تختلف استراتيجيات الروائيين في معالجة الأسطورة.
فهناك من يعيد صياغتها حرفياً، فيظل مشدوداً إلى منطق الأسطورة، أسيراً في شرنقتها، مما يجعله عبئاً على منجز حكائي جاهز يتعامل معه بشكل سكوني.
وهناك من يوظف الأسطورة توظيفاً جزئياً أو توظيفاً ديناميكياً متسلحاً بحيل لغوية وفنية متنوعة.
فماذا فعل إبراهيم الكوني في روايته "نزيف الحجر"؟
لقد راوغ الكوني كثيراً في مراودة الأسطورة محاولاً أن يستفيد منها قدر ما يستطيع حتى لا يشعرنا بأنه يدين لها بشيء.
ومن ذلك استعماله التقنيات التالية:
1- الرمز الأسطوري:
إذ استعار شخصية أسطورية معروفة وهي قابيل، وأضاف إليها من عندياته ما جعلها فرداً من ممتلكاته الروائية وجزءاً لا يتجزّأ من عالمه التخييلي، بعد أن أفرغ موتيف "القربان" من ظلاله الماورائية/ القدسية، فلم يكن للسماء أي دخل في سير الأحداث، وكان القربان متعلقاً بشؤون الأرض فحسب.
2- التفتيت/ defomation:
لم يسرد إبراهيم الكوني قصة قابيل وهابيل / قصة الإخوة الأعداء دفعة واحدة بل اعتمد تقنية التفتيت وهو "زحزحة التطابق بين النظام التتابعي للأحداث الموصوفة وبين نظام تواليها في الرواية" لذا جاءت القصة الأسطورية متشظية/ مبعثرة في فصول كثيرة من الرواية مخلفة بين كل فصل وآخر ثغرات ملأها الروائي بخلق بمسارات سردية جديدة ستتقاطع في وسط الرواية أو في نهايتها بمسار القصة الأسطورية، أي أنّ الروائي تعمّد كسر النمط التتابعي للأسطورة والرواية في آن واحد ليحافظ على تشوّق القارئ للنهاية أو حتّى لا يبدو متطفلا على الأسطورة "التي لا تشكّل متنا روائيا لكنها في الوقت نفسه تبدو مندغمة بهذا المتن".
3- التناوب/ Alternative:
الذي "يعني رواية حدث ثمّ تعليقه للانتقال إلى حدث آخر ثمّ العودة إلى الحدث المعلّق" فلم يشأ الكوني أن يخلق خطّاً سردياً تتابعياً بل جعل أسطورته مبعثرة في أكثر من موقع، فلا تلتئم أشتاتها إلا بنهاية الرواية أي أن الأسطورة لا تنتهي إلا بنهاية الرواية مما يجعلها عنصراً متأصلاً في جسد الرواية وليست زائدة نصية يمكن استئصالها.
4- تعدد الساردين:
لم يشأ الكوني أن يكون مستبداً بنصه ولا متحكماً في أعناق شخصياته يحرّكها كما يشاء، ويقول عنها ما يريد، بل جعلها شخصيات راشدة، مسؤولة عن أقوالها وأفعالها لذا لم يتعامل مع الشخصية البطلة/ قابيل بمنطق الراوي العالم بكل شيء عن شخصياته المطلع على أفئدتها، المترصد لكل حركاتها، بل قدم بطله من خلال رواة كثيرين مثل صديق مسعود، والكابتن جون باركر والدرويش والعراف الزنجي ساعدت هذه الشخصيات في رسم صورة قابيل من زوايا مختلفة، فالكوني يقدم قابيل من خلال عدد من الشخصيات الثانوية التي تبدو شاهدة عليه حتى لا يستبد بمهمة إنجاز عالمه الروائي وحده.
5- الديباجة Epigraphe:
استثمر الكوني تقنية الديباجة ليفتتح بها فصوله الروائية، والديباجة هي نص استهلالي أو علامة دالة تتقدم النص وتعلن عنه، وتتصل به لحظة ميلاده عبر حبل سري لمنحه سمات جمالية خاصة، لقد تفنن الكوني في توظيف هذه التقنية إذ مهد لنصوصه بمقتطفات نصية مقتلعة من قصص أسطورية أو من طقوس أسطورية في الغالب مثل افتتاحه فصل "ثمن الغزالة" بالمقطع التالي "ويتشاءم أهل تاسيلي من صيد الموفلون (الودّان)، فيتمتم الصيّاد بالتعاويذ السحرية، ويضع حجراً على رأسه، ويتقافز على أربع قبل أن ينطلق في رحلة الصيد" أي أن الروائي قد استنزف الأسطورة موضوعاتياً وجمالياً بما يمكنه من خلق نص أدبي فوق العادة.