الوزن في الشعر الجاهلي.. بحر الطويل بايقاعه البطيء الهادئ نسبياً يلائم العاطفة المعتدلة الممتزجة بقدر من التفكير والتّملي

نظم الشعراء الجاهليون قصائدهم على جميع بحور الشّعر العربي، ولو نظرنا في ديوان أي شاعر جاهلي، أو في أي مجموعة شعرية أخرى، لوجدنا أكثر نظمهم على البحر الطويل، والبسيط، والوافر، والكامل.

ويعدّ البحر الطويل أكثر بحور الشّعر العربي دوراناً، بحيث شمل معظم أغراضهم الشّعرية.
ولهذا البحر منزلة جعلته يتفوق على غيره من البحور، لأنه يناسب أكثر الحالات والمعاني، لذا استأثر هذا البحر بثلث الشّعر العربي القديم، لما يمتاز به من رحابة الصدر، وطول النفس، فإنّ العرب قد وجدت فيه مجالاً أوسع للتفصيل، مما كانت تجده في غيره من الأوزان.

ويتسع للفخر والحماسة والأغراض الجدية جليلة الشأن، وهو أكثر البحور حروفاً، لأنه إذا صُرّع قد يكون ثمانية وأربعين حرفاً، وأفاده الطول أبّهة وجلالاً.

ويليه البسيط، وهو من أعظم البحور أبّهة وجلالاً، وهو يقترب من الطويل، إلاّ أنه لا يتسع مثله لاستيعاب المعاني، ولا يلين لينه للتّصرف بالتراكيب والألفاظ، إلاّ أنه يفوقه أحياناً رقّة وجزالة.

والوافر هو ألين البحور يشتدّ إذا شددته، ويرقّ إذا رققته، ويرشح للأداء العاطفي، وأحسن ما يصلح هذا البحر في إظهار الغضب في معرض الهجاء، والفخر والتفخيم في معرض المدح.

والبحر الكامل، سمي كاملاً، لأنه يصلح لكل نوع من أنواع الشّعر، وهو أكثر بحور الشّعر جلجلة وحركات، وفيه نوع خاص من الموسيقى يجعله إن أريد به الجدّ فخماً جليلاً مع عنصر ترنميّ ظاهر.

وقد يتساءل المرء: هل كان الشّاعر الجاهليّ يتخيّر الأوزان تخيّراً بحيث تبدو تلك الأوزان ملائمة للأغراض الشّعرية التي يطرقها؟
وقد حاولت بعض الدراسات ايجاد علاقة ما بين البحر والغرض، الذي ينظم فيه الشّاعر، وحاولت أن تقنّن هذا الأمر، وتخرج بنظرية "تذهب إلى تحديد طابع نفسي لكل وزن أو مجموعة من الأوزان الشّعرية.

فبعض الأوزان يتفق وحالة الحزن، وبعضها يتفق وحالة البهجة، وما إلى ذلك من أحوال النفس".
ولعل أول من فطن إلى قضية الرّبط هذه سليمان البستاني، الذي راح يبحث في أوزان الشّعر العربي، وأشار إلى خصائص كل وزن، وإلى الأغراض الشّعرية التي يصلح لها كل وزن.

ويبدو أن ما أقدم عليه البستاني قد أعزى عبد الله الطيب ببحث هذه المسألة بشيء من التفصيل والإسهاب، وتناول المسألة باهتمام بالغ.
وذهب آخرون إلى الربط بين الوزن والعاطفة، وفي هذا الربط يقول إبراهيم أنيس: "نستطيع ونحن مطمئنون أن نقرّر أن الشّاعر في حالة اليأس والجزع يتخيّر وزناً طويلاً كثير المقاطع يصبّ فيه من أشجانه ما ينفّس عن حزنه وجزعه، فإذا قيل الشّعر وقت المصيبة والهلع تأثر بالانفعال النفسي، وتطلب بحراً قصيراً يتلاءم وسرعة التنفس وازدياد النّبضات القلبيَّة".

وذهب محمد النّويهي إلى الربط بين البحر ودرجة العاطفة، فرأى أن "بحر الطويل بايقاعه البطيء الهادئ نسبياً يلائم العاطفة المعتدلة الممتزجة بقدر من التفكير والتّملي، سواء أكانت حزناً هادئاً لا صراخ فيه، أم كانت سروراً هادئاً لا صخب فيه. وبحر الخفيف أيضاً يلائم العاطفة المتزنة المضبوطة.

في حين ينسجم بحر الكامل مع العاطفة القوية النشاط والحركة، سواء أكانت فرحة قوية الاهتزاز، أم كانت حزناً شديد الجلجلة.
فإذا زادت حدّة العاطفة واهتزازها لاءمها بحر الوافر.

فإذا بلغت درجة الاضطراب العنيف والتّراوح بين شدّ وإرخاء، وسرعة وإبطاء انسجم معها بحر المنسرح انسجاماً عجيبا، مهما يكن نوعها من مرح أو غضب أو تهكم أو شماتة أو دهشة كبيرة".

ومن الباحثين من رفض فكرة الرّبط هذه، لأن حقائق الشّعر الجاهليّ تنقض ذلك، ووجدوا أن الشعراء الجاهليين كانوا يمدحون، ويفاخرون، أو يتغزلون في كل بحور الشّعر التي شاعت عندهم، لأن ذلك يحدّ من حريّة الشّاعر.

والذي أميل إليه أن الشّعر شحنات نفسية، تنهال على الشّاعر انهيالاً، فيسكبها بصورة عفوية، في هذا الوزن أو ذاك.

فهو استجابة تلقائية لفكرة "تختمر في ذهن الشّاعر، وتولد بأفكارها، ووزنها وقافيتها"، فالقصيدة الجيدة تصنع نجاحها بنفسها، بعد أن ينضج موضوعها، وتختمر تجربتها في نفس الشّاعر، فيولد الوزن والتجربة معاً، وإلاّ تحولت إلى عمل آلي، وحينئذ تفقد روعتها الفنية، فتغدو ضرباً من الصنعة والاحتراف.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال