نباح الكلاب لهداية الضيف عند الجاهليين.. كيفية تصرف السائر في الصحراء ليلا إذا ضل الطريق



نباح الكلاب لهداية الضيف عند الجاهليين:

نبح الكلاب وسيلة لتدل الغرباء على الطريق إلى الأجواد المضيفين في الصحراء. فإذا لم يستطع الإنسان أن يرى نار الأجواد، ولم يعرف الطريق إليهم فإنه كان يقلد نبح الكلاب. بحيث أن كلاب الأجواد تبدأ بنباحها، وعندئذ يستطيع الغريب أن يتبع النبح لإيجاد مأوى. فهذا المتلمس الضبعي يصف لنا هذه الحالة في طريقه تجسيمية، قائلا:
ومستنبح تستكشف الـريح  ثوبه + ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه + لينبـح كلـب او ليـوقظ نائم
فجاوبه مستسمع الصوت للنـدى + له عند إتيان  المهبين  مطعـم
يكاد إذا ما أبصـر الضيف مقبلا + يكلمه من حبـه وهـو  أعجم

ومعقر الأزدي يعرض مشهد الضيف الذي أضناه السرى، وضل في جوف الصحراء، يعاني بردها وريحها، ويخشى أشباحها، وتفزعه أهوالها، وتوزع حالته النفسية بين صحوة وغفلة، فإذا ما صحا من غفلته ألحت على ذاكرته فكرة المستنبح ليستنبح الكلاب لترد عليه كلاب الشاعر المضيف، لعله يجد لديه مقرا، ومن خيراته قرى، وحين يدرك الشاعر أن هناك طارئا يفزع الى ناره، فيوقدها مسرعا، وعلى ضوئها يهتدي الساري، ويبدو الشاعر ملهوفا إلى لقاء ضيفه. ويسأله ليطمئنه على أخباره، ثم يختار الشاعر من إبله أفضلها وأكرمها، وأعلاها سناما، فيعقرها بسيفه، وإذا الابل تتفرق فزعة من هول ما تراه من مشهد السيف.. وقد راح السيف يقطر دما والناقة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. وينتهي إلى مشهد اللحم والقدر التي تطبخ فيها..

واستمع إلى صوت الشاعر، وهو يزهو بحسن ما صنع:
ومستنبح تهـوي مساقـط رأسـه + إلى كل شخص فهو للسمع أصور
يصفقه أنف مـن الريـح بـارد + ونكباء ليل من جمادى وصرصر
حضأت له ناري فأبصر ضوءها + وما كان لولا حضأة النـار يبصر
دعته بغير اسم: هلم إلـى القرى + فأسرى يبوع الأرض والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت مرحبـا + هلم وللصالين  بالنـار أبشـروا
فجاء ومحمـود القـرى يستفـزه + إليها وداعي الليل بالصبح يضفـر
وقمت ونصل السيف والبرك هاجد + بها زره والموت في السيف ينظـر

وتطالعنا صورة طارق الليل في شعر عمرو بن الأهتم، أيضا، الذي يعد نموذجا فذا في استقباله ضيوف الليل، والترحيب بهم، والقيام بواجب الضيافة، وقال بأسلوب راق مؤثر:
ومستنبح بعـد الهـدوء دعوته + وقد حان من نجم الشتاء خفوق
يعالج عرنينـا من الليل باردا + تلـف ريـاح ثوبـه وبـروق
تألق  في عين من  المزن وادق + له هيدب داني السحـاب دفوق
أضفت  فلم أفحش عليه ولم أقل + لأحرمه: إن المكـان مضيق
فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا + فهذا صبوح راهـن وصديق
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت + مقاحيد كوم كالمجادل روق
وقام إليهـا الجازران فأوفـدا + يطيران عنها الجلد وهي تفوق
فجر إلينا ضرعها وسنامها + وأزهـر يحبـو للقيـام عتيق
فبات لنا منها وللضيف موهنا + شواء سمين زاهـق وغبوق
وبات له دون الصبا وهي قرة + لحاف ومصقول الكساء رقيق
وكل كريم يتّقي الذم بالقرى + وللخير بين الصالحين طريـق

فهذه الأبيات تصور لنا كيف كان السائر في الصحراء ليلا يتصرف إذا ضل الطريق.. لقد كان ينبح كما تنبح الكلاب، لتجيبه بنباحها، فيعرف مكانها، وهي لا تكون إلا مع أصحابها، فينزل عليهم ضيفا. ويقص علينا الشاعر كيف كان العربي يعامل هذا النزيل.. لقد كان صاحب البيت يقابله بالبشاشة والترحاب  وينزله منه منزلا جميلا، كأنه يعيش في بيته، وبين أهله وعشيرته، ويذبح له أكرم إبله، ويهيئ لضيفه طعاما شهيا.. وإذا أراد النوم أعد له فراشا دافئا، وجهز له ما يقدم في الصباح وفي المساء من طعام وشراب، ويختتم هذه اللوحة بحض الناس على فعل الخير .