لم يكتف إبراهيم الكوني بالتعامل بالرموز الأسطورية بل ارتقى إلى التعامل بمنطق الأسطورة أي صار يصوغ لنفسه أساطير خاصة به مقتنعاً بمقولة الناقد الفرنسي بيير برونيل "الأساطير هي كل ما حوّله الأدب إلى أساطير".
فالأدب هو الذي ارتقى بالبندقية والإلدورادو وباريس وإرم ذات العماد من فضائها الجغرافي إلى فضاء أسطوري حتى لا يكاد يتبيّن الخيط الواقعي من الخيط الأسطوري.
لذا فكما يستعين الأدب بالأسطورة فإنّ هذه الأخيرة تدين له كثيراً بديمومتها وبقائها وتجددها عبر العصور، انطلاقاً من كلّ هذا اختار إبراهيم الكوني فضاء طبيعياً يبدو في ظاهره قحلاً، جافاً بل متقشفاً وهو "الصحراء، لكنه استطاع بقدرته الفنية العالية أن يجعله فضاء أسطورياً ثرياً برموزه، وطبقاته الدلالية العميقة محوّلاً قحطها إلى جنّة أسطورية في عامه النصي المتخيل مستنطقاً أحجارها وكهوفها ورمالها وشمسها وحرّها..
"فالصحراء تظلّ متماهية في أساطيرها وأسرارها المغلقة بحيث لا تمكّن المبدع من الولوج إلى عالمها، والكوني لا يحفز طاقاته لاختراق الصحراء، الصحراء هي التي تنفذ إليه وتسيطر على إيقاع قلمه".
لذا يزخر نص "نزيف الحجر" بمقاطع وصفية للصحراء تتمتع بدفقات شعرية راقية، تشوبها مسحة من الغموض والإبهام الممزوجين بشيء من الخوف من المجهول ومن الفراغ الموحش في الصحراء.
وقد ساعد هذا الفضاء المترامي للروائي بأن يجعل عدد شخصياته قليلا مما يوسّع هامش التحليل والتأمل في كهوف الذات البشرية، حيث "تفصح الصحراء عن محدودية مادية مذهلة، وتقشف يضطر معه أسوف بطل الرواية لمحاورة الذاكرة وإفساح ذاكرته عن آخرها للتخييل، والتأمل لقلة الشخوص بالطبع".
فهذا الفضاء الرحب يضع الإنسان في مواجهة صريحة مع ذاته، إذ يسقط ورقة التين التي تداري عورته الأخلاقية لممارسة جدلية البقاء بين فكي العطش والتيه في عالم كل أبجديته شظف العيش والصراع من أجل البقاء.
التسميات
نثر عربي حديث