حفظ العقل في الشريعة الإسلامية من جانب الوجود ومن جانب العدم: رؤية شاملة لحفظ الوجود وحماية العدم كركيزة للتكليف والازدهار البشري

الشريعة الإسلامية والعقل: حفظ ورعاية من منظور شامل

تولي الشريعة الإسلامية أهمية قصوى للعقل، وتعتبره ركيزة أساسية في بناء الفرد والمجتمع، بل وتعدّ حفظه من الكليات الخمس (الضروريات الخمس) التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وتتجلى هذه العناية في جوانب متعددة، يمكن تقسيمها إلى جانبين رئيسيين: جانب الوجود وجانب العدم، وكلاهما يهدف إلى ضمان سلامة العقل وفعاليته في أداء وظيفته.

أ- جانب الوجود: تعزيز العقل وتنميته

يُقصد بجانب الوجود كل ما جاءت به الشريعة لدعم العقل وتنميته، وتفعيل دوره في حياة الإنسان. ويمكن تفصيل ذلك في النقاط التالية:

1. التكريم الإلهي للعقل في القرآن الكريم:

يُلاحظ المتدبر للقرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى قد أكثر من ذكر العقل ومشتقاته، واختتم العديد من الآيات بعبارات تحث على التفكر والتدبر، مثل: "لعلكم تعقلون"، "إن كنتم تعقلون"، "لآيات لقوم يعقلون"، "أفلا تعقلون". هذا التكرار والتركيز على العقل ليس من قبيل الصدفة، بل هو دلالة واضحة على المنزلة الرفيعة التي أولاها الإسلام للعقل، وتأكيد على أهميته في فهم آيات الله الكونية والشرعية، وإدراك الحقائق. فالعقل هو الأداة التي يَتَحقق بها الإيمان الواعي، والتسليم المستند إلى البرهان لا إلى التقليد الأعمى.

2. الأمر بالتدبر والتفكر:

لم يكتفِ الإسلام بتكريم العقل، بل أوجب استخدامه وتفعيله من خلال الأمر بالتدبر والتفكر في آيات الله في الكون وفي كتابه الكريم. فالله سبحانه وتعالى يقول: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟" (محمد: 24)، ويقول أيضًا: "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" (يونس: 101). هذا الأمر الصريح يدفع المسلم إلى التساؤل، البحث، التحليل، والاستنتاج، وهي عمليات عقلية أساسية لا يمكن أن تتم إلا بعقل سليم ومفعّل. التدبر والتفكر يثري العقل، ويوسع المدارك، ويقود إلى اليقين والإيمان الراسخ.

3. العقل مناط التكليف:

لقد جعل الله سبحانه وتعالى العقل هو شرط التكليف الشرعي، بمعنى أن الأحكام والتكاليف الشرعية لا توجه إلا للعاقل المدرك. فالمجنون، والصغير، والنائم، لا يقع عليهم التكليف، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق". هذا يؤكد أن العقل هو الأداة التي يتم بها إدراك الخطاب الشرعي، وفهمه، والامتثال له. فإذا فُقد العقل، فقدت القدرة على الإدراك والتمييز، وبالتالي زال أساس التكليف.

4. المحافظة على النفس تستلزم المحافظة على العقل:

إن كل أمر شرعي جاء بالمحافظة على النفس البشرية، يتضمن بالضرورة الأمر بالمحافظة على العقل، وذلك لأن العقل جزء لا يتجزأ من النفس الإنسانية، بل هو جوهرها الذي يميزها عن سائر المخلوقات. فالنفس بلا عقل تفقد إنسانيتها وتميزها. وبالتالي، فإن تحريم الاعتداء على النفس (كالقتل والاعتداء البدني) يشمل تحريم كل ما يؤثر سلبًا على العقل ووظائفه، سواء كان ذلك بالمسكرات، أو المخدرات، أو أي فعل يؤدي إلى إتلافه أو تغييبه. فالحفاظ على سلامة الجسد هو حفاظ على الوعاء الذي يحوي العقل.

ب- جانب العدم: حماية العقل من كل ما يضرّه

يُقصد بجانب العدم كل ما جاءت به الشريعة لتحريم ومنع كل ما من شأنه أن يضر بالعقل، أو يعطله، أو يؤثر على قدرته على التفكير السليم والتمييز. وهذا يشمل:

1. تحريم كل ما يضر بالعقل ويذهب به:

لقد حرّمت الشريعة الإسلامية كل ما من شأنه أن يُغيب العقل أو يُفقده وظيفته، وعلى رأس ذلك الخمر والمخدرات بأنواعها. فالخمر أم الخبائث التي تُذهب العقل، وتُفقد الإنسان رشده، وتجعله يتصرف تصرفات لا تليق به. وقد جاء تحريمها قاطعًا وواضحًا في القرآن والسنة. كما أن الشريعة تحرم كل ما يُشابه الخمر في إذهاب العقل أو تعطيله، مثل المخدرات الحديثة التي تفتك بالعقول وتدمر الأسر والمجتمعات. هذا التحريم الشديد يؤكد حرص الشريعة على بقاء العقل نقيًا، صافيًا، قادرًا على أداء وظيفته الإدراكية بشكل كامل.

2. تحريم التقليد الأعمى والخرافات:

الشريعة الإسلامية تدعو إلى استخدام العقل والبرهان، وتحارب كل أشكال التقليد الأعمى والخرافات التي تعطل العقل وتمنعه من التفكير المستقل. فالقرآن الكريم يذم الذين يتبعون آباءهم بغير دليل، ويصفهم بأنهم لا يعقلون: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون" (البقرة: 170). هذا التحريم للتقليد الأعمى هو حماية للعقل من الجمود والتخلف، وتشجيع له على البحث عن الحقيقة بالدليل والبرهان.

3. النهي عن الجهل والتخلف الفكري:

الإسلام دين يدعو إلى العلم والمعرفة، ويحارب الجهل بشتى صوره. فالجهل يؤدي إلى تعطيل العقل، ويجعل الإنسان فريسة للخرافات والأوهام. ولذلك، كان أول أمر في القرآن الكريم: "اقرأ"، دلالة على أهمية العلم والقراءة. والنهي عن الجهل هو حماية للعقل من الكسل الفكري والضمور، وتشجيع له على التطور والارتقاء المستمر.

خلاصة:

بهذه الجوانب المتكاملة، تسعى الشريعة الإسلامية إلى ضمان بقاء العقل سليمًا، نقيًا، فعالًا، قادرًا على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، وأن يكون أداة للبناء والإصلاح في الأرض.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال