الصنعة الخفية في الشعر الجاهلي.. الايقاع الموسيقي المنسجم من ايقاع خُفّي ناقة الشّاعر والمنسجم مع الايقاع النفسي والتناغم الذي نستشعره لوجود النعامة في مفازتها

إنّك تقرأ الشّعر الجاهليّ وتعلم أن بعضه حَوْليّ مُحَكّك، وأنّ نظر الشّاعر قد عادَ إليه المرّة تلوَ المرّةِ لتنقيحه وإحكامه، ومع ذلك لا تشعرُ بتكلّف صُوره، ولا بأثر الجهد المبذول فيه.

وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدلّ على البراعة في هذا التنقيح، فقد لقّبوا امرأ القيس بنَ ربيعةَ التغلبيَّ بالمهلهل، لأنه أوّل من هلهل ألفاظ الشّعر وأرقّها.

ولقّبوا عمروَ بنَ سعدٍ شاعرَ قيس بن ثعلبة بالمرقّش الأكبر لتحسينه شعرَه وتنميقه، ولقّبوا ابن أخيه ربيعةَ بنَ سفيانَ بالمرقّش الأصغر، كما لقّبوا الطّفيلَ الغنويّ بالمحبّر لتزيينه شعرَهُ، ولقّبوا علقمة بالفحل لجوْدة أشعاره...

فهؤلاء وسواهم شعراءُ اكتسبوا هذه الأسماء، لأنهم عُرفوا بتنقيحهم شعرَهم وطولِ نظرهم فيه.
فقد كانوا يعودون إلى القصيدة بعد أن يقولوها، أو يكتبوها، ليشذّبوها ويهذّبوها.
وكان زهيرُ بنُ أبي سلمى يُسمّي كبرى قصائده الحوليّات للسبب ذاته.

ولو نظرنا إلى المعلّقات - على سبيل المثال لا الحصر - لألفينا الشّاعر الجاهليّ يصنع معلقته صناعة محكمة ترفرف في آفاق الجمال الشّعري ، حتى لتكاد العين تغفل عن إدراك أثر هذه الصّنعة، وينهمر عليها "فيض من الإحساس بجمال الشّعر، دون تنبّه إلى الوجوه المسبّبة لهذا الإحساس".

وقد خفيتْ وجوهُ هذه الصّنعةِ حتى ليظنّ أنها غير موجودة. ولعلّ أبيات الحارث بن حلّزة تصلح شاهداً على روْعة العمل الفنيّ محكم الصّنع، خفيّ الصّنعة، فأنت ترى فيه ذلك الاستقصاء الممعنَ لأبعاد الصّورة التي يرسم جوانبها، وذلك التنبّه الذكيّ للعلاقات بين الناقة والنّعامة:
غيرَ أنّي أستعينُ على الهَـ -- ـمّ إذا خَفَّ بالثّويّ النّجاءُ
بزَفوفٍ كأنّها هِقْلَةٌ ** أُمُّ رِئالٍ دَويّةٌ سَقْفاءُ
آنستْ نبأةً وأفزعها القُـ -- ـنّاصُ عَصْراً وقد دنا الإمساء
فترى خلْفَها من الرّجْع والوقْـ -- ـعِ منيناً كأنّه إِهباءُ
وطِراقا من خَلْفهنّ طِراقٌ -- ساقطاتٌ تُلْوي بها الصّحراء

إنّ فَهْم المعاني المباشرة لهذه الأبيات ليس منتهى قصدنا. ولا بدّ حتى نتذوق هذا الشّعر وما فيه من صُوَرٍ وأخيلة وموسيقا من أن نعيد فيه النظرة تلْوَ النظرة لنستطيع الوقوف على أسرار الجمال والقوّة فيه.

وقد بدأ الشّاعر في هذه الأبيات المنتزعة من معلقته يخبرنا أنه يستعين على همّه المقيم الذي تحدّث عنه في أبيات سابقة بركوب ناقته... وهو يريد أن يصف لنا هذه الناقةَ السّريعةَ بأسلوب غير مباشر، فيشبّهها بالنّعامة.

وحتى تكتمل لنا أوصافُ ناقته، يصوّر النّعامة، وهي في أقصى حالاتها من السّرعة والاهتمام والانفعال بفكرة الوصول إلى الغرض... فهي أُمٌّ تبتغي صيداً لصغارها، فتسمع نبأة - والنّعام طائر جَفِل - ولا يكفي ذلك - فالصيادون يطاردونها.

ويمضي الشّاعر في استقصاء صور المطاردة بما فيها من غبار وإيقاع، ليقول لنا بصورة غير مباشرة، وبأسلوب فنيّ راقٍ: إن هذه الناقةَ سريعةٌ جداً.

فهل قال الشّاعر هذه الأبيات عفْو الخاطر؟
ومن بديهة حاضرة فحسب؟
أم لعلّه خطّط أولاً كالرسّام الذي يضع الخطوط الأولى للوحته، ثم يعود لملئها بالألوان والتفصيلات الدقيقة المعبرة عن فكره وشعوره؟

إنّ البصر النافذ يستطيع أن يلمس أثر الصّنعة في هذه الدّرجة العالية من الإتقان دون أن يفسد ذلك شاعرية الشّاعر.

وأبرز ملامح هذه الصّنعة نلتمسها في هذا الايقاع الموسيقي المنسجم من ايقاع خُفّي ناقة الشّاعر، وهي منطلقة تعدو، والمنسجم مع الايقاع النفسي والتناغم الذي نستشعره لوجود النّعامة في مفازتها، وهي أمّ صغار وذات طول وانحناء... ثم العودة إلى الايقاع الموسيقي ليصوّر به حركة العّدْو واضطراب الأعضاء وارتطامها في أرض الصحراء، وحركة كلّ جزء من أجزاء اللّوحة: النّعامة تعدو، والصيّادون وراءها جادّون، والغبار متطاير.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال