التصريع في الشعر الجاهلي.. محل التأنق وإظهار جودة الذهن وشدة الفصاحة. له في أوائل القصائد حلاوة وموقعاً من النفس لاستدلالها به على قافية القصيدة

أدرك الشعراء الجاهليون القيمة الحقيقية للجانب النّغمي، الذي تمنحهم إياه القافية ، فسعَوْا إلى تحقيق هذه القيمة في مطالع كثيرة من قصائدهم لتقفية عروض البيت الأول تففية مجانسة لتقفية ضربه، لتهيئة ذهن الملتقيّ لقبول القافية المرتقبة؛ بالتمهيد لها، ثم الإيحاء من خلالها بتمكّنهم من فنّهم، وأطلق علماء البلاغة على هذا التّصريع.

وكان فحول الشعراء الجاهليين "يتوخّوْن ذلك، ولا يكادون يعدلون عنه، وربّما صرّعوا أبياتاً أُخر من القصيدة بعد البيت الأول، وذلك يكون من اقتدار الشّاعر وسعة بحره.

أدرك النقاد أهمية التصريع، فذهب حازم القرطاجنّي إلى أنّ "للتّصريع في أوائل القصائد حلاوة وموقعاً من النفس، لاستدلالها به على قافية القصيدة. والتصريع "محل التأنّق، وإظهار جودة الذهن، وشدة الفصاحة".

تنبّه الشعراء الجاهليون لما للمطلع من أهمية، فهو أول بيت يقرع السّمع، فاعتنوا بموسيقيته من خلال هذه التقفية، قال الأسود بن يعفر النهشلي:
نام الخليّ وما أحسّ رقادي -- والهمّ محتضر لديّ وسادي

وقال أوس بن حجر:
ودّعْ لميسَ وداعَ الصّارم اللاّحي -- إذ فنّكت في فسادٍ بعد إصلاحِ

وقال عبدة بن الطبيب:
هل حبل خولة بعد الهجر موصولُ -- أم أنت عنها بعيد الدّار مشغول

وقال علقمة بن عبدة:
هل ما علمتَ وما استودعْتَ مكتوم -- أم حبلُها إذ نأتْكَ اليوم مصرومُ

وقال:
طحا بك قلب في الحسان طروب -- بعيد الشّباب عصر حان مشيب

وقال الحادرة الذبياني:
بكرتْ سميّة بكرة فتمتَّع -- وعدتْ غدوّ مفارقٍ لم يربع
أحدث أقدم

نموذج الاتصال