العطاء في فكر جبران خليل جبران: رؤية فلسفية عميقة تتجاوز المادة إلى جوهر الذات ودوافع الروح

فلسفة جبران خليل جبران في العطاء كفعل حياة وشهادة على الوجود:

يتناول نص جبران خليل جبران "العطاء" مفهوم العطاء من زوايا متعددة، متجاوزًا الفهم المادي ليغوص في الأعماق الروحية والنفسية للفعل الإنساني. إنه دعوة للتفكير في جوهر العطاء، وما إذا كان مجرد إخراج للمال والثروة، أم أنه تجلٍّ لجزء من الذات، ينم عن غنى داخلي وسخاء روحي.


جوهر العطاء: ما وراء المادة:

يبدأ جبران بتحدي الفهم التقليدي للعطاء، مؤكدًا أن العطاء الحقيقي لا يقتصر على جزء يسير من الثروة المادية، بل يجب أن ينبع من الذات. فالثروة المادية هي مجرد "مادة فانية" نخشى فقدانها ونحرص على تخزينها خوفًا من المستقبل. وهنا يتساءل جبران ببراعة عن قيمة هذا الخوف، مشبهًا من يكدس ثروته بالكلب الذي يدفن العظام خوفًا من الغد، وكأن الخوف ذاته هو الحاجة التي لا تُروى، حتى وإن كانت بئر الظمآن مليئة. هذا التشبيه البليغ يوضح أن الحاجة الحقيقية ليست مادية دائمًا، بل قد تكون نفسية تتمثل في الخوف من الفقدان أو عدم الأمان، وهو عطش لا يرتوي بامتلاك المزيد.


دوافع العطاء وأنواعه:

يُصنف جبران الناس في عطائهم إلى فئات متنوعة، كاشفًا عن الدوافع الكامنة وراء هذا الفعل:

  • عطاء الشهرة: يذكر جبران أولئك الذين يعطون "قليلًا من الكثير عندهم" بدافع الشهرة والرغبة في المديح. هذا العطاء، وإن بدا سخيًا، إلا أن "رغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم". فالدوافع النقية هي أساس القيمة الحقيقية للعطاء.
  • عطاء البذل الكامل: في المقابل، يصف فئة "يملكون قليلًا ويعطونه بأسره". هؤلاء هم المؤمنون بالحياة وسخائها، الذين لا تفرغ صناديقهم لأنهم يعطون بثقة في وفرة الحياة. هذا النوع من العطاء ينبع من إيمان عميق بأن العطاء لا يُنقص، بل يبارك ويزيد.
  • عطاء المشاعر المتنوعة: يميز جبران بين من يعطون بفرح، حيث يكون فرحهم هو المكافأة الحقيقية، ومن يعطون بألم، واصفًا ألمهم هذا بأنه "معمودية لهم"، أي تطهير وتزكية.
  • العطاء النقي المتجرد: يصل جبران إلى أرقى أنواع العطاء، وهو عطاء الذين "يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم ولا يتطلبون فرحًا ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم". هؤلاء يعطون "مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي". هذا العطاء هو تجلٍ للإلوهية على الأرض، فـ"بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض". إنه عطاء فطري، غير مشروط، لا يبحث عن مقابل أو اعتراف.

جمال العطاء الذي لا يُسأل:

يؤكد جبران أن الأجمل من العطاء لمن يسأل هو العطاء لمن لا يسأل وأنت تعرف حاجته. هذا المستوى من العطاء يتجاوز مجرد الاستجابة لطلب، ليعكس بصيرة وحكمة وقدرة على رؤية الحاجة قبل أن تُعلن. ففرح المعطي في هذه الحالة لا يقتصر على فعل العطاء نفسه، بل يتسع ليشمل "سعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه". هنا، يصبح البحث عن المستحقين للعطاء متعة بحد ذاتها، تفوق متعة العطاء.


العطاء كفصل من فصول الحياة:

يتساءل جبران بحدة: "وهل في ثروتك شيء تقدر أن تستبقيه لنفسك؟" ليجيب بأن كل ما نملكه زائل لا محالة. لذا، يحث على العطاء في الحاضر، "ليكون فصل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك". هذه الفكرة تدفعنا للتفكير في أن العطاء ليس مجرد إحسان، بل هو جزء لا يتجزأ من تجربتنا الإنسانية، يجب أن نعيشه ونستمتع به بينما نحن أحياء، لا أن نؤجله إلى ما بعد الممات.


العطاء ليس مشروطًا بالاستحقاق:

يُفنّد جبران مقولة "أحب أن أعطي ولكن المستحقين فقط"، مستشهدًا بالطبيعة. فالأشجار والقطعان لا تسأل عن استحقاق من يأخذ منها، بل تعطي لتستمر حياتها؛ "فهي تعطي لكي تحيا لأنها إذا لم تعط عرضت حياتها للتهلكة". هنا، يؤكد جبران أن العطاء هو فعل وجودي، ضروري للحياة ذاتها. ويذهب أبعد من ذلك ليقول إن من استحق الحياة ذاتها، ومباهجها، فهو مستحق لكل شيء، حتى من "جدولك الصغير". فالتساؤل عن استحقاق الآخرين للعطاء يقلل من قيمة المعطي نفسه، ويجعل العطاء مشروطًا برؤية المعطي المحدودة لجدارة الآخر.

ويوبّخ جبران من يطلب من الناس أن "يمزقوا صدورهم ويحسروا القناع عن شهامتهم وعزة نفوسهم لكي ترى جدارتهم لعطائك عارية". إنه يدعو المعطي إلى التواضع والتأمل في ذاته أولًا، والتساؤل: "هل أنت جدير بأن تكون معطاء وآلة عطاء؟" فالحياة هي التي تعطي الحياة، والإنسان مجرد "شاهد بسيط" على هذا العطاء الكوني.


حرية المتقبّل ومسؤولية المعطي:

يختتم جبران رسالته بنصيحة ثمينة لمن يتلقون العطاء، طالبًا منهم ألا "يتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيديكم نيرًا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم". بل يجب أن تكون عطايا المعطي "أجنحة ترتفعون بها معه". هذا الجزء يؤكد على أهمية الحرية والكرامة للمتقبل، وعدم تحويل العطاء إلى دين ثقيل يثقل كاهل الطرفين. فالشك في كرم المحسن يعني الشك في كرم "أمة الأرض السخية وأبوه الرب الكريم". العطاء الحقيقي هو تحرير للطرفين، وليس قيدًا لأي منهما.

في الختام، يقدم جبران خليل جبران رؤية عميقة للعطاء، تتجاوز المعاملات المادية لتصل إلى أبعادها الإنسانية والروحية. إنه يدعونا إلى أن نرى العطاء كجزء أصيل من طبيعتنا، فعلًا ينبع من غنى داخلي، ويمنح الحياة لمن يعطي ولمن يتلقى.

أحدث أقدم

نموذج الاتصال