ومن أبرز أعلامها: أفلاطون.هيجل...الخ.

ولد أفلاطون في سنة 427 ق.م في جزيرة قريبة من شاطئ أثينا، واسمه في الأصل أرسطوقليس. ينحدر من أشراف أثينا ذوي المنزلة والثراء.

تعلم القراءة والكتابة، حفظ شعر هوميروس، ومبادئ الحساب والهندسة والموسيقى.
كان ذو ذكاء حاد، عميق الفكر، حسن الحديث، بارع النكتة، ومحبا للجمال. عاش حتى الثمانين من عمره، توفي سنة 347 ق.م.