أولوية حفظ الدين في مقاصد الشريعة: لماذا يتقدم حفظ العقيدة على صيانة الأعراض كركيزة للاستقرار المجتمعي والأخلاقي

حفظ الأديان مقدم على حفظ الأعراض:

يُعد موضوع "حفظ الأديان مقدم على حفظ الأعراض" من القضايا الدقيقة والهامة في الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة، ويتطلب فهمًا عميقًا للسياقات التي ورد فيها هذا التقديم. لا يعني هذا التقديم التقليل من شأن الأعراض وحرمتها، بل هو إشارة إلى سلم الأولويات الشرعية التي تهدف إلى تحقيق المصالح العليا وحماية الضروريات الأساسية التي لا تقوم حياة الإنسان بدونها.

مقاصد الشريعة الإسلامية: الأساس النظري

لفهم هذا التقديم، لا بد من استعراض مقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى. أجمع العلماء على أن الشريعة جاءت لحفظ خمس ضروريات، تُعرف بالضروريات الخمس أو الكليات الخمس، وهي بالترتيب المتفق عليه عمومًا:
  • حفظ الدين: وهو الأصل الذي قامت عليه الشرائع السماوية، ويشمل حفظ العقيدة الصحيحة، والعبادات، والتشريعات المنظمة لحياة المسلم.
  • حفظ النفس: ويعني الحفاظ على حياة الإنسان وسلامته البدنية، وتحريم كل ما يؤدي إلى هلاكه.
  • حفظ العقل: ويعني الحفاظ على قدرة الإنسان على التفكير والتمييز، وتحريم كل ما يغيبه أو يفسده.
  • حفظ النسل (أو العرض): ويعني الحفاظ على الأنساب، وتنظيم العلاقات بين الجنسين، وتحريم الفواحش وما يمس العرض والشرف.
  • حفظ المال: ويعني الحفاظ على ممتلكات الأفراد والمجتمعات، وتنظيم التعاملات المالية، وتحريم السرقة والغصب.

تقديم حفظ الدين على حفظ العرض: السياقات والدلالات

إن تقديم حفظ الدين على حفظ العرض ينبع من عدة اعتبارات شرعية ومنطقية:

1. الدين هو الأصل والغاية:

الدين هو الإطار الذي يمنح الحياة معنى وهدفًا، وهو الذي يحدد للإنسان مساره في الدنيا والآخرة. فإذا فسد الدين أو ضاع، تلاشت القيم الأخلاقية، وتفككت الروابط الاجتماعية، وفقد الإنسان بوصلته. الأعراض، وإن كانت غاية في الأهمية، فهي تتفرع عن منظومة القيم الدينية التي تحميها وتحصّنها. بدون دين صحيح، يسهل انتهاك الأعراض وتضييع الحقوق.

2. الخطر على الدين أعمق وأشمل:

الخطر الذي يتهدد الدين غالبًا ما يكون أعمق تأثيرًا وأكثر شمولاً من الخطر الذي يتهدد الأعراض بشكل مباشر. فمساس الدين قد يؤدي إلى الكفر، أو الردة، أو انتشار البدع والخرافات، مما يؤثر على الأمة بأكملها وعلى أجيال متعاقبة. في المقابل، انتهاك العرض، وإن كان جريمة شنيعة وآثمة، إلا أن أثرها غالبًا ما يكون محصورًا في الأفراد المعنيين أو الدائرة المقربة منهم، وإن كانت آثارها النفسية والاجتماعية جسيمة.

3. الدين هو الحصن للأعراض:

الشريعة الإسلامية هي التي جاءت بتشريعات صارمة لحفظ الأعراض، مثل تحريم الزنا والقذف، وتحديد عقوبات رادعة لذلك. فلو فُقد الدين الذي يأمر بهذه الأحكام، لما وُجدت هذه الحماية للأعراض أساسًا. فالقوانين والأخلاق التي تحمي الأعراض تستمد شرعيتها وقوتها من المنظومة الدينية.

4. أمثلة تطبيقية:

قد تظهر هذه الأولوية في بعض الأحكام الشرعية، مثل:
  • الجهاد في سبيل الله: يُقدم الجهاد لحماية الدين ونشره، وقد يترتب عليه تعرض النفوس والأعراض للخطر في ساحة المعركة. هذا التقديم ليس إهدارًا للأعراض، بل هو تضحية بالخاص لحماية الأعم والأهم (الدين الذي هو سبب وجود الأعراض وصونها).
  • حد الردة: يُعاقب المرتد عن دينه بالقتل (بعد استتابته)، وهذا حفظ للدين من التلاعب به والطعن فيه، حتى لا يصبح أمر الدخول والخروج من الدين سهلاً، مما يهدد كيان الأمة وعقيدتها. قد يقول قائل: أليس في ذلك مساس بالنفس والعرض؟ نقول: نعم، ولكن حفظ أصل الدين مقدم لتبقى الأمة متماسكة على الحق.
  • النهي عن المنكرات: يُطلب من المسلم تغيير المنكرات التي تضر بالدين حتى لو عرض نفسه لبعض الخطر، لأن بقاء المنكر قد يضر بالدين كله.

هل يعني هذا التقليل من شأن الأعراض؟

قطعًا لا. إن تقديم حفظ الدين على حفظ الأعراض لا يعني أبدًا التقليل من شأن الأعراض أو إباحة انتهاكها. فالأعراض لها مكانة عظيمة في الإسلام، وقد شددت الشريعة على صيانتها وحرمة المساس بها. تحريم الزنا، والقذف، ووضع عقوبات صارمة على هذه الجرائم، كلها أدلة واضحة على مدى حرص الإسلام على صون العرض والشرف.

بل إن حفظ الأعراض يعتبر من أهم مقاصد حفظ النسل، وهو مقصد ضروري لا تستقيم الحياة بدونه. فلو فُقد حفظ الأعراض، لاختلطت الأنساب، وانتشرت الفوضى، وتفككت الأسر، وانهار المجتمع.

خلاصة:

إن مبدأ "حفظ الأديان مقدم على حفظ الأعراض" هو مبدأ تأصيلي في فقه مقاصد الشريعة، يعكس سلم الأولويات الذي تضعه الشريعة لضمان بقاء المصالح العليا للأمة. الدين هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة المستقيمة، وهو الذي يوجه الإنسان ويحدد له قيمه وأخلاقه، ومن ضمنها الحفاظ على العرض.

هذا التقديم لا يعني إطلاقًا التساهل في حرمة الأعراض، بل هو إشارة إلى أن الدين هو الحصن الذي يحميها، والقاعدة التي تستند إليها كل الحقوق والحرمات. فلو انهدم الحصن، لتعرض كل ما بداخله للضياع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال