من الفساد الى الظلم الاجتماعي والاحباط والتطرف.. التعبير عن الفساد بالثالوث الشيطاني: الرشوة والاختلاس والمحسوبية



ليس أكثر من أنباء خيباتنا المتتالية في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية في صحفنا وإعلامنا العربيين إلا أخبار الفساد وفضائح المفسدين المتواترة تباعا.لقد أصبح من المشروع جدا التساؤل عما إذا كان الفساد خصلة أخرى من خصالنا العربية 'المجيدة'.
يظهر الفساد في ثنايا كل مؤسسات الدولة العربية وهيئاتها من القاعدة إلى القمة.وهو يتمثل أساسا في إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص.فالفساد يحدث عادة عندما يقوم الموظف أو المسؤول بقبول أو طلب أو ابتزاز رشوة لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة،كما يتم عندما يقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقديم رشى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على المنافسين(في المناقصات والعروض)،وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين السارية.ويمكن للفساد أن يحدث كذلك عن طريق استغلال الوظيفة العامة،دون اللجوء إلى الرشوة،وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة.
وبعبارة أوجز نستطيع التعبير عن الفساد بالثالوث الشيطاني:الرشوة/الاختلاس/المحسوبية.وعماد وجوده في دواليب الدولة هو الفساد الإداري بشكليه الأفقي والعمودي،أي فساد في القاعدة أو فساد من الأسفل إلى القمة عند كبار المسؤولين. وقد كان الفساد محليا بالأساس لكنه أضحى الآن،وفي ظل الانفتاح الاقتصادي الحاصل في كل أنحاء العالم تقريبا، دوليا وعابرا للحدود.وهذا النوع الأخير،رواده أباطرة المال والأعمال وتجار السلاح والمخدرات والهاربون بثروات شعوبهم.أصبح يوجد في وقتنا الحاضر ما يمكن أن نطلق عليهم حقيقة لا تجاوزا تسمية 'مفسدون بلا حدود'.
وما يعنينا في هذا الوقت هو أن نفهم الارتباط القوي بين وجود أنظمة عربية غير ديمقراطية في جوهرها وجل مظاهرها وبين انتشار الفساد في البلاد العربية.في دولة يسود حكم غير ديمقراطي(لا حرية تعبير حقيقية،لا مشاركة سياسية فعلية) ينفصل النظام بمكوناته المختلفة عن القاعدة الشعبية التي يفترض أن يستند عليها في شرعية وجوده واستمراره والحكم باسمها.وسواء كان حكما فرديا أو حزبيا متسلطا أو عصبويا، فإن الهدف الذي ينشده هو البقاء.
نشأ حقل أو دائرة الفساد بشكله الحالي في معظم الدول العربية مع انتقال اقتصادياتها إلى النهج الليبرالي المتميز بإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص وبالانفتاح على التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية،مدفوعة بالتغيرات الكبرى التي شهدها العالم عقب نهاية الحرب الباردة،وبروز طبقات من الأثرياء الجدد المتحالفين مع أطراف نافذة في السلطة.والأطراف الأساسية في دائرة الفساد العربية تتمثل أولا في سلطة تتألف من عناصر أغلبها ذات هموم فردية بحتة بعيدة عن أي طموح يستند على رؤية إستراتيجية أو مشروع حضاري أو توجه نحو إنشاء الدولة الحديثة.وثانيا في قطاع خاص طفيلي وغير منتج في مجمله،مع بعض الاستثناءات طبعا،يتغذى على ثمار إعادة السلطات العامة تدوير عائداتها الريعية في شكل بنية تحتية وخدمات عامة، وأخيرا في مواطنين مهدوري الطاقة ومستنفدي الرغبة والإرادة في أي إصلاح سياسي،وغير متكتلين سياسيا،يعوزهم التوجيه من نخبة تبددت شرائح واسعة منها تدجينا وتهجيرا.
قد يذهب البعض للحديث عن القوانين والتشريعات لردع المفسدين،وتنمية البيئة الاجتماعية/الثقافية وتوعية المواطن كسبل لمكافحة الفساد ومنع انتشاره،إلا أن تلك الإجراءات على أهميتها لا تفي تماما بالغرض منها. إن جذور الفساد العميقة توجد في تكوين وبنية وطريقة سير النظام السياسي،وعلاقاته بالفئات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة،المتضاربة المصالح والاتجاهات والمساهمة في بقائه واستمراره،وكذا دوره الاقتصادي وحيازته المطلقة لموارد الأمة.
ربما من المفيد القول إن مكافحة الفساد تنطلق من ضرورة الاعتراف به وما يتبع ذلك من سن القوانين والتوعية الثقافية،لكن الأكيد أن اجتثاث الفساد والمفسدين على النحو المطلوب لا يتحقق بغير إعادة التركيب السياسي للنظم الحاكمة وإعادة الارتباط بين الجماهير وبين من يحكمها.
تبدأ مكافحة الفساد بترسيخ مفهوم جديد للدولة في أذهان المواطنين ونشر الثقافة الديمقراطية وتدعيم المجتمع المدني،وبأن هناك حد لا يمكن تجاوزه يفصل بين الملكية العامة والملكية الخاصة،وبأن المواطن هو الملك، وبأن الديمقراطية هي الحل لمأزقنا الحضاري والإنساني مهما طال هروبنا منها.وأيضا بإعادة النظر العميقة في هذه التوجهات الاقتصادية المتبعة والخيارات التنموية الفاشلة التي دفعت بالشباب لركوب قوارب الموت.
ينتشر الفساد حيث تغيب العدالة الاجتماعية ولا يتوفر مبدأ تكافؤ الفرص فيصبح المواطن العربي ينظر إلى السلطة على أنها لا عقلانية ويستبيح بالتالي الممتلكات والأموال العمومية ويهضم حقوق الآخرين إقتداء بما فعلته هي به.كما ينتشر الفساد حيث الولاءات الضيقة وعلاقات القرابة(قرابة الدم وقرابة العشيرة والجهة والمصلحة) في ظل غياب رهيب لثقافة الديمقراطية والمواطنة،وينتشر الفساد حيث أجور الموظفين الكادحين لا تسد رمق عيالهم وهناك تخمة لدى شرذمة قليلة استباحت الأوطان وأحلام البسطاء.ينتشر الفساد عندما تدير الدولة شؤونها بجهاز إداري عتيق عفا عليه الزمن وبيروقراطية صماء،يسود الفساد حيث الاختيار للمناصب يُبنى على الولاء والعشائرية لا على الكفاءة والإخلاص للدولة وللمجتمع.
ما دامت استقلالية القضاء وسيادة القانون في كثير من البلدان العربية من الأحلام البعيدة (أو الساذجة)، وتعزيز الديمقراطية فتح المجال أمام وسائل الإعلام واحترام رأي الفرد والشفافية والمساءلة تقترب من المستحيلات، فإن الحديث عن مكافحة الفساد لا جدوى منه.أما هيئات النزاهة العربية فهي في أحسن أحوالها مجرد مؤسسات موسمية النشاط هزيلة النتائج،إذ أننا لا نعالج المرض بمواجهة أعراضه.
التركيز على العوامل الثقافية والاجتماعية في مكافحة الفساد يعني مباشرة صرف النظر عن مصدره الأول، وخلاصا مجانيا للقائمين عليه، فالإصلاح السياسي وإطلاق حرية الصحافة وتطبيق مبدأ فصل السلطات ينتج عنه القضاء على المسببات المباشرة للفساد،ونتائج ذلك تكون في الأجل المنظور،في حين أن نتائج الإصلاح الاجتماعي عملية التغيير الثقافي لوحدهما تستغرقان زمنا طويلا جدا حتى تظهر نتائجهما،ونحن في زمن يداهمنا ويحصرنا في الزاوية الحضارية الضيقة.
إذا تم التغافل عن الإصلاح السياسي العميق والمستمر في البلاد العربية بدعوى الحفاظ على الاستقرار ومواجهة التحديات الخارجية وتحضير الشعوب للديمقراطية فإن ذلك يعني على وجه اليقين السير بخطى حثيثة نحو منزلقات خطيرة سياسيا وأمنيا واجتماعيا... لنجد أنفسنا في مراتب الدول الفاشلة.لا يمكن أن ينتشر الفساد وتُنهب ثروات الشعوب ويتم التحالف مع الشيطان للبقاء في الحكم وقهر البشر وسحق إنسانيتهم تحت وطأة الفقر والمعاناة ثم نتوقع أن يأتي الأفضل.
بعيدا عما يمكن أن يُعتبر جلدا للذات العربية،نذكر مقترحا لبشير مصطفى،وهو أكاديمي وباحث جزائري مهتم بالموضوع،يتعلق بفتح حوار'وطني'لمكافحة الفساد ينتهي إلى وضع ميثاق وطني يحدد معايير المحاسبة وتسيير المال العام والتعيين في الوظائف العليا للدولة والرقابة على الوظيفة العمومية.الميثاق المنشود بحسب رأيه يحمل صفة الالتزام والمرجعية الأخلاقية التي على أجهزة الدولة ومؤسساتها احترامها.ويكون من البديهي أن تشترك جميع فعاليات الأمة في صياغة مبادئه ويكون بمثابة الدستور الاقتصادي والمالي للسلطة التنفيذية،وبالتالي يتيح لكل مواطن فرصة الرقابة على المال العام بغض النظر عن موقعه على السلم الاجتماعي.ميثاق يحمل صفة الإجماع الوطني،يدعم السلطة الاعتبارية للقضاء الذي عليه أن يجتهد في تفكيك الفساد المنظم خارج آلية العقوبات،يتيح للسلطات الوطنية النزيهة مجالا أوسع للتدخل على مسار الإرادة الشعبية،ويحرر الإعلام من عقدة الخوف والتحوط من ردود فعل الشبكات الفاسدة.
لا أحد ينكر الجهود الصادقة في مجابهة الفساد لكنه بطبيعته كظاهرة اقتصادية واجتماعية أكبر من أن يتولاه شخص مهما بلغت مكانته وسلطاته،أو مجموعة محدودة مهما كانت صلاحيتها وقدراتها.
ثمة أخطار متعددة تتهدد هذه الأوطان، لكن أشدها فتكا تلك الأمراض الداخلية التي تنخر الجسد، كالفساد وتوابعه من ظلم اجتماعي وتبييض للأموال وهدر للطاقات ونشر للإحباط والتطرف وإضعاف هيبة الدولة والقانون وجعل صورتها باهتة في أعين مواطنيها وفي أعين العالم.
إن خطر الفساد على البناء النفسي والسلوك الاجتماعي العام للإنسان العربي أكبر مما يتصوره الكثيرون، فهو يؤدي بالانتماء إلى أن يكون ضعيفا جدا أو معدوما،ويثبت في الذهن أفكارا وتصورات مدمرة لصاحبها ولمجتمعه،ويعمق مما دعاه أحد الكتّاب العرب العطب الأخلاقي،كما يساعد على نشر أمراض وآفات اجتماعية يُستعصى علاجها إن استفحلت.
أحمــد طيباوي
' باحث جامعي من الجزائر