الجرافة اليهودية الغامضة.. كافكا ورسالة إلى الوالد. الأب المنحرف في رؤيته وأحلامه وطموحاته

في (الجرافة اليهودية الغامضة) يلقي الأستاذ حسن سؤالاً مهماً مستفسراً عن السبب الذي جعل بعض نقادنا وأدبائنا ينكرون على (كافكا) يهوديته.
وعلى أي شيء أسسوا أراءهم هذه.

إنّ المقتطفات التي انتقاها الأستاذ حسن حميد كلها تثبت وتؤكد يهودية كافكا الابن التي تختلف في طبيعتها عن يهودية كافكا الأب.

فالأب تاجر حريص على ديمومة تجارته واستمرارها، ولهذا فهو يريد من الابن أن يؤمن هو أيضاً بمسألة انصهار الشخصية اليهودية واندماجها بالشخصية الأوروبية، بينما يسعى الابن إلى التحرر من سلطة أبيه والبحث عن الملاذ الحقيقي.

وسيكتشف الأستاذ حسن حميد أنّ هذا الملاذ هو (أرض الميعاد) وبذا يكون كافكا قد تطرق لهذه الموضوعة اليهودية البحتة قبل شيوع الأفكار الصهيونية، وربما لهذا السبب قال بعض اليهود لو اطلعنا على كافكا منذ وقت مبكر لتمكنا أن نتبين التعاليم اليهودية التي صارت فيما بعد تعاليم الحركة الصهيونية.‏

إنّ قراءة نص (رسالة إلى الوالد) قراءة متأنية، وتقليبها على وجوه عدة، وفهمها فهماً دقيقاً يوصلنا إلى الحقائق الآتية:‏
إنّ الأب التاجر يريد أن يفك انغلاق الغيتو وذلك من أجل الاندماج في المجتمع الأوروبي.
أما كافكا فهو يريد فك مغاليق الغيتو اليهودي من أجل الانطلاق نحو (أرض الميعاد).‏

إنّ النص شدّد على توق كافكا إلى الزواج من أجل التحرر من ظلم الأب فتحولت عنده المرأة إلى وسيلة للنجاة من سطوة أبيه لهذا تعثرت علاقته النسائية ومات ولم يتزوج.‏

إنّ كافكا في كتاباته كان يقسم العالم إلى قسمين: الأول ظالم ومعاد له (الأب المنحرف في رؤيته وأحلامه وطموحاته)، والثاني مظلوم ومعاد له (الابن المتنوّر، الصادق بإحساسه والمتطلع نحو (مكان تضيئه الشمس ـ أرض الميعاد)‏.
لقد سمعنا الكثير الكثير عن أخبار كافكا حتى أصبنا بلوثة الأخبار قبل أن نطلع على نصوصه.

[سمعنا عنه كلاماً لا يليق إلاّ بالندى أو رأد الضحى، أو بالثلج المشتهى] ولم نقم وقتها بقراءة كتاباته أو مراجعتها مراجعة نقدية مجردة من المدح والقدح وهذا هو عين ما قام به الأستاذ حسن حميد فجلى الغبار عن كل الحقائق المموهة والغامضة وتلك التي تخفي وراءها المواقف والآراء شديدة الضبابية.

ويخرج الأستاذ حسن برأي مفاده أنّ الدعاية الهائلة والترويج الذي قام به اليهود لكافكا هو الذي جعل منه كاتباً عالمياً معروفاً في كل أرجاء الأرض ويثبت لنا من خلال المقارنة المعززة بلغة الأرقام أنّ كافكا لم يستطع أن يبيع من كتابه (تأملات) عام 1912 سوى تسع وستين نسخة.

بل أنه لم يبع منه طوال حياته سوى أربعمائه نسخة. وفي السنة التي سبقت وفاته لم يبع من كتبه (تأملات، الحكم، الوقاد، المسخ، مستعمرة العقاب، طبيب ريفي) سوى سبع وعشرين نسخة.

إلاّ أنّ حجم المبيعات هذه قفز قفزات خيالية جداً فقد بيع في ألمانيا وحدها عام 1976 ستة ملايين نسخة من كتب الجيب وأربعمائة ألف نسخة من مجموعة الآثار المطبوعة طباعة فاخرة.

وإنّ الناشرين أصيبوا بحمى النشر لكافكا بعد أن تضاعفت معدلات النشر على نحو محموم وتسابقوا إلى نشر أعماله‏ [في طبعات مقرونة بالدراسات النقدية الشارحة لها مرة على أرضية (علم النفس واتجاهاته المختلفة)، ومرة وفقاً (للفلسفات الإنسانية وتياراتها)، وثالثة من وجهة نظر الأسطورة العبرية ورابعة تبعاً لمناهج (علم الاجتماع والأنثربولوجيا)، وخامسة حسب تفهمها وتعمقها في (الموسيقى) و(الرسم) و (الدراما)...الخ..]‏

كل هذا حدث وتضخم وأخذ أوسع مداه لأنهم اعتبروا كافكا [أكبر محللٍ لظاهرة القلق عند اليهود وأحد المبشرين بفك طوق الغيتو، باتجاه الوطن التاريخي الموعود].

ولم يكتفِ الأستاذ حسن حميد بهذه المقارنة أو لنقل المفارقة في أحجام المبيعات كدليل على اهتمام اليهود بكافكا بل ساق إلينا ما يثبت اهتمام كافكا باليهود عبر مقاطع من رسائل كان قد بعثها إلى حبيبته (فيليس باور) تضمنت توجيهاته للشباب اليهودي وأخبار مشاركاته في المؤتمرات الصهيونية وتوجيه عناية (فيليس باور) وتشجيعها على العمل في بيت الشعب اليهودي.

يقول في إحدى هذه الرسائل:‏
[إن كتابة الرسائل إليك تغمرني بسرور أستطيع أن أعبر عنه بعدة صفحات.
إنكما أخيراً معاً، أنت والوطن. وهذا الأمر بالتأكيد أعظم شيء من ناحية الأهمية.
وكل شيء بعدئذ سيغدو جيداً.
وأود أن أسمع رأيك حول محاضرة الدكتور ليهمان مع أنني لا أفهم التناقض لديك، وأنك لم تكوني مندهشة كثيراً لما سمعت، وأفترض أن هذا كان ازدراء، وأنك ما تزالين مندهشة من جراء الأفكار التي عبرت عنها المحاضرة، وأرى أنك ما دامت المحاضرة محل اهتمامك تبدين محظوظة خاصة وأنها تتحدث عن مشكلة أساسية هي في رأيي لا يمكن أن تظل طي السبات، وأنها ستستمر في البروز بين حين وآخر لإثارة الإزعاج أمام الأسس العميقة للصهيونية!]‏
أحدث أقدم

نموذج الاتصال