التمركز في دائرة الذات ورؤية العالم من خلالها في مجموعة (ظِلِّي يُشْبِهُني) لعائض بن علي القرني

يُعلن عائض القرني في مجموعته (ظلي يشبهني) الصادرة عام 1422هـ الحربَ على العصر لكثرة ما فيه من زيف وبهتان: (إني لقيتُ الأرضَ عامرةً / بحكايةِ المحتالِ والوغدِ 95).

وهذا العصر لا يستحق أي اهتمام مما يدفع الكاتب إلى القول:
سوفَ أنسى الجدارَ
الذي كانَ يشتلُّ ذاكرةَ الحبِّ والذكرياتْ
سـوفَ أنسى الورودَ التي كانَ يقطِفُها العشقُ
في لهفةِ الأمسياتْ
سوفَ أنسى، وأنسى، وأنسى
وإياكَ يا قلبُ تستشعرُ الحبَّ، أو أن تحسّ (99)

وبناء على ذلك فهو يتجاهل الواقع بكل ما فيه، ويبني (الرؤيا) على الماضي:
رحمَ اللهُ جدّي ما كان أروعَهُ من زمنْ
كرّمَ اللهُ موتَ النِّضال ماكانَ أقدسَهُ من ثمنْ
بيّضَ اللهُ وجهَ الجهالات ما كان أجملَه من كفنْ
قبّحَ اللهُ هذا المكان مَلِـئَاً بكلِّ الثقافاتِ
مُمْتَلِـئَاً بالعَفَنْ(115)

فهو يرفض العصر على الرغم مما فيه من تقدّم تقني، بل إنه يرفضه لأنه كذلك، ويحبّذ الماضي على الرغم من جهل.

ومقابل رفض الحاضر هناك في المجموعة تضخّم في الأنا ، وتمركز في الذات وحولها ورؤية العالم من خلالها، واستعادة الموقف الرومانسي الذي كان سائداً في النصف الأول من القرن العشرين بكل ما فيه من (تورّم للذات).

فجمال الأشياء في مجموعة القرني، أوقبحها يُقاس من خلال علاقتها المباشرة بالذات المبدعة.
فالدنيا والفكر والصدق والجود هي مفاهيم جميلة ليس لأنها - أصلاً- كذلك، بل لأنها تنسجم وتطلعات الفرد أو عبرّت عنه، أو مرّت من خلال الأنا المتضخمة فيه:
سلامٌ على الدنيا إذا لم يمتْ بها رجائي، ولم تذبل عليها أناملي
سلامٌ على الشمسِ التي أيقنتْ بها عيوني، ولم تحفل بشتم القوائلِ
سلامٌ على الفكرِ الذي أيقظَ الرؤى بحَرْبَةِ قولٍ مستقلٍّ مناضلِ
سلامٌ على الصدق...
سلام على الجود(7-8)

ولأن الذات متضخمة إلى هذا الحد، فطبيعي أن تأتي صورة الواقع مقزّمة ، وهزيلة :
عصرٌ أراقَ الغُبْنَ فـي دمهِ -- وأتـى بخيطِ الحزنِ مُتصلا
وحضارةٌ  من  جورِ أنفسِنا -- أضفتْ  على أذواقِنا الزَّللا(54)
والحاضر - إلى جانب ما تقدّم - فقد الأصالة الاجتماعية والفنية:
احرقي قهوةَ الكرمِ الحاتمي ، فما عادَ في ساحةِ الدارِ متسّعٌ للضيوف
وما عادَ في لغةِ الشعرِ منقبةٌ للتلطُّفْ(66)

وقد هيمن (الوعي الجمالي التقليدي) على الخطاب الشعري فجاء تقليدياً بكل مايحمله هذا النمط من مزايا (مثل الاعتماد على الشكل التقليدي للبنى الفنية، واستخدام المفردات بمعناها المعجمي إلى جانب التقريرية، والخطابية، والمباشرة، وغلبة عناصر الرؤية على الرؤيا).

وجميع نصوص المجموعة تؤكد ذلك، يقول:
دَعْنِي أُقَـبِّلُ فيك الأصلَ والنَسَبا -- ياتربةَ  الوطـنِ  المكنونِ يـا ذَهَبَا(9)

ومما دعمَ هذا الجانب أيضاً أن بعض نصوص المجموعة نصوصُ مناسبات 9- 17 –21 - 37، ويناسبها هذا النوع من الوعي الجمالي.

من ذلك مثلاً قصيدة طويلة كتبها الشاعر تحية لمحمد الدرة.
فعلى الرغم من رفعة الفكرة التي تضمنتها القصيدة، لكـن من يقرؤها يجد أنها تتخلّف كثيراً عن قوة الفكرة.

ولهذا برأينا سببان:
أولهما أن حدث استشهاد محمد الدرة كان كبيراً، ومن الصعب احتواؤه في نص عادي يروي القصة فحسب ويتبنى مجموعة من الشعارات.
والسبب الثاني هيمنة الوعي الجمالي التقليدي على النص مما جعله قاصراً عن قوّة الحدث.

ولذلك فقد بدا مفهوم البطولي هزيلاً في النص.
أولُ النصرِ محمدْ، غايةُ التمكينِ دُرّهْ
جهلُ إسرائيلَ لايقبلُ أن تُشرقَ في الأكوانِ دُرّهْ
قلبُ إسرائيل مجبولٌ على البُغضِ
ولو عمَّ سلامُ الله ضَرّهْ
إقرأ التاريخَ من نشأتِهِ سترى صنيعَ القومِ من آدمَ حتى الآنَ
ما عادلَ في مجموعِهِ إحسانَ هرّهْ
أنفسٌ مملوءةٌ بالخبثِ والتشكيكِ والتزويرِ
في منتجعِ الأوساخِ حرهْ(21- 25)
ونحن نتساءل مرّة أخرى: أين الشعر من هذا الكلام؟

وقد كان لهذا الوعي تأثيره السلبي على حقل الرؤيا في المجموعة؛ فعلى الرغم من أهمية الأسس التي سعى الشاعر بناء الرؤيا عليها مثل: (حب الوطن، والأمان، والحرية، والعدالة).

لكنه قدّم كل ذلك من خلال الجمل الشعرية الضعيفة، والاستخدام المجاني للمفردات، والتعبير المباشر، والشعارية، والمنبرية، والنثرية.

يقول الكاتب عن الوطن :
لأنتَ أجملُ  لونٍ  ضاءَ من مقَلٍ -- وأنتَ أجملُ لحنٍ يُنعشُ الطرَبا(10)
ماذا أُحدِّثُ عن ذكراكَ يا وطني -- وطيبُ ذِكرِكَ فاقَ الشعرَ والخُطبا(12)
وأنظر كذلك 10 و35.

والأكثر من ذلك حين ينتقل الحلم إلى شكل من (التفاؤل المجاني) الذي لم يستغرق في سياقه الفني، ويأخذ صيغةَ المباشرة، وكأنه منتزعٌ من النص، يقول:
ليس عيباً إذا قلتُ للوقتِ خذ ما تريد
أهادنه رغبةً في البقاء
منتهى العجز في الاختباء وراء الخيال
لكي يرضعَ الشوقُ من حلمات الحنان(45)

وبسبب كلِّ ماتقدّم جاء التناص باهتاً مشوّهاً على نحو قوله:
رأيتكِ نجمةً يختالُ فيها الغيمُ في الزمنِ اليبوسِ
رأيتُكِ فتنةً تَهَبُ المنايا صهيلَ الخيلَ من حربِ البسوسِ(41)
وأنظر كذلك (ص22).

ولم يُنقذ الكاتب لجوؤه إلى وضع الكلمات في علاقات رمزية، فقد جاءت باهتة أيضاً ومفتعلة ضمن سياق متباين، متنافر، من ذلك العبارات التالية: (ريقُ الحنان، ثغرُ الفجر، نبضُ الأزهار، أطعنُ الخوفَ، عزّةُ الوقت، ذُلّ الرغام، أسودُ الحرف، كَفُّ العدم، معطفُ البكاء، بنتُ الشمس، نصُّ الصمت...).

وقد كان من خلاصة تأثير الوعي الجمالي التقليدي أن انتقل الشعر في المجموعة من موقع (التخييل) إلى (التنظير).
ويمكن القول: مما أُخِذَ ويُؤخذ على النقد المعاصر أنه يميل إلى التنظير ويهرب من المواجهة التطبيقية.

ومع ذلك يظل التنظير جزءاً من الفعالية النقدية، ولكن الأخطر، والأغرب أن يتقلّد الشعر دورَ النقد.
والكاتب تركَ موقعَ الشاعر ليمارس النقد.
ولاأدري لماذا فعلَ ذلك؟ يقول:  
مـاءُ  الثقافـةِ  ممجوجٌ بواقعِهِ -- مـاءٌ بـهِ  وعليهِ  يَكثرُ  العلَـقُ
دعِ المواهبَ يجتثُّ الأسى فمَهَا -- وللصحائفِ سيفَ الصمتِ تمتشقُ(68)

إن المبالغة في اللجوء إلى الذات وعدم التصالح مع الواقع يولّد غالباً أزمة في الفرد تفرز آلياً الإحساسَ الدائم بالألم.
ولعل الخلل الذي أعلنه الشاعر منذ البداية بين الأنا والعصر هو السبب الأساسي في بروز التراجيدي.

والمعجم الشعري الذي ارتكزت عليه نصوص المجموعة يؤكد ذلك: (ضياع، ألم، حزن، شك، موت أسود، إثم، صبر، منايا، عدم، ظن، زفرة، سقم، مآسي، هرم...

خلاصة القول:
إن مجموعة ظلي يشبهني لعائض القرني على الرغم من تغليبها للذات على الموضوع، لكنها غلّبت - من الناحية الجمالية - الرؤيةَ على الرؤيا.

وهذا من الأمور الغريبة المتناقضة، وعِلّته برأينا غلبةُ الوعي الجمالي التقليدي على كافة النصوص الذي أنتج قلقاً بين المثل الجمالي وبين العصر، بين الشكل التقليدي وبين الأشكال المعاصرة.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال