الجهة المختصة بتعديل الدستور.. إعطاء سلطة التعديل للشعب ذاته. من حق ممثلي أو نواب الأمة. إعطاؤها للسلطة التأسيسية المنشأة التي يحددها الدستور

إن جمود الدساتير يترتب عليه وجود طائفتين من القوانين: قوانين دستورية وقوانين عادية.

ولعل أهم ما يميز الطائفة الأولى (القوانين الدستورية) عن الثانية هو أنها أسمى مكانة وأكثر ثباتاً واستقراراً، فقد رأينا سابقاً أن الهدف من جمود الدساتير وما يترتب عليه من فرض إجراءات خاصة مشددة عند الإقدام على تعديلها، هو تحقيق الثبات والاستقرار لقواعد الدستور، مما يحصّنها في مواجهة المشرع العادي (فلا يملك المساس بها أو التطاول عليها سواء بالتعديل أو بالإلغاء)، ويؤكِّد سموَّها في مواجهة القوانين العادية.

غير أن الثبات المقصود به هنا ليس الثبات المطلق الذي يؤدي إلى الجمود المطلق الكلي للدستور، لأن هذا الأخير  كما بيَّنا من قبل  يتعارض مع مبدأ سيادة الأمة ويجافي سنة التطور، ولهذا كان لا بد من قبول فكرة عدم تجميد القواعد أو النصوص الدستورية تجميداً أبدياً، وإمكان تعديلها بصفة دائمة حتى تتلاءم مع التغيرات التي تطرأ على المجتمع، ولكن ما هو السبيل إلى ذلك ما دام المشرع العادي لا يستطيع تعديل القوانين الدستورية؟

اختلف فقهاء القرن الثامن عشر حول تحديد الجهة صاحبة الاختصاص بتعديل قواعد الدستور، ولم يتفقوا على طريقة معينة يجب إتباعها في هذا الشأن، وذهبوا في ذلك إلى اتجاهات ثلاثة هي الآتية:

- الاتجاه الأول: إعطاء سلطة التعديل للشعب ذاته:
نادى بهذا الاتجاه الفقيه السويسري " إميريتش دي فاتل " Emmerich de Vattel، وعبَّر عن رأيه بذلك في أطروحته ﴿قانون الأمم أو الشعوب﴾ Le Droit des gens عام 1758 التي طبَّق فيها نظرية القانون الطبيعي على العلاقات الدولية، فقد رأى "فاتل" أنه يجب لإمكان تعديل الدستور موافقة جميع أفراد الأمة (أو الشعب) على هذا التعديل.

ويستند هذا الرأي إلى أن الدستور ما هو إلا تعبير عن فكرة ﴿العقد الاجتماعي﴾ الذي أنشأ الجماعة السياسية وأسَّس السلطة العامة فيها، ومن ثم لا يمكن أن يكون الدستور إلا من وضع جميع أفراد الجماعة، أي من صنع الشعب في مجموعه، لا من صنع فئة معينة منه.

وما دام العقد الاجتماعي لا يتم إلا بإجماع إرادة أفراد الجماعة، فإنه لابد من الإجماع كذلك كلما أريد تعديل هذا العقد أو تغيير الشروط التي تضمنها.

وواضح أن هذا الرأي يؤدي إلى الجمود المطلق للدستور، حيث أن الإجماع أمر وهمي مستحيل التحقيق. وأمام هذه الصعوبة العملية اضطر صاحب هذا الرأي "فاتل" إلى التخفيف من غلواء تطبيق هذا الرأي، واكتفى لصحة التعديل أن يصدر بالأغلبية العددية المطلقة لمجموع أفراد الشعب، إلا أنه أعطى للأقلية المعارضة في هذه الحالة حق الانفصال عن الجماعة التي عدَّلت دستورها باعتبارها لم تحترم العقد الأصلي.

وفي تطورٍ لاحق، أقرَّ "فاتل" بجواز تعديل الدستور متى كان التعديل منصوصاً عليه في صلب الوثيقة الدستورية، باعتبار أن التعديل في هذه الحالة لا يعدو أن يكون تطبيقاً لأحد شروط العقد الاجتماعي.

- الاتجاه الثاني: جعل سلطة التعديل من حق ممثلي أو نواب الأمة:
نادى بهذا الاتجاه فقيه الثورة الفرنسية " امانويل سييس" Sieyès، حيث ذهب إلى القول بأن الدستور هو الذي أوجد السلطات الأساسية في الدولة وقام بتحديد اختصاصاتها، وبالتالي فإنه يحرم على تلك السلطات المنشأة المساس به أو التطاول عليه بالتعديل أو الإلغاء.

وإذا كانت القوانين الدستورية تلزم السلطات المنشأة التي أوجدتها هذه القوانين، إلا أنها لا تلزم الأمة على الإطلاق، فلها أن تعدّلها متى أرادت دون التقيّد بأي شكل معين، فالأمة هي صاحبة السيادة، وهي بتلك الصفة تملك إصدار الدستور وتعديله وإلغاءَه وفقاً لمتطلبات حياتها ودون أن تتقيد في ذلك بمراعاة أشكال معينة.

وإذا كانت الأمة تملك الحرية المطلقة في تعديل دستورها، فإنها تملك أن تقوم بهذا التعديل بنفسها أو عن طريق ممثلين ينوبون عنها في القيام بهذه المهمة؛ فالجمعية التأسيسية المنتخبة تحلّ محلَّ الأمة في إجراء التعديل، وهي مستقلة كالأمة سواء بسواء، وإرادتها هي إرادة الأمة ذاتها، ولهذا يمكنها أن تتحرر هي الأخرى من كل قيد إجرائي.

وبناء على ذلك، فإن تعديل الدستور يمكن أن يتم بالطريق المباشر بموافقة أغلبية أفراد الأمة (الشعب)، أو بالطريق النيابي (غير المباشر) بواسطة ممثلي أو نواب الأمة.

ويمكن الاعتراض على هذا الرأي بأن احترام القواعد والأشكال التي حدَّدها الدستور لإمكان تعديله لا يعدّ تقييداً لسلطان الأمة وسيادتها، والحقيقة أن هذه الشروط الإجرائية هي تدعيمٌ لهذه السيادة وتأكيدٌ لها؛ فالأمة حين تحترم القواعد القانونية فهي تضرب بذلك المَثَلَ لرعاياها وتحملهم على الخضوع الإرادي لها.

الاتجاه الثالث: إعطاء سلطة التعديل للسلطة التأسيسية المنشأة التي يحددها الدستور:
يقول أنصار هذا الاتجاه بأنه لا يمكن تعديل الدستور إلا بالطريقة التي ينصّ عليها الدستور ذاته، ومن قِبَلِ السلطة التي يُعَيّنها لذلك. وبمعنى آخر فإنه لا يجوز تعديل أي نص من النصوص الواردة في وثيقة الدستور إلا بواسطة الجهة التي أناط بها الدستور القيام بذلك، وضمن الشروط والإجراءات والأصول الواجبة إتباعها لتعديل الدستور.

وقد كان لهذا الرأي الغَلَبَة في القوانين الوضعية، حيث أخذت به أغلب الدساتير، ومنها الدستور السوري الحالي لسنة 1973()، لبساطته وحِكْمَته.

ويعود الفضل في إبراز هذا الرأي إلى الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" Rousseau، وقد عبَّر عنه في مقالٍ له صدر سنة 1782 بعنوان ﴿تأمُّلات أو نظرات حول حكومة بولندا﴾ Considérations sur le gouvernement de Pologne، حيث قرر أنه: ﴿مما يناقض طبيعة الأشياء في الجماعة أن تفرض الأمة على نفسها قوانين لا تستطيع سحبها أو تعديلها، ولكنه مما يتفق مع هذه الطبيعة ومع المنطق أن الأمة لا تستطيع أن تسحب هذه القوانين أو أن تعدلها إلا طبقاً لنفس الشكل الرسمي الذي اتبعته عند إصدارها لها﴾.

وقد قَبِل الفقيه "فاتل" ضمناً بهذا الرأي، كما أخذ به الدستور الفرنسي الصادر عام 1791 بعد مناقشات طويلة، ثم درجت عليه فرنسا بعد ذلك في دساتيرها المتعاقبة.

وواضح أن هذا الاتجاه الذي يمثل الفقه الحديث، يؤدي إلى التفرقة بين ﴿السلطة التأسيسية الأصلية﴾ التي تتولى مهمة وضع دستور جديد للدولة و﴿السلطة التأسيسية المنشأة أو المشتقة﴾ التي تختص بتعديل الدستور القائم.

وتوصف السلطة الأخيرة بأنها سلطة ﴿منشَأة﴾ أو ﴿مشتقَّة﴾، لأنها تتقيد في عملها بالنطاق الذي حدده لها الدستور الذي أنشأها، وتلتزم بما رسمه لها من إجراءات، فإذا ما فوَّض الدستور السلطة التشريعية مثلاً القيام بتعديل نصوصه، فيجب على هذه السلطة أن تقوم بالتعديل وفقاً للإجراءات والأشكال التي حدَّدها الدستور.

ومن الطبيعي ألا تكون هذه الأشكال هي ذات الأشكال والإجراءات المقررة دستورياً للتشريع العادي، وإلا انتفت عن الدستور صفة الجمود، وانهارت بالتالي سيادته في مواجهة القوانين العادية.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال