شعر إسماعيل صبري: زعامة الشعر العربي التي ولت.. عندما نزع الشعر العربي عن رأسه عمامة المشيخة ونشرها للموت فكانت الكفن الذي طوي فيه بقية شيوخ الأدب



في الحادي والعشرين من شهر مارس من سنتنا هذه نزع الشعر العربي عن رأسه عمامة المشيخة ونشرها للموت، فكانت الكفن الذي طوي فيه بقية شيوخ الأدب: المرحوم إسماعيل باشا صبري.

كان -رحمه الله- من الرجال الذين نشأوا في تاريخ لا ينشئ رجلًا، وجاءوا في غير زمنهم ليجيء بهم زمنهم بعد؛ وهؤلاء إن لم يكن فيهم قوة أكبر من القوة، فهم أقدار وأحداث تولد وتنشأ وتنمو في أسلوب إنساني؛ ليتم بها شيء كان نقصًا، ويحسن شيئًا كان هجنة، ويوجد أمرًا كان عدمًا؛ ثم ليكون للزمن منها حدود يبدأ عند الواحد منها فيتغير فيه ويتحول به ويخرج معه في بعض معانيه زمنًا جديدًا في رجل جديد.

كذلك كان صبري في منحى من مناحي الشعر، وكان البارودي -رحمهما الله- في منحى آخر؛ فهما طرفا المحور الذي استدار عليه هذا الفلك ليبدأ بعد تاريخه الميت تاريخًا حيًّا، وليخرج من الجو القاتم في أعراض الأرض إلى الفضاء المشرق بمعاني السماء، ثم لينفض عنه في مهب الرياح العلوية ما لصق به من طباع أهله وأخلاقهم، ويغلق بها ما فتح الزمن عليهم من أبواب هذه الحرفة، فكان الشعر في حاجة إلى رجل كالملك، فأصاب رجلين؛ وعلم الله ما رأيت في كل من رأيتهم من الشعراء نفسًا تعد معهما، ولا خلقًا يجري في أخلاقهما، ولا ظرفًا ولا رقة ولا أدبًا ولا شيئًا يصلح أن يكون شرحًا منهما أو توكيدًا لشيء فيهما أو تقوية لمعنى من معانيهما، كأنما وجدا ليكون أحدهما مبدأ والآخر نهاية، ولينفردا انفراد الطرفين من المسافة بالغة ما بلغت.

كان الشعر لعهدهما بقية رثة في معرض خلق مما كان يسميه أدباء الأندلس بالأغراض المشرقية وطريقة المشارقة، وهم يعنون بذلك الصناعة والتكلف للبديع والانصراف إلى اللفظ واستكراهه على الوجه الذي أرادوا، إلى ما يتشعب من ذلك ويخرج أو يدخل في بابه؛ وقد كان هذا ومثله مما يساغ ويحتمل في القرن الثامن وأكثر التاسع للهجرة، ثم في أيام بعد ذلك؛ غير أنه بلي وتهتك في مصر خاصة ولم يبق منه إلى منتصف القرن الثالث عشر إلا رقع وخيوط في قصائد ومقاطيع.
---------------
* هو إسماعيل باشا صبري، توفي رحمه الله في شهر مارس سنة1923م.
1 المقتطف: مايو سنة1923.

ثم كان أكثر الشعراء يومئذ إنما يحترفون فن الأدب صناعة كسائر المهن والصناعات التي بها قوام العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة.

ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات، ولكن الأدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحولا فيه؛ ثم نبغ صبري بعد ذلك بزمن، فتحول فيه الأدب الإفرنجي والرقة العربية؛ وهذا موضع التفاوت في شعر الرجلين اللذين اقتنصا الخيال الشعري من طرفي الأرض، وكلاهما يذهب مذهبًا ويرجع إلى طبع ويروض شعره على وجه؛ فالبارودي يستجزل ويجمع إلى سبكه الجيد قوة الفخامة وشدة الجزالة، ثم يعترض الخيال من حيث يهبط على النفس في ممر الوحي؛ وصبري يسترق ويضيف إلى صفاء لفظه جمال التخير وحلاوة الرقة، ويعارض الفكر من حيث يتصل بالقلب.

والبارودي لا يرى إلا ميزان اللسان يقيم عليه حروفه وكلماته، وصبري لا يرى إلا ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسان؛ وقد يسرت لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرف فيه؛ فجاء البارودي حافظًا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمولدين، وجاء صبري مفكرًا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشتركان معًا في التلوم على صنعة الشعر والتأني في عمله وتقليبه على وجوه من التصفح، وتمحيصه بالنقد والابتلاء لفظًا لفظًا وجملة جملة، ثم مطاولة معانيه ومصابرتها كأنما ينتزعان محاسنها من أيدي الملائكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهما؛ وقال لي صبري باشا مرة وقد جاريته في بعض هذا المعنى: إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه. قلت: أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال: وفي سواد شطرة أحيانًا! وليس ينقصهما هذا الأمر شيئًا، فإن خبر زهير في حولياته معروف، وقد عمل سبع قصائد في سبع ستين: يحوك القصيدة منها في سنة.

ونقلوا عن مروان بن أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس؛ فقيل هذا هو الحولي المنقح.

كان مرجع البارودي إلى الحفظ، فنبغ في وثبات قليلة؛ أما صبري فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيته وآتته أسبابه على الإجادة، لأن مرجعه إلى الذوق، وهذا يكتسب بالمران وينضج عند نضوج الفكر ولا يأتي بالماء والرونق حتى تأتي له أسباب كثيرة؛ وأنت تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما، فقد رثى البارودي أباه في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها:
لا فارس اليوم يحمي السرح بالواديطاح الردى بشهاب الحي والنادي

وهي ثمانية عشر بيتًا، وجيدها جيد، وكأنها خرجت من لسان أعرابي؛ وإنما جاءته من صنعة الحفظ، كالذي اتفق للشريف الرضي في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أبوه معتقلًا بقلعة شيراز ومطلعها:
أبلغا عني الحسين ألوكًاإن ذا الطود بعد بعدك ساخا
والشهاب الذي اصطليت لظاهعكست ضوءه الخطوب فباخا

هذا على أن البداية كما يقال مزلة؛ وقد وفقنا إلى الوقوف على أول ما نشر من شعر صبري باشا، وذلك قصيدتان نشرتا في مجلة روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا، فنشرت الأولى في العدد الصادر في غاية شوال سنة 1287 للهجرة -1870 للميلاد؛ ونشرت الثانية في عدد شهر ربيع الآخر من سنة 1288هـ 1871م؛ وبينهما خمسة أشهر، كانت وثبته فيها ضعيفة متقاصرة، مما يدل على بطء نضجه بطبيعة الأسباب التي تسبب بها إلى الشعر؛ وكانت الروضة يومئذ تنشر لطائفة من فحول دهرهم: كالسيد صالح مجدي، ورفاعة بك رافع، ومحمد أفندي قدري "ونابغة الزمان محمد أفندي رضوان"، وغيرهم.

وكانت تستقبل قصائدهم بسجعات داوية مفرقعة، هي لذلك العهد أشبه الأشياء بطلقات مدافع التحية للملوك والأمراء؛ فلما نشرت لصبري قالت في القصيدة الأولى: تهنئة بالعيد الأكبر للخديوي الأعظم بقلم إسماعيل صبري أفندي". وقالت في الثانية: "قصيدة رائية في مدح الحضرة الخديوية من نظم الشاب النجيب إسماعيل صبري أفندي من تلامذة مدرسة الإدارة". ومطلع القصيدة الأولى:
سفرت فلاح لنا هلال سعودونما الغرام بقلبي المعمود
ولا شيء فيها أكثر من حروف المطبعة... ومطلع الثانية:
أغرتك الغراء أم طلعة البدروقامتك الهيفاءُ أم عادل السمرِ

وفي هذه القصيدة بيت وقفت عنده أرى صبري باشا في صبري أفندي كأنه خيال مولود يستهل، وذلك قوله:
فطول من الهجران عل وقوفناطول معا -يا قاتلي- ساعة الحشر

ويكاد هذا البيت يكون أول انقلاب للفكرة فيه: وهو غريب، والتأمل فيه أغرب، ولكنه يدل على خيال سيثب يومًا على أقطار السموات.
وفي ذلك الزمن عينه كان البارودي شهابًا يتلهب، وكان قد بلغ مبلغه واستجمع أسباب نهايته، بل هو نظم قبل ذلك بست سنوات قصيدته الشهيرة:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفانوهفا السرى بأعنة الفرسان

فلم يكن ليذهب وجه الشعر عن صبري، ولم يكن ليغضي عند احتذاء هذه الصنعة البارعة ويأخذ في غيرها لولا أن فيه طبعًا مستقلًا يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسلوب كل زهرة في غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يرد أن يكون شاعرًا فجاء أكبر من شاعر، وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه الذي جاء به من ناحية أخرى.

ينبغ الشاعر بأربعة أشياء لا بد منها: طريقة الدرس التي عالج بها الشعر، وكتب هذه الطريقة، والرجال الذين هم أمثلتها في نفسه، ثم ... ويالله من "ثم" هذه، فهي اللمحة السماوية التي تشرق على فؤاد الشاعر من وجه جميل، والثلاث الأولى تنشئ نبوغًا معروفًا في نوعه ومقداره، ولكن الأحيرة هي طريق القدر التي لا يعرف آخرها؛ وإذا تجددت في حياة الشاعر أو اتصلت تجدد بها نبوغه أو اتصل، فعلى قدر ما يحب تحبوه السماء من أسرار الجمال، وهي نفسها أجمل أسباب الشعر وأجمل معانيه وأجمل غاياته، فهي هي المادة التي تؤلف بين نفس الشاعر وبين معنى الجمال الشعري في هذا الكون كله؛ وإذا أنت نزعت النظرة والابتسامة -وهما عنصرا تلك المادة- من حياة الشاعر، نزعت الحياة نفسها في شعره فما يبقى منه إلا أنه مقبرة للألفاظ والمعاني، وتسمع شعره فلا تجزيه به أحسن من قولك: يرحمك الله... وصبري لم يدرس الشعر في الكتب أكثر مما درسه في الوجوه والعيون، وقد عالج هذا الشعر في بدايته ليتأتى إليه من طرقه البعيدة؛ أما الرجال الذين كانوا أمثلته فكانوا رجال الظرف والرقة والنكتة المصرية الشهيرة التي انفرد بها الطبع المصري ونص عليها علماء البلاغة، كالسكاكي وغيره؛؛ بل كان عصره كله عصر هذه النكتة، فتحولت في طبعه الرقيق المبتكر تحولًا رقيقًا أرجعها إلى الظرف المحض الذي اجتمعت فيه كل طباعه كما يجتمع السحاب من الماء.

ولقد كان في شعره أحق الناس بقول ابن سعيد المغربي:
أسكان مصر جاور النيل أرضكمفأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر فما بقيسوى أثر يبدو على النظم والنثر

وإني لأعلم أنه كان دائم الحب: يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيخرج منهما حبًّا جديدًا؛ وكان الرجل كأنه مجروح القلب، فلا يزال يئن حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يرسل النفس الطويل بين هنيهة وأخرى، وكأنه يريد أن يطمئن أن نفسه فيه، أو أن شيئًا باقيًا في نفسه؛ وتلك همهمة لا تكون في شاعر من الشعراء بغير معنى.

كانت النظرة والابتسامة تتمثل له حيث شاء وتعترضه حيث أراد أن يراها، فيجد في كل شيء روحًا من الشعر، ويقرأ لمحاتها متى التمعت، وكان يعيش في ذات نفسه كأنه معنى في قصيدة هو أمير أبياتها.

فشاعرنا هذا أخرجه اثنان: الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يعد من الشعراء؛ لأنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلوى التي ابتلوا بها...

ولقد هم صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كان في منال يده على أنه محا منه بإهماله أكثر مما أثبت؛ وعلمت منه أنه لم يدون شيئًا، وأنه ينسى متى انتهوا إلى التحقيق رأوا عمرهم كله بداية ورأوا ما فعلوا باطلًا فغسلوا كتبهم أو أحرقوها، ولكنا لم نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتدوين، وإن كان بعضهم يأنف لنفسه أن يعد من الشعراء وهو مع ذلك يجمع يده على شعره، كالشريف الرضي الذي يقول:
ما لك ترضى أن تعد شاعرًابعدًا لها من عدد الفضائل

ويقول في مدح أبيه:
إني لأرضى أن أراك ممدحًاوعلاك لا ترضى بأني شاعر
ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

ولإفراط صبري في الظرف والجمال وقيام شعره على هذين الركنين، جاء مقلًّا من أصحاب القصار، وزاد إقلاله في قيمة شعره، فخرجت مقاطيعه مخرج الشيء الطريف الذي يتعجب منه في وجوده أكثر مما يتعجب منه لقلة وجوده؛ وبذلك ربح تعب المكثرين والمطيلين؛ إذ كان لا يقول إلا فيما تؤاتيه السجية وينزع الطبع، فيدنو مأخذه ويكثر بقليله ويرمي منه بمثل الحجة والبرهان، فيطمس بهما على كلام طويل وجدل عريض.

ولا يعيب المقل أنه مقل إذا كثرت حسناته، بل ذلك أعون له على القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يغريها بطلب المزيد منه؛ وقد عدوا بين المقلين في الجاهلية: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام، والمتلمس، والحارث بن حلزة، وابن كلثوم، وغيرهم أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب"؛ ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة: كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد: كعلقمة، أو بأربع: كعدي بن زيد؛ ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة، ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يعرفون الشاعر بالبيت الفرد؛ لأن العرب إنما يعتبرون الشعر بمقدار ما يحرك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلب، لا بالطول ولا بالقصر، وقد قالوا في بيت النابغة:

ولست بمستبق أخا لا تلمهعلى شعث؛ أي الرجال المهذب؟
إنه لا نظير له في كلام العرب؛ وما ذلك إلا على الاعتبار الذي أشرنا إليه. وكانوا يسمون البيت الواحد: يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمي قصيدًا.

وكان من الشعراء من يعتمد أن لا يجيء في شعره الجيد بغير البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، كشاعرنا صبري باشا؛ ومنهم عقيل بن علقمة:كان يقصر هجاءه ويقول: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومنهم أبو المهوس، وكان يحتج لذلك بأنه لم يجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم يجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا؛ ومنهم الجماز: قال له بعضهم وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة؟؟ وابن لنكك المصري، وابن فارس، ومنصور الفقيه الذي كان يقال فيه: إذا رمح بزوجيه قتل. ولا نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضعًا.
غير أن صبري كان له مع جودة المقاطيع جودة القصيد إذا قصَّد، كقوم عرفوا بذلك في التاريخ، منهم العباس بن الأحنف وسواه، وكان من أسباب إقلاله ما أعلمني به من أن طريقته في أكثر ما ينظم معارضة معنى يقف عليه، أو تضمين حكمة، أو ضرب مثل على طريقة النظر والملاحظة، أو تدوين خطرة عرضت له، أو لمحة أوحيت إليه؛ وهو ينزل في ذلك على النصفة والمعدلة فلا ينتحل شيئًا ليس له، بل يدلك بنفسه على الأصل الذي منه أخذ أو المثال الذي عليه احتذى.
قال لي مرة: إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله:
قضيت إلهي بالعذاب فيا ترىبأي مكان بالعذاب تدين
وليس عذاب حيثما أنت كائنوأي مكان لست فيه تكون؟
ثم قال: فأخذت من هذا المعنى وقلت:
يا رب أين ترى تقام جهنمللظالمين غدًا وللأشرار
لم يبق عفوك في السموات العلىوالأرض شبرًا خاليًا للنار
يا رب ألهني لفضلك واكفنيشطط العقول وفتنة الأفكار
ومُرِ الوجود يشف عنك لكي أرىغضب اللطيف ورحمة الجبار
يا عالم الأسرار حسبي محنةعلمي بأنك عالم الأسرار

والفرق بين الشعرين أن البستاني جاء بكلامه على طريقة المتصوفة التي يسمونها طريقة أهل التحقيق، كابن العربي والششتري؛ وأما صبري فانظر كيف استوفى وكيف لاءم وكيف امتلأت أعطاف شعره. وقد يأخذ المأخذ الدقيق الذي لا ينتبه له إلا المطَّلع الحاذق بصناعة الكلام، كقوله:
إذا ما صديق عقني بعداوةوفوقت يومًا في مقاتله سهمي
تعرض طيف الود بيني وبينهفكسر سهمي فانثنيت ولم أرم

فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وعلة:
قومي هم قتلوا أميم أخيفإذا رميت يصيبني سهمي

ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله: "تعرض طيف الود بيني وبينه" وهو من قول العباس بن الأحنف:
وإذا ما مددت طرفي إلى غيرك مثِّلت دونه فأراكا

فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيف جعل له معرضًا جديدًا وكيف أداه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع.
ومن شعره السائر قوله في العناق وتلازم الحبيبين:
ولما التقينا قرب الشوق جهدهشجيين فاضا لوعة وعتابا
كأن صديقًا في خلال صديقهتسرب أثناء العناق وغابا

وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول، وأصله لبشار -أظن- في قوله1:
وبتنا جميعًا لو تراق زجاجةمن الخمر فيما بيننا لم تسرب

فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجة المنصدعة جوهرة تتألق؛ على أني لا أستحسن قوله: "كأن صديقًا..." فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعًا من سفر الآخرة؛ وإذا غاب واحد في الآخر، فالآخر حامل به... وقد أخذت أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديت إليه، فقلت في ذلك:
ولما التقينا ضمنا الحب ضمةبها كل ما في مهجتينا من الحب
وشد الهوى صدرًا لصدر كأنمايريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب

وأحسن ما تجد شعر صبري في الغزل والنسيب والوصف والحكمة، فهي عناصر قلبه وذوقه، ولا يتصرف معه أقوى ما يتصرف إلا في هذه الأغراض، ولعله إن جاوزها قصر معه شيئًا ما وضعفت أداته ضعفًا ما؛ لأنه يكون شاعر الصنعة وهو يأباها ويكره أن يكون شاعرًا من أجلها؛ وقلما يجاريه أحد في تلك الأغراض، وهو الذي فتح أبوابها؛ وحسبك أنه المثال الذي احتذى عليه شوقي بك؛ وقد ينقسم المعنى الواحد في رجلين حين يقدر، فإذا لم يوجد أحدهما لم يوجد الآخر، وأنا أرى وأعلم أنه لولا صبري لما نبغ شوقي، وكان هذا يختلف إليه يعرض عليه شعره ويرجع بآثار ذوقه فيه، وكذلك كان يفعل خليفة البارودي حافظ بك إبراهيم، واسترفد شوقي من صبري باشا هذا البيت السائر:
صوني جمالك عنا إننا بشرمن التراب وهذا الحسن روحاني
---------------
1 البيت لعلي بن الجهم، وقبله:
ألا رب ليل ضمنا بعد هجعةوأدنى فؤادًا من فؤاد معذب
أخذه من قول بشار:
ومرتجة الأعطاف مهضومة الحشاتمور بسحر عينها وتدور
إذا نظرت صبت عليك صبابةوكادت قلوب العاشقين تطير
خلوت بها لا يخلص الماء بينناإلى الصبح دوني حاجب وستور

فهو لصبري باشا، والمرافدة سنة معروفة من قديم، وهي غير الانتحال وغير السرقة وما يسمى إغارة وغصبًا؛ وقد استرفد النابغة زهيرًا ابنه كعبًا فرفده، والحكاية في ذلك مشهورة عنه وعن سواه.

ولم يكن في مصر ممن يحسن ذوق البيان وتمييز أقدار الألفاظ بعضها من بعض وألوان دلالاتها كالبارودي وصبري وإبراهيم المويلحي والشيخ محمد عبده، رحمهم الله جميعا؛ والبارودي يذوق بالسليقة، وصبري بالعاطفة، والمويلحي بالظرف، والشيخ بالبصيرة النفاذة؛ وذلك شيء ركبه الله في طبيعة صبري لم يحصله بالدرس أكثر مما حصله بالحس، ومن أجله كان يفضل البحتري على غيره، وهو بلا نزاع بحتري مصر، كما لقبوا ابن زيدون بحتري المغرب؛ وإنك لتجد بعض الألفاظ في شعر الرجل كأنها شعر مع الشعر، فتقف على العبارة منها وقلبك يتنفس عليها كأنها إنما وضعت لقلبك خاصة، فهي تغمز عليه غمزًا وكأنها نفثة ملك من الملائكة جاءتك في نفس من أنفاس الجنة.

ويمتاز نسيبه بأنه يكاد يكون في طهارته وعفته ضوءًا من جمال الشمس والقمر، وهو عندي أنسب من العباس بن الأحنف الذي صرف كل شعره إلى هذا المعنى؛ ولو أن عصره كان عصر أدب صحيح لأخمل كل شعراء هذا الباب، من ابن أبي ربيعة إلى طبقة عشاق العرب إلى أئمة الطريقة الغرامية لآخر القرن السابع.

ومن غزله البديع قوله:
يا من أقام فؤادي إذ تملكهما بين نارين من شوق ومن شجن
تفديك أعين قوم حولك ازدحمتعطشى إلى نهلة من وجهك الحسن
جردت كل مليح من ملاحتهلم تتق الله في ظبي ولا غصن

وقوله:
أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعةولا بشافعة في رد ما كانا
سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنًاخفق الصبابة فاخفق وحدك الآنا

ويا رحمة الله للقلب الذي يفهم هذا البيت، فإنه ليجن به من يكون فيه استعداد لهذا النوع من الجنون.
ومن قلائده الغرامية قوله:
يا آسى الحي هل فتشت في كبديوهل تبينت داء في زواياها
أواه من حرق أودت بمعظمهاولم تزل تتمشى في بقاياها
يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بهافالقلب يخفق ذعرًا في حناياها

وله قصيدة "تمثال جمال" وقد نظمها لتنقل إلى الفرنسوية، ومن عيونها قوله:
وابسمي، من كان هذا ثغرهيملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء
لا تخافي شططًا من أنفستعثر الصبوة فيها بالحياء
راضت النخوة من أخلاقنا وارتضى آدابنا حسن الولاء
فلو امتدت أمانينا إلىملك ما كدرت ذاك الصفاء

والشعراء من أول تاريخ الأدب إلى اليوم يقولون في معنى قوله: "لا تخافي شططا" الأبيات، وما منهم من وفق إلى مثل هذا البيت الأخير، وإن كان بعضهم بلغ الغاية، كابن نباتة السعدي والسري الرفاء وغيرهما.

ومن أبدع ما اتفق له في الوصف أبيات في الدواة تخلص في آخرها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تخلص ليس في الشعر العربي كله مثله في الإبداع وحسن الاختراع، يقول فيها:
أكرمي العلم وامنحي خادميه ماءك الغالي النفيس الثمينا
وابذلي الصافي المطهر منهلهداة السرائر المرشدينا
وإذا الظلم والظلام استعانايوم نحس بأجهل الجاهلينا
واستمدا من الشرور مدادًافاجعليه من قسمة الظالمينا
واقذفي في النقطة التي بات فيهاغضب القاهر المذل كمينا
ليراع امرئ إذا خط سطرانبذ الحق وارتضى المين دينا
وإذا كان فيك نقطة سوءكونت من خباثة تكوينا
فاجعليها قسط الذين استباحوافي السياسات حرمة الأضعفينا
وإذا خفت أن يكون من الصخر جلاميد ترجم السامعينا
فابخلي بالمداد بخلا وإن أعطيت فيه المئين ثم المئينا
فإذا أعوز المداد طبيبايصف الداء دائبًا مستعينا
فامنحيه المراد منا وعرفًاواستطيبي معونة المحسنينا
وإذا مهجة الحمائم أسدتنقطة سرها الزكي المصونا
فاجعليها على المودات وقفًاوهبيها رسائل الشيقينا
فإذا لم يكن بقلبك إلاما أعد الإخلاص للمخلصينا
فاجعليه حظي لأكتب منهشرح حالي لسيد المرسلينا

هذا والله هو الشعر، وما وفق إلى مثله أحد كائنًا من كان في هذا العصر.
ولا نطيل بالنقل من شعره وتتبع أغراضه، فهو كالألماس في الشمس: يشع من كل جهة، ولا يختلف ضوءه إلا في بعض اللون مما يكون الأجمل فيما كله جمال، ويمج من الشعاع ما لا تجد حسنه في الشعاع نفسه، وأحيانًا يرق كبعض البلور فيمتص حرارة الشمس ويستوقد بها في ذاته ليضرم ما وراء قلبه، وما وارءه إلا قلوبنا الحزينة.. عليه رحمة الله!.
مصطفى صادق الرافعي