شرح وتحليل: تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا + تَفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ

تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا + تَفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ

يتناول هذا البيت الشعري، وهو جزء من معلقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى، الدور المحوري لشخصيتين (عادةً ما يُشار إليهما بهرم بن سنان والحارث بن عوف) في إنهاء حرب طاحنة دارت بين قبيلتي عبس وذبيان. يصف الشاعر الحالة الكارثية التي وصلت إليها القبيلتان قبل تدخل المصلحين، مستخدمًا صورًا بلاغية قوية لبيان مدى الدمار والفناء الذي لحق بهما.


التدارك: تلافي الفناء والخراب

يشير الشطر الأول "تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا" إلى عملية التدارك التي قام بها المصلحان. التدارك هنا يعني التلافي واللحاق بالأمر قبل فوات الأوان، أو إصلاح ما أفسده الدهر والنزاع. لقد جاء تدخل هؤلاء الرجال في لحظة حرجة للغاية، حيث كانت القبيلتان على وشك الفناء الكامل. هذا التدخل لم يكن مجرد وساطة عادية، بل كان بمثابة إنقاذ من مصير محتوم من الدمار الشامل الذي كان يهدد وجودهما. يمكن أن نتخيل المشهد قبل التدارك: أرضًا خربة، بيوتًا مهجورة، وأرواحًا أزهقت، كلها نتيجة لحرب ضروس دامت لسنوات طويلة.


التفاني: الذوبان في الفناء المشترك

توضح كلمة "تَفَانَوا" في الشطر الثاني مدى العنف الذي بلغته الحرب بين عبس وذبيان. التفاني يعني هنا التشارك في الفناء والهلاك. لم تكن المعركة مجرد اشتباكات متفرقة، بل كانت صراعًا وجوديًا أدى إلى هلاك أعداد كبيرة من رجال القبيلتين. هذه الكلمة تصور صورة مأساوية لرجال يفقدون حياتهم، ليس دفاعًا عن قضية نبيلة بالضرورة، بل في سياق صراع مستمر لا يرحم. لقد وصل الحال بهما إلى درجة أن كل طرف كان يسعى إلى إفناء الآخر، وفي هذا السعي، كان يفني نفسه أيضًا. هذا يشير إلى دورة عنيفة من الثأر والقتل، حيث يصبح النزاع غاية في حد ذاته بدلًا من وسيلة لتحقيق هدف معين.


"دقوا بينهم عطر منشم": رمزية الهلاك الشامل

أما التعبير الأبرز والأكثر إيحاءً في البيت فهو "وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ". هذه العبارة تحمل دلالات عميقة وترمز إلى الدمار الشامل والفناء التام. يربط الشاعر هنا بين حال القبيلتين وبين المثل العربي المعروف "عطر منشم"، والذي يعني إفناء القوم وهلاكهم عن آخرهم. هناك روايتان مشهورتان حول "منشم":

  • الرواية الأولى (المرأة العطارة): تقول هذه الرواية إن منشم كانت امرأة عطارة اشترى منها قوم جفنة من العطر. تعاهدوا وتحالفوا على قتال عدو لهم، وجعلوا آية حلفهم أن يغمسوا أيديهم في هذا العطر. بعد ذلك، قاتلوا عدوهم بقوة وشجاعة، ولكنهم قُتلوا جميعًا عن آخرهم في تلك المعركة. ومن هنا، صار العرب يتشاءمون من "عطر منشم" وصار مضربًا للمثل في الهلاك الكلي والفناء التام.
  • الرواية الثانية (عطار الموتى): تشير رواية أخرى إلى أن منشم كان عطارًا يُشترى منه ما يُحنط به الموتى. هذا العطر، في هذه الحالة، يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالوفاة والجنائز، مما يعزز دلالة الهلاك والفناء.

في كلا الحالتين، استخدام الشاعر لتعبير "دقوا بينهم عطر منشم" يرسم صورة قاتمة لحال عبس وذبيان. إنه يشير إلى أن الحرب بينهما لم تترك أحدًا، وأنها استنزفت رجالهما حتى النهاية، تمامًا كما أُفني المتحالفون الذين تعطروا بعطر منشم. هذا التعبير يبرز مدى اليأس والدمار الذي كانت عليه القبيلتان، ويؤكد على أن تدخّل المصلحين لم يكن مجرد فض نزاع بسيط، بل كان إنقاذًا من محو شبه كامل.


الصورة الكلية للبيت: دعوة للسلام وإنهاء الصراعات

مجمل القول، يصور هذا البيت الشعري ببراعة حالة الفناء والدمار التي وصلت إليها قبيلتا عبس وذبيان بسبب حروبهما الطويلة. ويبرز الدور الإيجابي لهؤلاء المصلحين الذين تمكنوا من تلافي الكارثة الكبرى، ليضعوا حدًا لصراع استنزف كل طاقاتهما. يعكس البيت كذلك الحكمة الجاهلية في تفضيل السلام على الحرب المدمرة، ويسلط الضوء على أهمية السعي لإخماد الفتن قبل أن تستعر وتأتي على الأخضر واليابس. هذا البيت ليس مجرد وصف تاريخي، بل هو دعوة خالدة إلى نبذ العنف والبحث عن حلول سلمية للصراعات، مهما بلغت شدتها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال