الجنون فنون.. عندما يصبح الجنون مصدرا للحكمة



جاء يمشي هادئا يتخيل في مشيته، ويرجف بين الخطوة والخطوة كأنه من كبره يشعرك أن الأرض مدركة أنه يمشي فوقها... ولا ينقل قدمه إذا خطا حتى ينهض برأسه يحركه إلى أعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئن إلى أن رأسه معه... أم يخيل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة، فهو يهزه هز الراية...

وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طول غرفة وعرضها, فإذا هو زائغ البصر كأنما وقع في صحراء يقلب عينه في جهاتها متحيرًا مترددا، ثم كأنما رفع له في أقصاها جبل فأخذ إلى ناحيته...

ورحبت به، وأجلسته إلى جانبي، فأخذ يستعرف إلي بذكر اسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئا، كأنه عنترة بني عبس, لأرضه من طبيعتها جغرافيا، ومن اسمه جغرافيا حدة... فلما رآني لا أثبته معرفة قال: "إن بك نسيانًا".

قلت: وكثيرا ما أنسى غير أن اسمك ليس من هذه الأسماء التي تذكر بتاريخ.
قال: "هذه غلطة الجرائد... ومهما تنسى من شيء فلا تنس أنك أستاذ "نابغة القرن العشرين"1.

فسرحت فيه نظري، فإذا أنا بمجنون ظريف أمرد أهيف, يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلا، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.

وتوسمت فإذا وجه ساكن منبسط الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن دنياه ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه... تأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنونا لا هو طفل ولا رجل.
---------------
* انظر حديث هذا المجنون وخبره في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".
1 هذا الشاب المجنون من الأذكياء، وكان قد انتهى إلى مدرسة المعلمين الأولية، ثم خولط في عقله فتركها؛ وكل ما يمر في هذا المقال بين قوسين فهو بنصه من كلامه.

وتفرست فإذا آثار معركة بادية في هذه الصفحة، قتلاها أفكار المسكين وعواطفه.
وتبينت فإذا رجل مسترخ، متفتر البدن، حائر النفس، كأنه قائم لتوه من النوم فلا تزال في عينه سنة، وكأنه يتكلم من بقايا حلم كان يراه.

وخيل إلي من هذا الخمول في هذا الشاب، أن عليه جوا من تثاؤبه، وأن المكان كله يتثاءب، فتثاءبت...
فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: إن "نابغة القرن العشرين" رجل مغناطسي عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم... وحسبك فخرا أن تكون أستاذه وأخاه وثقته، "فليس على ظهرها اليوم أديب غيري وغيرك...".

قلت في نفسي: إنا لله، ما يعتقد الرجل أن على ظهرها مجنونا غيره وغيري، وكأنما ألم بذلك فقال: لست مجنونًا؛ ولكني كنت في البيمارستان...
قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا؛ إن هذا الذي تسميه أنت، هو هو مستشفى المجاذيب؛ أما الذي سميته أنا فهو مستشفى فقط...

وذكرت عندئذ أن من المجانين قوما ظرفاء يدخلهم الفساد في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير أنهم بذلك طياشون متقلبون، إذا ازدهي لم يطقه الناس من زهوه وكبريائه وتنطعه، كأنه واحد الدنيا في هذ الفكرة، وكأن بينه وبين الله أسرارًا، ويظن عند نفسه أنه أعقل الناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونه إلا في هذه الطبقة وحدها.

ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرك فيه خفته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل, فإذا هو ظفر بمن يحاسنه، أو يصانعه، أو يجاريه، حسبه مذعنا مؤمنا مصدقا، فلا يدعه من بعدها ويتعلق به أشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه... فيتخذه صفيا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذه ليفهمه من ذلك بحساب عقله... أنه تلميذه.

وخشيت أن يكون "نابغة القرن العشرين" لم يسمني أستاذه إلا بحساب من هذا الحساب، فهو سيعطي الأستاذية حقها، ولكن كما هو حقها في لغة جنونه... فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعته، ومحدث هذيانه، وثقته وملجأه، والمحامي من ورائه.

قلت في نفسي: إذا أنا تركته جالسا كان هذا المجلس مثابته من بعد، فلا يعرف له محلا غيره، ويصبح كما يقال في تعبير القانون "محله المختار"، فيتطرأ إلي لسبب ولغير سبب، ويقع في أوقاتي وقوع السهو لا حساب عليه، ويضيع فيه ما يضيع، فأجمعت أن أصرفه راضيا باليأس، وقد انتهت نفسه من معرفتي، وانتهى عقله إلى الرأي أني لا أصلح له أستاذا، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس.

فقلت له: ظني بك أنك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذا؛ وأراك قد فرغت للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه، وتكاد لا تفي به الساعات الباقية من الوقت و...

فقطع علي وقال: إن الوقت ليس في الساعة؛ والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت، ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة.
فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمس التي تعين منازل النهار، فسيمر الظهر ويحين العصر و...

قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط... ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ "نابغة القرن العشرين"، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رأيته لك... ولا صحت عندي نظرية إلا رأيتك قد أبديتها، وأنا لا أعتقد أدبا في مصر إلا ما توافينا عليه معا "ولا أسلم جدلا، ولا جدلا أسلم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا, فهو أنا وأنا هو"1, ولئن لم يذعنوا "لنابغة القرن العشرين" فليعلمن أنهم "وقعوا مني موقع نملة على صخرة... هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها".

فتهللت واستبشرت، وقلت له: هذا قرش فهلم فاشتر به دخائنك، وفي رعاية الله، ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم؛ بل تمكن في مجلسه...
---------------
1 ما بين القوسين هو كلامه بنصه كما نبهنا إلى ذلك، والباقي ترجمناه نحن عن معانيه، وأكثر ما يأتي فهذه سبيله.

وكرهت أن أتغير له وما أشك أنه في هذا صحيح التمييز؛ فما أسرع ما قال: إن "نابغة القرن العشرين" فتى قوي الإرادة؛ فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعات فما هو بصبور... وإذا لم يثبت لك هذا الأمر عن معاينة... فما أعطيته حقه.

فقلت في نفسي: لقد غرست الرجل من حيث أردت اقتلاعه، وأيقنت أنه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحيانا فتلهمهم آيات من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق؛ وذكرت "بهلول" المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مر به وهو يأكل خبيصًا1 فقال له: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها...

وقالوا: إنه مر بسوق البزازين فرأى قوما مجتمعين على باب وكان قد نقب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا أعلم.

فقالوا: هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فألطفوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: أخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سني وحلواء؛ فلما شبع قام فنظر في النقب وقال: هذا عمل اللصوص...

وكانت مجلة "الرسالة" في يد "نابغة القرن العشرين"، فوصل الكلام بها وقال: إنه يقرأ كل مقالاتي، وإنه وإنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنت منها؟ قال: "مقالة السيما"...

فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس.
قلت: فأنا لم أكتب مقالا عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلما في مقالة.
فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا "نابغة القرن العشرين"، فأقرأ مقالتك في الغيب من قبل أن تكتبها...

قلت: إنك تكثر أن تقول عن نفسك "نابغة القرن العشرين"، وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه؛ فلو قطعت الكلمة وقلت: "نابغة القرن"، لصح أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر، وما قبلهما وما بعدهما.

فرأيت به شدهة كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا؛ وإن هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول: إني نابغة قرن خروف...
---------------
1 طعام كانوا يتخذونه من التمر والسمن.

فقلت في نفسي: حمأة مدت بماء1، وإن هذه الوساوس لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه؛ والأفكار في ذهنه مجتمعه مختلطة مسترسلة كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.

وسكت وأعرضت عنه؛ فجعل طائفه يعتريه، وكأن السكوت قد سلط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمان الطرق بالمجنون، لا يزالون به حتى يحردوه ويفقدوه البقية من صبره وعقله معا. فغضب "نابغة القرن العشرين" ونقله الغضب إلى حالة زمهرت فيها عيناه2، وكلح وجهه حتى خفت أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعللت بسؤاله: ألك إخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة؟
قال: إن له أخا يعذبه، ويوقع به ضربا، ويعلله بالسلاسل، ويشده "بأمراس كتان إلى صم جندل"، وأنه أنزل به العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم.

قلت: فأنت في حاجة إلى راحة، ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه.
قال: إني منصرف وسأجلس في ندي كذا3 "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة".

قلت: فهذا قرش تدفعه ثمنا لها، فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندى، فالمكان ههنا كثير الضجيج والحركة. واستوفزت للقيام؛ ولكنه لم يتحلحل من مجلسه.

ثم قال: أراك الآن مستبصرًا أني "نابغة القرن العشرين" بعينه.
قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معًا...

قال: لا. لا؛ إنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينه ونفسه وذاته. "أي أنا نابغة القرن العشرين بعينه ونفسه وذاته، فليس غيري نابغة القرن العشرين".

وكادت نفسي تخرج غيظا، ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى الصدقة؛ وقلت: إن أدباء المجانين كثيرًا ما يتفق لهم الإبداع الطريف إذا عللوا شيئا، كذلك القاص الذي كان يقص على العامة سيرة يوسف -عليه السلام- فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
---------------
1 هذا مثل في معنى زاد الطين بلة، والحمأة إذا مدها الماء زادت واتسعت.
2 أي لمعت غضبا.
3 نحن نستعمل الندي لمكان القهوة.

فقلت للمجنون: فما العلة عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وأنفه وفمه ويده ورجله؟
فنظر نظرة في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاته ودراهمه. "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان".

قلت: هذه هي أجرة السيارة وصحبتك السلامة، ونهضت واقفًا؛ ولكنه لم يتحرك.
ثم قال: إنك لم تعرف بعد "أني أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر؛ وأني في الخطابة قس بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، وأني صخر لا ينفجر... يابس لا ينعصر، لست كالحجاج بل كعمر".

قلت: هذا شيء يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها، فقد آمنت أنك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسل.
قال: والفلسفة؟
قلت: والفلسفة وكل معقول ومنقول؛ وقد انتهينا على ذلك.

قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممرورًا "كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكري أو لذكائي الطبيعي، وهو الأصح... فبين لهذه الجرائد أني خرجت، وأني سأطبع الأدب بطابع جديد".

قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال: "فاجعلني رسالة وراسلها عني أو أكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية؛ فضلا عن أني كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ, وهذا قليل من كثير، فهل أعول عليك في صلتي بالجرائد أو لا؟".

قلت: إنك تعرفهم ويعرفونك، وقد بلوتهم وبلوا منك، فلست في حاجة إلي عندهم.
قال: إنهم يخشون بأسي، وقد حسبوني مجنونًا استهوته الشياطين؛ وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني، كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك... هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء، ولا أكلفك شيئا...".

قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب، وهم الآن يتغذون ويوشك إذا أبطأت أن توافقهم وقد استنفدوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.

قال: صدقت؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية. فلأبق هذا للعشاء وسأطوي إلى الليل.
قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك. وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه "طاق البصل"1 يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق. هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمنا لسكوتك وانصرف.

فشق ذلك عليه وقام مغضبا وتنفست بعده الصعداء الطويلة... وفتحت النافذة واستقبلت الهواء النقي وأخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب؛ فإذا "نابغة القرن العشرين" مقبل مع نابغة قرن آخر...
---------------
1 هذا مجنون من مجانين الكوفة في القرن الثالث.
مصطفى صادق الرافعي