صعود المدرسة السلوكية: سياق تاريخي وفكري
شهدت بدايات القرن العشرين تحولًا جذريًا في علم النفس، تمثل في بزوغ المدرسة السلوكية، والتي جاءت كاستجابة وتطور لتيارات فكرية وعلمية سابقة. لم يكن ظهورها مجرد حدث عشوائي، بل نتيجة لتضافر عدة عوامل مهمة مهدت الطريق لتبني منهج جديد في دراسة السلوك البشري والحيواني، خاصة بعد الهيمنة الكبيرة للمدرسة التحليلية التي أسسها سيغموند فرويد.
العوامل الرئيسية التي ساهمت في نشأة المدرسة السلوكية:
شكلت التراكمات المعرفية والنقد الموجه للمناهج السابقة أرضًا خصبة لظهور السلوكية. يمكن تفصيل العوامل المؤثرة كالتالي:
1. الدعوات المبكرة للموضوعية في علم النفس:
قبل ظهور المدرسة السلوكية، كانت هناك أصوات بارزة تنادي بضرورة إضفاء الطابع العلمي والموضوعي على دراسة الظواهر النفسية، بدلًا من الاعتماد على التأملات الفلسفية أو التحليلات الذاتية. من أبرز هذه الأصوات:
- رينيه ديكارت (René Descartes): على الرغم من كونه فيلسوفًا، إلا أن دعوته للتمييز بين العقل والجسد، ومحاولاته لوضع أسس لدراسة ميكانيكية للجسد، فتحت الباب أمام التفكير في إمكانية دراسة السلوك Observable بشكل منهجي. فكرة أن الجسد يعمل كآلة يمكن فهمها من خلال قوانين فيزيائية كانت بذرة للتفكير في السلوك كاستجابة قابلة للملاحظة والقياس.
- أوغست كونت (Auguste Comte): مؤسس الفلسفة الوضعية، شدد على ضرورة قصر البحث العلمي على الظواهر القابلة للملاحظة والقياس التجريبي. رفض كونت الميتافيزيقا والتأملات الذاتية، ودعا إلى تطبيق المنهج العلمي الصارم على جميع مجالات المعرفة، بما في ذلك دراسة الإنسان والمجتمع. هذا التركيز على الوضعية كان له أثر بالغ في تشجيع علماء النفس على البحث عن طرق لدراسة السلوك بطريقة موضوعية وقابلة للتحقق.
2. نظرية التطور لداروين واهتمامها بعلم نفس الحيوان:
كان لنظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين أثر تحولي على علم النفس. فبعد أن قدم داروين مفهوم الاستمرارية بين الأنواع، أصبح من المنطقي دراسة سلوك الحيوانات لفهم أسس السلوك البشري. إذا كان هناك تطور بيولوجي مشترك، فمن المحتمل أن تكون هناك آليات سلوكية مشتركة أيضًا. هذا الاهتمام بعلم نفس الحيوان أدى إلى:
- تطوير مناهج بحث تجريبية: بما أن الحيوانات لا يمكن أن تخضع للاستبطان (التأمل الذاتي)، فقد كان لا بد من تطوير طرق موضوعية لملاحظة وقياس سلوكها في بيئات مضبوطة.
- التركيز على التعلم والتكيف: أصبحت دراسة كيفية تعلم الحيوانات وتكيفها مع بيئاتها ذات أهمية قصوى، مما مهد الطريق أمام مفاهيم أساسية في السلوكية مثل التكييف الكلاسيكي والفعال.
3. تأثير المدرسة الروسية (مدرسة المنعكس الشرطي):
تُعد المدرسة الروسية في علم النفس الفسيولوجي أحد الروافد الأساسية والمباشرة التي غذت الفكر السلوكي. فقد ركزت هذه المدرسة على دراسة المنعكسات كآليات أساسية للسلوك:
- إيفان سيتشينوف (Ivan Sechenov): يُعتبر رائد هذه المدرسة، حيث أكد على أن جميع الأفعال، بما في ذلك العمليات النفسية المعقدة، يمكن تفسيرها كمنعكسات ناتجة عن تفاعلات بين الكائن الحي وبيئته. كتابه "منعكسات الدماغ" (Reflexes of the Brain) كان له تأثير كبير في تحويل التركيز نحو الفسيولوجيا كأساس لفهم السلوك.
- إيفان بافلوف (Ivan Pavlov): قام بتطوير أفكار سيتشينوف من خلال أبحاثه الرائدة حول التكييف الكلاسيكي (Classical Conditioning). أثبت بافلوف من خلال تجاربه الشهيرة على الكلاب أن المنعكسات يمكن أن تتشكل وتتعدل نتيجة للتعلم الارتباطي بين المثيرات. هذا البرهان التجريبي على أن السلوك يمكن أن يتشكل من خلال الارتباطات البيئية قدم أساسًا قويًا للمنهج السلوكي.
الحاجة إلى بديل ومنهج جديد:
إضافة إلى هذه العوامل المحددة، كان هناك شعور عام بـفراغ معرفي أو عدم قناعة بالنماذج السائدة آنذاك، وخاصة المدرسة التحليلية الفرويدية التي ركزت على اللاوعي والدوافع الداخلية التي يصعب قياسها أو ملاحظتها بشكل مباشر. كان هناك بحث حثيث عن بديل يقدم تفسيرات أكثر قابلية للتحقق التجريبي والموضوعية.
لقد تراكمت كل هذه العوامل، من الدعوات الفلسفية للموضوعية، إلى الإلهام من نظرية التطور، وصولًا إلى الأبحاث الفسيولوجية الروسية، لتخلق بيئة فكرية وعلمية مواتية لظهور المدرسة السلوكية. لم تكن السلوكية مجرد فكرة وليدة اللحظة، بل كانت تتويجًا لجهود متراكمة سعت إلى تأسيس علم نفس يعتمد على الملاحظة التجريبية ويهدف إلى فهم السلوك والتنبؤ به والتحكم فيه.
التسميات
تسيير