الحسية في الشعر الجاهلي.. ضيق خيال الإنسان العربي والتصاقه بالأرض. الإنسان في البيئة الفقيرة يتجه أولا إلى النواحي المادية التي تعود عليه بالنفع المادي

كانت تلك المحاولةُ الإنسانيةُ الخالدةُ - الشّعر - لدى إِنساننا الجاهليّ تدور في فَلَك المحسوس والملموس من عالمه مترامي الأطراف.

وفي ردّنا على ببّغائية بعض المحققّين من مستشرقين وعرب حول ضيق خيال الإنسان العربي والتصاقه بالأرض، مقارنة بما أوجده إنسان الإغريق مثلاً من مخلوقات أسطورية شاركتْ في صُنْع الغيب وصُنع الواقع، أرى أن المفاضلة بين الشعوب لا تقاس بالمقارنة، بل بما أبدع كلّ شعب على حِدة، مع التّأكيد على الطّبيعة الجغرافية التي وُجد هذا الشّعبُ في أحضانها، والتي كانت العلِّةَ الأولى لميلاد الخصائص البيئية من سلوك فكريّ وسلوك عمليّ لدى كل شعب.

أجل إنّ الشّعر العربيّ الجاهليّ، الذي قرأناه، يدور في فَلَك المحسوس والملموس انطلاقاً من بساطة الحياة الصحراوية الجافّة
وإذا ما رجعنا إلى الموضوعات التي عالجها الشّعر الجاهليّ نجدها حسيّة، فالحديث عن كلّ منها يدور حول النّواحي الحسيّة، حتى ما كان منها معنوياً نجده قد أصبح مُحَسّاً كأنما تراه بعينيك.

ولعلّ ذلك راجع إلى الظروف التي كانت تحيط بهم في تلك البيئة، فقد كانت قاحلة، فانتشر فيها الفقرُ والبؤسُ. والإنسان في البيئة الفقيرة إنّما يتّجه أوّلاً إلى النواحي الماديّة التي تعود عليه بالنّفع الماديّ، فهو لا يفكر إلاّ في الفائدة الحسيّة التي تقيم أَوَدَهُ، وتحفظ حياته أوّلاً.

أمّا ما وراء ذلك من المعنويات الأعلى شأناً من ذلك، فلا تجيء إلاّ بعد الاطمئنان على ما يمكّنه أن يعيش عليه.

يضاف إلى ذلك أنّ حظّ الجميع من النّاحية الثّقافية كان قليلاً، والثّقافة إذا ما تهيأت للإنسان بقدرٍ كافٍ، وسّعت آفاقه، ومجالَ إدراكه وتفكيرِه، فحملتْه إلى آفاقٍ أرحبَ، أعلى من النّاحية الماديّة.

وكانت علاقاتهم الاجتماعية - في أكثر أحوالها - بسيطة، وما كانوا يعرفون من ثقافات غيرهم كثيراً، فلم تُهيّئهم ظروفهم للثقافة الواسعة التي تفتح القلوب على آفاق روحيّة ومعنوية.

وقد لاحظ جورج غورفيتش أن ثمّة تناسباً عكسياً بين المعرفة الحسيّة والثقافة، فهي تقلّ في المجتمعات المتقدمة، وتستفحل في المجتمعات الأميّة.

وهذا الأمر طبيعيّ بالنسبة إلى الإنسان الذي يفتقر إلى المجرّدات المعنوية التي ترتبط بالمضمون الثقافي النظري، وبالنسبة إلى الإنسان الذي يواجه قضايا ماديّةً محددةً، ولم يتوفر له بَعْدُ وضعٌ حضاريٌ ترِفٌ لكي يميل معه إلى الكليّات المجرّدة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال