حتى تنسجم العلاقة التواصلية بين الطرفين (الكاتب والقارئ)؛ فإن أي إبداع سردي لا يخلو من قدر من الخيال يتفاوت وفق اعتبارات شتى من طبيعة اللون الفني الذي يندرج تحته، أو المذهب الأدبي الذي ينتمي إليه، أو تبعا لطبيعة الموضوع المعالج، أو ميول السارد وتكوينه الشخصي.. خليط من الواقع والخيال إذا هو السرد.
فكيف كانت مظاهر هذا الخيال في سرد رحلة ابن بطوطة؟!
سؤال نلتمس بعضا من إجابته من خلال النص التالي؛ الذي يصور حال "ابن بطوطة" وما كابده من معاناة في رحلة سفر بحرية؛ حيث أورد كلاما عجيبا عما أسماه (طائر الرخ) الخرافي، مشيرا إلى نجاتهم منه بمعجزة من الله:
"فلما قاربنا بلاد طوالسي، تغيرت الريح، وأظلم الجو، وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس.
ثم دخلنا بحراً لا نعرفه.. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً لا نعرف في أي البحار نحن..
ولما كان اليوم الثالث والأربعين ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر بيننا وبينه نحو عشرين ميلا، والريح تحملنا صوبه، فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر، ولا يعهد في البحر جبل، وإذا اضطرتنا الريح إليه هلكنا، فلجأ الناس إلى التضرع والإخلاص، وجدَّدوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء ... وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر، فعجبنا من ذلك، ورأيتُ البحرية يبكون ويودع بعضهم بعضا، فقلتُ: ما شأنكم؟
فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلا هو الرخ وإن رآنا أهلكنا، وبيننا وبينه إذ ذاك أقل من عشرة أميال.
ثم إن الله تعالى منَّ علينا بريح طيبة صرفتنا عن صوبه، فلم نره ولا عرفنا حقيقة صورته".
[الرحلة، ط. صادر ص646، 647. وذلك تحت عنوان "ذكر الرُّخ"، والرُّخُ على ما يتضح طائر خرافي، ووصفه في كتب المعاجم: "طائرٌ كبيرٌ يَحمِل الكَرْكَدَّنَ، أو هو دابّة عَظيمة تَحمِل الفِيلَ على قَرْنِها].
يمثل هذا النص تجسيدا لوعي الرحالة بالفضاء المحيط به، وذلك في سبيل قيامه بعملية وصف لازمة وضرورية لاكتمال العملية السردية.
إنه كما نرى يصف الجو المحيط به عن وعي مزيف وملتبس بفعل ظروف كثيرة محيطة تتعلق في الأساس بافتقاد كثير من عناصر الرؤية وشروطها الفنية اللازمة لتحقق الوصف بمعناه الفني؛ إذ تفيدنا الممهدات النصية لهذه الحكاية –كما نرى- بجو مشوش من الأعاصير والرياح والظلمة، وصعوبة الرؤية، والضياع في عرض البحر، وهي كلها عناصر تفضي حتما إلى التباس الرؤية، وبالتالي تشوش عملية الوصف، وهو بالضبط ما وقع للراوي/الرحالة في وصفه للفضاء، وفى تخيله –ومَن معه- للرُّخ في صورة جبل، أو تخيله للجبل في صورة "الرُّخ".
إن هذا التشتت في الرؤية –بفعل المسافة- قد أتاح للعقل الباطن فرصة للتخيل والتوهم، ومن ثم برزت الرؤية الأسطورية متجلية في إحدى اختراعات العقل الجمعي بإحلال الخرافي "طائر الرُّخ" بديلا عن الواقعي "الجبل" بوصفه بديلا فرضه تشتت الرؤية بحكم عوامل كثيرة من بعد المسافة، وضعف الضوء، وظروف البحر القاسية العصيبة..
إن رؤية الرخ هنا كرؤية العفاريت التي يرتبط ظهورها –في المعتقدات الشعبية الشائعة- بالليل والظلام الشديد، وبكل ما يمكن أن يستغلق على الوعي والرؤية الصحيحة اليقينية، وبذلك فتصور الكائن الغريب (طائر الرُّخ) في المكان، هو أثر لجملة عناصر فيزيقية، وهي العوامل التي توفر جوا هو الأنسب لظهور تلك النوعية من الكائنات..
وفي النهاية فإن تلك التوهمات الأسطورية –إن صح هذا الوصف- هي تيمة خيالية تتضافر مع مجمل الحكي الواقعي.. وبتضافر العنصرين (الواقعي والمتخيل) تتعاظم النواتج الجمالية للسرد، ويزداد الحكي تألقا وإمتاعا.
التسميات
قصة