الراوي والعدسة السردية: استكشاف أبعاد السرد الذاتي وتصنيفات بويون لتمثيل الواقع في الرواية الكلاسيكية والحديثة

نظام السرد في الرواية: وجهات النظر وأنواع الرواة

يُعد نظام السرد أو وجهة النظر (Point of View) أحد أهم العناصر في بناء أي عمل روائي، فهو يحدد الطريقة التي تُقدم بها الأحداث والمعلومات للقارئ. إنه بمثابة العدسة التي يرى القارئ من خلالها العالم الروائي والشخصيات، وله تأثير مباشر على فهم القصة وتأويلها. في هذا السياق، دعنا نستعرض مفهوم السرد الذاتي وتصنيفات الناقد الفرنسي جان بويون لوجهات النظر السردية، مع ربطها بتصنيفات أخرى في النقد الروائي.

السرد الذاتي: عيون الراوي وحدود الرؤية

في نظام السرد الذاتي (Subjective Narration)، نتبع الأحداث والقصة من خلال عين الراوي فقط. هذا يعني أن كل ما يُقدم للقارئ من معلومات، أوصاف، حوارات، وحتى تأويلات للأحداث، يأتي حصريًا من زاوية نظر هذا الراوي. الراوي هنا ليس مجرد ناقل للأحداث، بل هو المتحكم في السرد وتوجيه فهم القارئ. إنه يُخبر بما يراه ويُفسر ما يراه، ويدعو القارئ إلى تبني تأويله الخاص للأحداث.

يُعد هذا الأسلوب شائعًا بشكل خاص في:
  • الروايات الرومانسية: حيث يكون التركيز على المشاعر الداخلية البطل وعواطفه وتجاربه الشخصية.
  • الروايات ذات البطل الإشكالي: التي تُعالج شخصيات تعاني من صراعات داخلية عميقة أو تواجه تحديات وجودية، ويُقدم السرد من وجهة نظر هذه الشخصية لاستكشاف تعقيداتها النفسية.

تصنيف جان بويون لوجهات النظر السردية:

جاء الناقد الفرنسي جان بويون (J. Pouillon) في كتابه الرائد "الزمن والرواية" (1945) ليُفصّل القول في مفهوم "وجهة النظر" (Point de Vue)، مُقدمًا تصنيفًا ثلاثيًا أصبح مرجعًا أساسيًا في دراسة السرد:

1. الراوي > الشخصية الحكائية (الرؤية من خلف):

في هذا النوع من السرد، يكون الراوي عارفًا أكثر مما تعرفه أي من الشخصيات الحكائية. إنه يمتلك معرفة شاملة وكاملة بالماضي والحاضر والمستقبل، ويعرف ما يدور في عقول جميع الأبطال، بما في ذلك أفكارهم، مشاعرهم، رغباتهم الخفية، وحتى دوافعهم التي قد تخفى عليهم هم أنفسهم. الراوي هنا أشبه بالإله العليم الذي يرى كل شيء ويعرف كل شيء.
  • سمات هذه الرؤية:
  1. المعرفة الكلية (Omniscient Narrator): الراوي يعرف كل شيء عن الشخصيات والأحداث.
  2. القدرة على الدخول إلى الوعي: يمكن للراوي أن يكشف عن الأفكار والمشاعر الداخلية للشخصيات.
  3. التحكم المطلق بالسرد: الراوي يُقدم المعلومات والتحليلات والتفسيرات كما يشاء.
  • استخدامها: تُستخدم هذه الطريقة بكثرة في الحكي الكلاسيكي والروايات التقليدية، حيث كان هدف الكاتب غالبًا هو تقديم قصة واضحة المعالم، مع توجيه القارئ بشكل مباشر.
  • نظيرتها عند توماشفسكي: تُعرف هذه الرؤية بـ**(السرد الموضوعي)** عند الناقد الروسي بوريس توماشفسكي، رغم أن التسمية قد تُوحي بالعكس، إلا أنها تُشير إلى أن الراوي يقدم الأحداث من منظور "موضوعي" وشامل، وليس من منظور شخصية محددة.

2. الراوي = الشخصية الحكائية (الرؤية مع):

هنا، تكون معرفة الراوي على قدر معرفة الشخصية الحكائية التي يتبعها. الراوي لا يُقدم للقارئ أية معلومات، تفسيرات، أو أحداث إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها أو عاشتها. القارئ يرى العالم من خلال عيني هذه الشخصية فقط، ويُشاركها اكتشافها للأحداث والمفاجآت.
  • سمات هذه الرؤية:
  1. المعرفة المحدودة: الراوي يعرف فقط ما تعرفه الشخصية التي يركز عليها.
  2. المساواة في المعلومات: لا يوجد فرق بين ما يعرفه الراوي وما تعرفه الشخصية.
  3. تقديم المعلومات تدريجيًا: تُكشف الأحداث والتفسيرات بالتزامن مع اكتشاف الشخصية لها.
  • الضمائر المستخدمة: يُستخدم في هذا الشكل غالبًا ضمير المتكلم ("أنا")، حيث تكون الشخصية هي الراوي، أو ضمير الغائب ("هو"/"هي")، ولكن مع الحفاظ دائمًا على مظهر "الرؤية مع"، أي أن الراوي يتبع الشخصية ولا يتجاوز معرفتها.
  • دور الراوي: الراوي في هذا النوع إما أن يكون شاهداً على الأحداث (شاهد عيان) أو شخصية مساهمة رئيسية في القصة.
  • نظيرتها عند توماشفسكي: تُقابل هذه الرؤية مفهوم (السرد الذاتي) عند توماشفسكي، حيث يُقدم السرد من وجهة نظر ذاتية لشخصية داخل القصة.

3. الراوي < الشخصية الحكائية (الرؤية من خارج):

في هذا النوع النادر من السرد، يكون الراوي لا يعرف إلا القليل جدًا مما تعرفه إحدى الشخصيات الحكائية. الراوي هنا أشبه بكاميرا تسجيل، يُسجل فقط ما هو ظاهر للعيان: الحركة، الأصوات، الأفعال الظاهرة. إنه لا يعرف إطلاقًا ما يدور في خلد الأبطال من مشاعر أو أفكار أو دوافع. الراوي محايد تمامًا، لا يُقدم أي تفسير أو تحليل أو تأويل.
  • سمات هذه الرؤية:
  1. المعرفة المحدودة جدًا: الراوي لا يعرف إلا ما هو خارجي وظاهر.
  2. الاعتماد على الوصف الخارجي: التركيز على الحركات، الأصوات، المظاهر.
  3. غياب الدخول إلى الوعي: لا يُكشف عن المشاعر السيكولوجية أو الأفكار الداخلية.
  4. الحياد التام: لا يوجد أي تفسير أو تأويل من قبل الراوي.
  • ظهورها وخصائصها: يُعزى سبب عدم إشارة توماشفسكي إلى هذا النوع الثالث من "زاوية الرؤية" إلى أن هذه الأنماط السردية التي تتبنى هذه الرؤية لم تكن قد ظهرت إلا بعد منتصف القرن العشرين، خاصة على يد تيارات الرواية الجديدة (Nouveau Roman) في فرنسا.
  • الرواية الشيئية (Chosiste Novel): غالبًا ما وُصفت الروايات المنتمية لهذا الاتجاه بـ**"الرواية الشيئية"، لأنها تتسم بـالخلو من وصف المشاعر السيكولوجية**، بل إن بعضها يكاد يخلو من الحدث بالمعنى التقليدي. جل ما هنالك هو وصف خارجي محايد لحركة الأبطال وأقوالهم، مع غياب أي تفسير أو توضيح.
  • تحدي القارئ: يجد القارئ نفسه أمام كثير من المبهمات والغموض، وعليه أن يجهد نفسه لـإكسابها دلالة معينة، مما يُعطي القارئ دورًا فعالًا في بناء المعنى وتأويل النص.

خلاصة:

إن فهم هذه الأنظمة السردية يُعزز من قدرة القارئ على تحليل العمل الروائي وتقدير اختيار المؤلف لوجهة نظر معينة، ويُساعد الكُتّاب على تحديد الأسلوب الأمثل لتقديم قصصهم ورؤاهم.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال