الجوانب التقنية لثقافة العولمة.. ثقافة أيديولوجية تتبنى مشروعا شاملا يسعى إلى الهيمنة على مقدرات الدول والشعوب

ثقافة العولمة بأذرعها التقنية الجبارة أحدثت فجوة رقمية هائلة بين دول الشمال ودول الجنوب وسعت إلى تهميش الثقافات؛ وإن لم تستطع استئصالها.

ولعل ما يبرز أمامنا من وسائل ثقافة العولمة في هذا المجال أنها تلجأ إلى الهيمنة المتدرجة مستغلة كل الإمكانيات الإعلامية والتقنية لديها، ومستفيدة من الجذب النفسي لما تفرضه أنماط السلوك التي تحدثها ثقافة العولمة، ما يعني أن العولمة أخذت تخلق الأنموذج الكوني المُفَضَّل على مقدار ما تنتجه الحياة الغربية عامة والأمريكية خاصة، وتقدمه للشعوب.

وهي ـ كذلك ـ تنتج تحديات أخرى جمّة على صعيد المصطلح والمفهوم واللغة والمعرفة... عامة، وهذا يدفع بالهوية الثقافية إلى الاستلاب، ثم التدمير؛ لأنها فقدت الوعاء الأصلي لها وهي اللغة التي تشكّل المفاهيم، والثقافة.

وإذا تجاوزنا هذا كلّه فإن لغة العولمة، وهي حالياً الإنكليزية، سوف تفرض تصورات أصحابها؛ فتغير كثيراً من القيم والمبادئ والعادات لأولئك المتعاملين مع وسائل التقنيات الحديثة (الحاسوب، الشابكة، الناسوخ، الفضائيات) وغير ذلك... أي إن ثقافة العولمة أصبحت تفرض على الشعوب لغتها وثقافتها وأفكارها وأدواتها وتجعلها شعوباً مستهلكة لكل ما تنتجه الدوائر الغربية، وتعمل على إقناعها بالثقافة الاستهلاكية بكل أشكالها وتجلياتها... فهي ثقافة أيديولوجية، تتبنى مشروعاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وفلسفياً يسعى إلى الهيمنة على مقدرات الدول والشعوب.

ولا مراء لدينا في أن أنماط الثقافة الاستهلاكية سوف تتجذر في نفوس الأفراد وحياة المجتمعات، وهي بدورها ستنتج قيماً اجتماعية جديدة تواكب تلك الأنماط، وتجعل الفرد المستهلك عبداً لها، ما ينتج عنه في نهاية المطاف تهديد صريح للهوية ذاتها.

وهذا كله يفرض على حياتنا وثقافتنا تحديات جمّة تنشأ ـ أولاً ـ من طبيعة الخوف على الهوية وخصائص ثقافتها، ـ وثانياً ـ من الدعوات الملحة للحفاظ عليها على الرغم من عجز الأدوات التي تملكها الثقافة الوطنية...
أحدث أقدم

نموذج الاتصال