المنهج التداولي.. الخطاب الأدبي المدروس بأنماطه الثلاثة: السرد والوصف والحوار يتحول إلى متتاليات حجاجيّة منتظمة في أقيسة حجاجيّة



المنهج التداولي:

ليتأمّل القارىء قول ابن جنّي في الخصائص: "اعلم أنّ أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة، وكذلك عامّة الأفعال نحو قام زيد وقعد عمر وانطلق بشر وجاء الصيف.
فقولك قام زيد معناه كان منه القيام وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي، الكائن من كلّ من وجد منه القيام، ومعلوم أنّه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت ولا في مئة ألف سنة مضاعفة القيام كلّه الداخل تحت الوهم، هذا مجال عند كلّ ذي لبّ، فإذا كان ذلك علمت أنّ قام زيد مجاز لا حقيقة وإنّما هو وضع الكلّ موضع البعض للاتّساع و المبالغة و تشبيه القليل بالكثير" (الخصائص).

اللغة فعل اجتماعي:

يجدر بالدارس قبل أن ينظر في مجال انفتاح الدرس الأدبي على المراجع التداولية أن يحدّد دلالة هذا المفهوم الرائج استعماله بين المتخصّصين في هذه الأيّام.
إنّ الخطاب العلمي العربي يستعمل عبارة التداوليّة منذ عقدين تقريبا، ولكنّ نظائرها في اللغات العالميّة تستخدم في الدرس الأدبي وفي تحليل الخطاب وفي الدرس النحوي وفي علوم الدلالة منذ أكثر من ثمانية عقود (الفرنسية ِapproche pragmatique والأنجليزية pragmatic approach.
و العبارة مصدر صناعي من تداول الكلام تبادله، ومن هذا المعنى اللغوي الأوّل جاءت دلالة الاشتقاق الاصطلاحي، فاللغة في التصوّر البنيوي عند سوسير وتلاميذه جهاز أو مؤسّسة مثاليّة لم تدرس في مقامات التلفظ بها، ولم يهتم ّ اللسانيون البنيويون بالأبعاد الإنجازيّة  للغة أي باللّغة بما هي فعل اجتماعي وإنشاء وتواصل وتخاطب.

الانفتاح على البلاغة التداوليّة:

وقد جاءت الأفكار التداوليّة في مدرسة أكسفورد وعند إيميل بنفنيست وسورل وعند سائر علماء اللغة الاجتماعيين وسائر المناهضين للبنيوية، لتؤسّس مجتمعة أهمّ مقوّمات المنهج التداولي الذي ينتقل فيه الاهتمام من المتكلّم والمخاطب إلى المتخاطب، ومن الجملة المجرّدة إلى القول والخطاب بما هو حامل لخصائص المقام والتلفّظ ومن الإخبار إلى الإنشاء وإلى الضمني والمسكوت عنه.
وقد استند  التداوليون أوّلا إلى التراث الأرسطي فأرجعوا إليه ما كان يتّسم به من انفتاح على البلاغة التداوليّة أي البلاغة التي لا تهتمّ بالعبارة والأسلوب فقط بل تهتمّ كذلك بخطط القول وبالمواضع والحجج و القياس الخطابي وغير ذلك من مستويات الخطاب في بعده التداولي الحيّ.
وطبّق المنهج التداولي على أنواع كثيرة من النصوص الأدبيّة والفكريّة، ولكنّ نتائجه الإجرائية كانت أكثر ثراء حين طبّق على الأجناس الخطابيّة والمراسلات وعامّة الأنواع الحواريّة والشعر الاجتماعي ذي الصبغة الإقناعية والحكمية.

تداوليّة الأجناس الأدبيّة:

أمّا استفادة دارسي الأدب العربي من المنهج التداولي فهي محدودة لا محالة نظرا إلى انصراف الدارسين عن الاهتمام بتداوليّة الأجناس الأدبيّة، ولكن المسالك البحثيّة التي تفتحها هذه المراجع تبدو في تقديرنا ذات قيمة علميّة عالية، وقد أعاد الباحثون في لغة الرواية من الناحية التداولية النظر في صلة المجاز والتخييل بالأجناس الأدبيّة ومدى نصيبها منه في هذا الجنس الأدبي، وشكّكوا في قيمة  المقولة القديمة التي تزعم أنّ الأساليب المجازيّة هي المقوّم المميّز للشعر من النثر.

السرد والوصف والحوار:

ومن الدراسات الممكن قبولها نماذج تمثّل استفادة الدرس الأدبي من منهج التداولية نذكر دراسة الباحث عبد الله صولة بعنوان: كتاب الأياّم لطه حسين خطابا حجاجيا فقد أقامه صاحبه على قراءة القصّة بما هي أطروحة حجاجيّة أراد بها طه حسين إقناع أبناء جيله بقدرته على تحدّي الصعاب، وإلى حملهم على الانخراط معه في الاعتقاد في أنّ قيمة التعليم هي القيمة العليا التي مكّنته من الارتقاء اجتماعيا.
واللافت للنظر في هذه الدراسة وفيما يشبهها من البحوث التي تناولت الأدب من وجهة نظر المنهج الحجاجي أنّ الخطاب الأدبي المدروس بأنماطه الثلاثة: السرد والوصف والحوار يتحوّل إلى متتاليات حجاجيّة منتظمة في أقيسة حجاجيّة أي في مقدّمات ونتائج بعضها مذكور وبعضها مضمر.

الروابط المنطقيّة والعوامل الحجاجية:

ويعامل النصّ الأدبي في هذا المنهج بما هو جملة من العلاقات القائمة بين الأقوال أو بالأحرى بين الأعمال القوليّة أو المقدّمات والنتائج الحجاجيّة التي تقتضي دراستها النظر في مظاهر انسجام النصّ وتماسكه من جهة استعمال الروابط المنطقيّة والعوامل الحجاجية.
ويعمل التحليل الحجاجي إلى إبراز الأطروحة التي ينهض عليها الخطاب وعلى دراسة الروابط والعوامل الحجاجية وطرائق بناء الأقوال واستخدام التوجيه الحجاجي وما بتطلّبه من أدوات حصر وتوكيد وقصر وشرط وتبرير وغيرها ممّا لا يمكن اسستقصاؤه بغير هذا المنهج.

وظائف المنهج التداولي:

إنّ المنهج التداولي يعيد النظر أوّلا في وظائف اللغة، وينظر إليها نظرة تجاوز التقسيم البنيوي الذي وضع أسسه ريمون جاكبسون وهو ينهض على ستّ وظائف:
  • الوظيفة الإخباريّة (الإخبار).
  • الوظيفة المرجعيّة (اللغة تنقل المرجع و تتحدّث عن الأشياء في غيابها فتعوّضها).
  • الوظيفة الماورلغويّة أو الانعكاسيّة (اللغة تتحدّث عن ذاتها فهي أداة وموضوع "علوم اللغة").
  • الوظيفة التعبيرية (اللغة تعبّر عن الأحاسيس والانفعالات و العواطف).
  • الوظيفة التنبيهيّة (اللغة تنبّه إلى اتّصال التواصل و التفاعل بين المتخاطبين "النداء - عبارات التنبيه مثل تسمعني.. أفهمتني ..؟").
  • الوظيفة الأدبيّة أو الشعريّة.

تجديد البحث في وظائف اللغة:

فقد أعاد الفكر التداولي النظر في هذه الوظائف، وكان لجهود إيميل بنفينيست دور حاسم في تجديد البحث في وظائف اللغة فكان البعد الإنشائي والإنجازي للّغة موضوع التعديل والتنسيب في تعريف الوظيفة الأولى: إنّ اللغة في هذا المستوى لا تخبر فحسب بل إنّها تنجز أعمالا لغويّة للتعبير عن بعض الأعمال باستعمال المسكوت عنه والضمني وغيرهما من أشكال التواصل، فاللغة في تعريف أوزولد ديكرو (Oswald Ducrot) لا تستعمل الأقوال بشكل يدلّ على المعنى مباشرة و إنّما تنزع اللغة إلى إخفاء الدلالات وتمريرها باستعمال المقتضيات والمتضمّنات.
وإنّ هذا التعريف الجديد للوظائف التواصليّة للغة هو المدخل الرئيس إلى قراءة الخطاب الأدبي قراءة تداوليّة.
وإذا كان تعريف اللغة بكونها إنجازا مدخلا مهمّا إلى قراءة الأدب تداوليّا فإنّ الانتقال من الاهتمام بالجملة إلى الاهتمام بالقول لا يقلّ تأثيرا في مناهج الدراسة الأدبية.

تأصيل المنهج التداولي:

وفي هذا السياق كان كذلك لبنفينيت دور هامّ إذ نراه ينتقل باللغة من نظام علامات وجمل مجرّدة من سياقها التلفّظي إلى أقوال منجزة حاملة آثار التخاطب والتلفّظ أو آثار المتكلّم ومقامات القول، فاللغة في تعريف علماء لسانيات التلفّظ أداة تواصل تتجسّم في الخطاب من خلال  نظام من الأعمال القولية التي تتطوّر بدورها وتتفرّع إلى أجناس قوليّة عامّة وأجناس أدبيّة بوجه خاصّ.
ولا يخفى أنّ "التمييز بين الجملة باعتبارها شكلا نظريا مجرّدا والجملة باعتبارها صيغة منجزة أنجزها متكلّم في سياق معيّن" هو المسلك الذي سيمهّد لظهور الدراسات الأدبيّة التداوليّة.
 إنّ المزاوجة بين قراءة الخطاب التراثي في مختلف علوم العربيّة والحاصل المعرفي الحديث في مجال الحجاج يمكن أن يفضي بالدرس الأدبي العربي إلى الإسهام في تأصيل المنهج التداولي واستغلاله في قراءة الخطابات الأدبيّة ذات القيمة التداوليّة.