تأثير الغناء على موسيقى الشعر العربي: رحلة التجديد العروضي والقوافي من العصر الأموي إلى العباسي واكتشاف البحور المهملة

تأثير الغناء والتجديد العروضي والقوافي في الشعر العربي: من العصر الأموي إلى العباسي

لقد شهد الشعر العربي، منذ العصر الأموي وحتى العصر العباسي، تحولات عميقة ومتنامية في بنيته الموسيقية والعروضية، مدفوعًا بشكل رئيسي بشيوع الغناء وتفاعل الشعراء مع متطلبات الأداء الموسيقي. لم يقتصر الأمر على مجرد التلحين، بل امتد ليشمل تعديلات في الأوزان والقوافي، وحتى اكتشاف بحور شعرية جديدة، مما عكس حيوية الإبداع الشعري وتأثره بالبيئة الفنية السائدة.

موسيقى الشعر في العصر الأموي: استجابة لمتطلبات الغناء

في العصر الأموي، كان لانتشار الغناء أثرٌ بالغٌ ومباشرٌ في موسيقى الشعر وألحانه. فمع تزايد الطلب على الأشعار المغناة، مال الشعراء بشكل ملحوظ إلى نظم المقطوعات القصيرة، خاصة في غرض الغزل الذي كان يحظى بشعبية كبيرة. هذه المقطوعات كانت أكثر ملاءمة للتعبير عن المشاعر العاطفية الخفيفة وتسهيل تلحينها.

لم يكتفِ الشعراء بقصر المقطوعات، بل عمدوا إلى تعديل الأوزان الشعرية نفسها. فغالبًا ما تحولوا عن نظم الأوزان الطويلة والمعقدة إلى الأوزان الخفيفة والبسيطة. هذه الأوزان كانت أسهل في التلحين وأكثر سلاسة في الأداء الغنائي.

وحتى عندما ألموا بالأوزان الطويلة، فإنهم غالبًا ما كانوا يُجزّئونها، أي يُقللون من عدد تفعيلاتها أو يُكثرون من الزحافات (الخروق) فيها. الزحافات هي تغييرات تطرأ على التفعيلة في العروض، تؤدي إلى حذف بعض أجزائها أو تسكين متحركها، مما يجعل الوزن أخف وأكثر مرونة للتلحين. هذا الإكثار من الزحافات لم يكن عشوائيًا، بل كان استجابة مباشرة لرغبة المغنين والمغنيات في إدخال تنويعات لحنية مختلفة. وقد وصل الأمر إلى حد أن هذا التعديل المستمر في الأفعال أدى إلى اكتشاف وزن شعري جديد هو المجتث، وينسب إلى الوليد بن يزيد (أحد خلفاء بني أمية) استكشافه ونظم بعض المقطوعات فيه.

التوسع العروضي في العصر العباسي: اكتشاف بحور جديدة وتنوع الأغراض

شهد العصر العباسي استمرارًا وتوسعًا في هذه الملاءمات الموسيقية العروضية مع الغناء، بل وتجاوزها إلى آفاق أوسع. فمع ازدهار الحياة الثقافية والفنية، أصبح هناك تخصص في أوزان الشعر حسب أغراضه:
  • القصيدة الطويلة: كادت تختص بالشعر الرسمي، مثل المديح والرثاء. هذه الأغراض كانت تتطلب بناءً شعريًا متماسكًا ووزنًا رصينًا يعكس جدية الموضوع وأهميته.
  • المقطوعات القصيرة: شاعت بشكل كبير في أغراض متنوعة مثل الغزل، الهجاء، المجون، الزهد، والحكم. هذه الأغراض كانت تتناسب مع المقطوعات التي تُعبر عن فكرة مركزية أو شعور واحد بطريقة مكثفة ومباشرة.

ولم يكتفِ الشعراء العباسيون بذلك، بل حاولوا النفوذ إلى أوزان جديدة، مدفوعين بروح التجديد والتجريب. وقد أثمرت هذه المحاولات عن اكتشاف وزنين جديدين سجلهما الخليل بن أحمد الفراهيدي لاحقًا عندما وضع نظرية العروض الشهيرة وهما:
  • وزن المضارع.
  • وزن المقتضب.

كما اكتشف الشاعر العباسي أيضًا وزنًا ثالثًا هو المتدارك أو الخبب. ويُقال إن الخليل لم يُسجل هذا الوزن في دوائره العروضية، وإنما قام بتسجيله تلميذه الأخفش. هذا يُظهر أن عملية اكتشاف الأوزان لم تتوقف عند الخليل، بل استمرت بعده.

ويرى الدكتور شوقي ضيف أن الخليل بن أحمد لم يضع دوائره العروضية بهدف حصر الأوزان المستعملة فقط، بل وضع خمس دوائر تُحصي الأوزان التي استخدمتها العرب، بالإضافة إلى أوزان أخرى "مهملة" لم تستخدمها في أشعارها. وكان الهدف من إحصاء هذه الأوزان المهملة هو تمكين الشاعر العباسي من النفاذ إليها واستكشافها، ومن ثم التجديد في أوزان وبحور الشعر.

ومن أوائل من استغلوا هذه الفرصة كان تلميذ الخليل، عبد الله بن هارون بن السميدع البصري. فقد عُرف عنه نظمه لأوزان "غريبة" من العروض في شعره. وقد تبعه في ذلك الشاعر رزين العروضي، الذي أتى ببدائع شعرية في هذا المجال. ومن حجته المشهورة قصيدته في مدح الحسن بن سهل (وزير المأمون) التي تبدأ بـ:
قربوا جمالهم للرحيل -- غدوة أحبتك الاقربوك
حلفوك ثم مضوا مدجلين -- مفردا بهمك ما ودعوك
هذه القصيدة، كما يشير النص، تجري على وزن من أوزان الخليل المهملة، وهو عكس وزن المنسرح (مفعولات مستفعلن فاعلن).

كما أن الشاعر أبو العتاهية يُعد من أبرز الشعراء الذين نظموا على الأوزان المهملة المستنبطة من دوائر الخليل. فقد روى له ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" بيتين يوضحان ذلك:
للمنون دائرات يدرن صرفها -- هن ينتقين واحدا فواحدا
عتب ما للخيال خبريني ومالي -- لا أراه أتاني زائرا مذ ليالي
البيت الأول وزنه هو عكس البسيط، بينما البيت الثاني وزنه هو عكس المديد.

ملاحظة هامة:

على الرغم من هذه المحاولات، يجب الإشارة إلى أن هذه الأوزان المهملة التي استنبطت من دوائر الخليل لم تشع على ألسنة العباسيين بشكل واسع. يُفترض أنهم أحسوا بـ "نقص إتمامها وإيقاعاتها" مقارنة بالأوزان المستعملة والشائعة، مما قلل من انتشارها.

وينسب إلى هذا العصر أيضًا ظهور وزن شعبي خاص هو وزن المواليا. ويُروى أن سبب ظهوره يعود إلى منع الخليفة الرشيد الناس من رثاء البرامكة بعد نكبتهم. لكن جارية لجعفر بن يحيى البرمكي تحايلت على هذا المنع وبكت سيدها في أشعار نظمتها من هذا الوزن بالعامية، وكانت تختم كل مقطوعة بكلمة "مواليا"، ومن هنا جاء اسم الوزن.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال